رابعة نورالدين وزير
مازالت الأزمة السودانية، تشهد متغيرات غير مستقرة، ترتبط بشكل أساسي بأطراف المعادلة، وطبيعة التغيرات التي تعجُّ بالساحة الدولية، والاتجاهات الإقليمية، والتيارات والقوى السياسية، والتي ارتبطت – بدايةً- برفض تحركات «البرهان»، مرورًا بالإعلان السياسي بين المكون «البرهان، وحمدوك»، وحتى طرح الوثيقة التوافقية، وجهود الوساطة؛ لإقامة حوار وطني بين جميع تلك المكونات، ولطالما ارتبطت ملامح التصعيد وعدم الاستقرار باستمرار التظاهرات، ورفض المشاركة في الحوارات، وجنوح الأطراف للضغط؛ من أجل تحقيق مطالبهم.
في هذا السياق، تبدو أطراف المعادلة جميعها تتعايش مع توازنات حرجة؛ حيث صعُب التوصل معها لاتفاقٍ مرضٍ، حتى الوقت الحالي، وعلى الرغم من أن رئيس المجلس السياسي يقوم بالعديد من التحركات؛ بغرض التهدئة ووقف التصعيد، ممثلة في «إلغاء حالة الطوارئ- الإفراج عن بعض المعتقلين- التأكيد على تسليم السلطة بعد التوافق للمكون المدني- الدعوة لحوار وطني يضم جميع الفئات»؛ ما دفع الولايات المتحدة لإعادة التدخل من أجل دعم الحوار الوطني، وتشجيع جميع الأطراف على المشاركة على مائدة الحوار؛ للتوصل لحلٍ بشأن الفترة الانتقالية، والوصول إلى حكومة مدنية ديمقراطية، وقد كان هذا التدخل عبْر وفدٍ أمريكي رفيع المستوى، في الفترة من «الخامس حتى التاسع من يونيو 2022».
يمثل وصول الوفد الأمريكي للخرطوم أهم الأحداث التي سيتم تناولها من حيث «الدوافع، وأجندة العمل، وأبرز المخرجات، ودلالة التوقيت»، مرورًا بقياس مدى إمكانية مساهمة هذه الخطوة بتحريك المياه الراكدة في السودان، وهذا ما سيتم تناوله خلال السطور التالية.
أولًا: سياق عودة السودان لدائرة اهتمام الولايات المتحدة
من المؤكد أن قائمة أولويات الدول قابلة دائمة للتغيير والتعديل، بحسب ما يطرأ على الساحة الدولية والإقليمية من متغيرات، وأيضًا وفقًا لاعتبارات المصلحة التي تفرض على كل دولة حاجة ماسة لتحركات بعينها، كذلك هو الحال بالنسبة لأجندة أولويات الإدارة الأمريكية الحالية، فبعد أن بدأت في الاتجاه نحو آسيا، ووضعت القارة الإفريقية والمنطقة العربية في مرتبة أقل، من حيث الأولوية؛ بدافع عدم الرغبة بالتورط في مزيدٍ من الكلفة العسكرية والاقتصادية، ولمواجهة منافسها القوى الصين، يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية أعادت النظر مرةً أُخرى في الشرق الأوسط، ولمرةٍ ثالثة تحاول التدخل لإيجاد حلٍّ للأزمة السودانية؛ لحضِّ الفرقاء على الجلوس للحوار؛ من أجل دعم المسار الديمقراطي والتنمية لاقتصادية للبلاد؛ مدفوعة بعدة أسباب:
– السودان فرصة لإدارة «بايدن»: حيث إن تدخل الإدارة الأمريكية لإيجاد حلٍّ للوضع الحالي في السودان، قد يمثل فرصةً حقيقيةً لإدارة «بايدن»؛ لدعم مبدئها، المتعلق بدعم التحول الديمقراطي، مستغلةً بذلك علاقاتها الطيبة مع كامل الأطراف.
– الأهمية الجيوستراتيجية للسودان: حيث إن السودان وإن لم يكن يرتبط بالمصالح الأمريكية للولايات المتحدة بشكل مباشر، إلا أنه جزءٌ من منطقة القرن الإفريقي أحد اهم المناطق إستراتيجيًّا بالنسبة للولايات المتحدة، وبالتالي، فالحفاظ على استقراره وأمنه هو جزءٌ من الحفاظ على استقرار وأمن القرن الإفريقي، حيث إن السودان دولة محادة لدول تعجُّ بالصراعات، والجماعات الإرهابية؛ لذا فأمن المنطقة يقلل النفقات الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة في المنطقة.
– مصالح روسيا في السودان: يمثل التقارب «الروسي – السوداني» أحد الدوافع التي عجَّلت من تحرك إدارة «بايدن»؛ لإيجاد حلٍّ للوضع في السودان، باحثةً عن دوْر أكبر، خاصةً بعد ترحيب السودان بإنشاء قاعدة عسكرية على أراضيها، بالإضافة إلى زيادة التغلغل الروسي لدول القارة ككل.
– صعود الدور الصيني: من المؤكد أن صعود الدور الصيني في القارة الإفريقية، والسودان كجزء منها، هو أحد الدوافع التي دفعت الإدارة الأمريكية؛ لمحاولة لعب دورٍ في سياق الأحداث في السودان.
ثانيًا: أجندة عمل الوفد الأمريكي في السودان
– بعد أن وصل الوفد الأمريكي، وعلى رأسه مساعد وزير الخارجية، كان لدى الوفد أجندة، تتمثل في خطة عمل للدفع بجهود الآلية الثلاثية؛ للخروج من الأزمة الحالية، وتتلخص أجندة الوفد، في الجلوس مع كافة الأطراف وإقناعهم بالمشاركة في الحوار الوطني السوداني، وهذا ما سار عليه الوضع، ففي البداية التقى أعضاء الوفد بـ«البرهان»، وأكد الطرفان على أهمية مشاركة جميع الفئات والتيارات في الحوار الوطني، كما ثمَّن الطرفان جهود الآلية الثلاثية في محاولة إنجاح عملية الحوار السياسي رغم الصعوبات، المتمثلة في رفض بعض الأحزاب المشاركة، وعلى رأسهم «قوى الحرية والتغيير- الحزب الشيوعي السوداني- حزب الأمة»، وبعد هذا اللقاء شدَّد «البرهان» في بيانٍ على أن نجاح الحوار السياسي ينطوي على مشاركة جميع التيارات.
– في اليوم التالي، قام أعضاء الوفد بزيارة «قوى الحرية والتغيير- وبعض الحركات المسلحة التي وقعَّت على اتفاق جوبا للسلام»؛ لدعم مشاركتهم في الحوار، ولكن رفضت «قوى الحرية والتغيير، والحزب الشيوعي» المشاركة؛ لعدة أسباب، منها؛ الإصرار على ضرورة «تسليم السلطة للمكوِّن المدني، محاسبة المتورطين في سوء الأوضاع في البلاد، إلغاء حالة الطوارئ بشكل فعلي، والإفراج عن كافة المعتقلين»، وعلى الرغم من أن المجلس السيادي – بالفعل- اتخذ خطوات – كما سبقت الإشارة- إلا ان ذلك لم يكن مُرْضيًا، بالإضافة إلى رفضهم المشاركة دون وجود خطة عمل، توضح أبرز الأهداف والإشكاليات التي يدور حولها الحوار، وبالتالي، رفضوا المشاركة في الحوار الوطني الذي تدعو له الآلية الثلاثية، وقد تبعهم في ذلك بعض القوى السياسية، مثل «حزب الأمة»، ولكن اللافت للنظر، هو انطلاق حوار وطني غير رسمي، بين «قوى الحرية والتغيير» وبين «المكون العسكري»، بعد جلسة الحوار التي أُقِيمت في الثامن من يونيو 2022.
– بعد لقاء «قوى الحرية والتغيير» ولقاء «البرهان»، التقى أعضاء الوفد بممثلي الآلية الثلاثية في السودان، وقد أشادوا بجهود الآلية الحثيثة؛ من أجل التوصل لتسويةٍ بشأن الأوضاع؛ لذا فقد تم التوافق حول انطلاق حوار وطني، في الثامن من يونيو 2022، وكانت الآلية الثلاثية بدأت العمل في مارس الماضي 2022، وفي أول مرحلة كانت تتشاور مع الأطراف المختلفة عن العملية، في سياق حوارات منفردة غير مباشرة.
ثالثًا: هل يمضي الحوار السوداني بمن حضر؟
برعاية أُممية وإفريقية، وفي غياب أطراف رئيسية معارضة، بينها «المجلس المركزي للحرية والتغيير، وحزب الأمة القومي، والحزب الشيوعي، ولجان المقاومة، وتيارات ثورية أُخرى» أعلنت مقاطعتها حضور الجلسة؛ اعتراضًا على مشاركة سياسيين مؤيدين لنظام «البشير»، بدأت المحادثات بجلسة افتتاحية بحضور الأجهزة الإعلامية، ثم دخلت الأطراف المختلفة «ممثلين عن مجلس السيادة- قوى التوافق الوطني» في اجتماعات مغلقة، تستمر جلساتها خلال اليوم، وتضمنت أجندة الحوار الوطني عدة موضوعات «ترتيب الأوضاع الدستورية في البلاد، وتحديد معايير اختيار رئيس الحكومة، وصياغة خطة محكمة لإدارة الانتخابات، وأمن المؤسسات» علاوةً على «صلاحيات رئيس الوزراء والحكومة، والمجلس التشريعي».
لا شك في أن المشاورات قد تمَّت بالفعل، بحضور الآلية الثلاثية والأطراف سالفة الذكر، إلا أنه لا يمكننا القول: إن الحوار السوداني يمضي بمن حضر؛ حيث إن «قوى الحرية والتغيير» تعتبر جزءًا أصيلًا من الشارع السوداني، كما أنها المسؤول الأساسي عن استمرار حالة التصعيد التي يعيشها السودان، وبالتالي، فإن تجاهلها هو خيارٌ غير مطروح، فهي طرفٌ أصيلٌ في المعادلة السياسية السودانية.
رابعًا: لماذا دعت «قوى الحرية والتغيير» لحوار غير مباشر مع «المكوِّن العسكري»؟
بعد أن رفضت «قوى الحرية والتغيير» المشاركة في الحوار الوطني، شهدت الساحة السياسية السودانية، تطورًا جديدًا، بوساطة «سعودية – أمريكية»، تمثل بلقاء ممثلين عن «قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي»، بوفدٍ من مجلس السيادة؛ لتبادل الأفكار، حول كيفية حل الأزمة السياسية الراهنة، وكذلك الوصول لعملية سياسية تؤدي إلى الانتقال الديمقراطي، وعقدت الجلسة في مقر السفارة السعودية.
خلال هذا الاجتماع، أكدت «قوى الحرية والتغيير» على مطالبها سالفة الذكر، وأكَّدت أن سبب رغبتها بالمشاركة في هذا الاجتماع، هو تعزيز دور المملكة العربية والولايات المتحدة في حلحلة الوضع، بالإضافة إلى تعزيز دور الشارع السوداني وقوى الثورة، وعزْل القوى ما دون ذلك من قوى، كما بررَّت «قوى الحرية» في نفس البيان، عدم مشاركتها في الحوار الذي دعت لها الآلية الثلاثية مرةً أُخرى، واعتبرت أن دعوة الآلية الثلاثية للحوار ما هي إلا محاولة لإغراق الحوار الوطني؛ حيث إنها دعت أطرافًا ليست لها صلة بالأزمة، «قوى تابعة لنظام البشير».
لا يمكننا أن ننكر أهمية هذا الحوار؛ من أجل تبادل الأفكار، ومحاولة الوصول إلى توافق حول الفترة الانتقالية وما بعدها، إلا أن هذا الحوار لا يغني عن الحوار الذي دعت له الآلية الثلاثية؛ حيث إن كل هذه التحركات تمثل جهودًا كبيرةً؛ لدعم الثقة بين الأطراف.
خامسًا: الصراع السوداني يقودنا إلى معادلة صفرية يصعُب معها إيجاد حل
إن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى صعوبة تحقيق تقدم حقيقي في الصراع السوداني، ربما يرجع إلى طريقة إدارة الأطراف الرئيسية لهذه الجهود، وفقًا لمعادلة صفرية، تقتضي بأن مكاسب طرف تمثل خسائر للطرف الآخر، وبالتالي، يصعُب مع ذلك، الوصول إلى تفاهم حول القضايا الرئيسية؛ ما يؤدي إلى شيوع حالةٍ من عدم الثقة بين هذه الأطراف، واتساع المسافة بين وجهات النظر، وهو ما يتطلب جهودًا أكبر؛ من أجل محاولة تقريبها؛ حيث إن الحوارات التي انطلقت على مدار الأشهر الفائتة، نهايةً بالحوار الأخير، تؤكد على أنه من الصعب العودة لمربع الشراكة بين أطراف الصراع السوداني، كما أكَّدت على تراجع ثقة الشارع السوداني في قدرتهم على إدارة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، في ظلِّ تمسُّك كل طرف بسياق معين للحل.
يمكن أن يكون السبب الآخر وراء تعثُّر الحوار، هو تعدُّد أطراف الأزمة؛ حيث إن الصراع لا يدور بين مكونين، على سبيل المثال «مكون عسكري، وآخر مدني» فقط، بل إن كل مكون ينطوي على تيارات وقوى، تتنوع بين مؤيد ومعارض داخل نفس المكون الواحد؛ ما يجعل تدخل أطراف خارجية ضرورةً تفرضها معطيات المشهد، بالإضافة إلا أن هذه الأطراف مع تعددها واختلاف دوافعها، تفرض نوعًا من القلق والحذر، حتى في حالة التوصل إلى وثيقة توافقية، فإن ذلك لا ينفي إمكانية التباعد مرةً أُخرى.
سادسًا: هل تشهد الأزمة السودانية انفراجة قريبًا؟
إن الأزمة السياسية في الوقت الحالي، تتطلب نوعًا من الوفاق السياسي؛ لاستكمال الفترة الانتقالية، وللتوصل إلى توافقٍ حول الهياكل اللازمة لإدارة أوضاع البلاد، فيما بعد الفترة الانتقالية، وهذا هو هدف الحوار الوطني الذي جرى عقده، 8 يونيو 2022، وما تلاه من لقاء «قوى الحرية والتغيير وأعضاء المجلس السيادي» في 10 يونيو 2022، يقودنا إلى سيناريوهات تخصُّ الوضع، يمكن تصنيفها كما يلي:
السيناريو الأول: نجاح الوصول إلى أرضٍ مشتركة
يقضي هذا السيناريو إلى إمكانية نجاح الآلية الثلاثية لأطراف الصراع السوداني، في التوصل إلى حل، ولعل قرار مجلس الأمن بتمديد مهمة البعثة لمدة عام آخر، تأكيد على استمرار الجهود الدولية؛ لدعم التوصل إلى حلٍّ بشأن الصراع السوداني، ولكن نجاح هذا السيناريو مرهون بحدوث توافق بين مختلف المكونات السياسية، وإعلاء مصلحة الوطن فوق المصالح الشخصية، وهذا السيناريو إن كان مرجحًا على المدى المتوسط أو الطويل، إلا أن تحققه لا ينفي إمكانية التباعد بين أطراف المعادلة السودانية، وفقًا للاعتبارات سابقة الذكر.
السيناريو الثاني: انسداد سياسي وفشل التوصل إلى حل
يذهب هذا السيناريو إلى فشل الجهود الدولية في التوفيق بين الفرقاء، واستمرار امتناع بعض التيارات السياسية عن حضور جلسات الحوار، وفي حالة تحقق هذا السيناريو، فمن الممكن أن يستمر تعليق عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي، وانسحاب الآلية الثلاثية، وتفاقم الوضع داخل السودان، واستمرار الاحتجاجات والتظاهرات، وهذا السيناريو وإن كان غير مرجح في ظلِّ عودة السودان إلى دائرة الاهتمام الدولي وجهود الوساطة الدولية والإقليمية، إلا أنه يظل مطروحًا.
السيناريو الثالث: استمرار حالة الجمود
في هذا السيناريو، يتوقع أن تستمر جهود الوساطة، في حين يستمر أطراف الصراع السوداني بالتمسُّك بوجهة نظرهم، أو التمسُّك بضرورة تحقيق جميع مطالبهم، قبل الجلوس على مائدة الحوار، ويتوقع أن يحدث هذا السيناريو – على الأقل- في المدى القصير، ثم يتحول المسار؛ ليسير في السيناريو الأول.
ختامًا: ما زال المشهد السوداني يعاني من حالة التعثُّر؛ بسبب تمسُّك الأطراف بوجهات نظرهم، وتبنِّي نظرية المعادلة الصفرية؛ لذا فلا يتوقع أن تفضي تحركات الوفد الأمريكي إلى نتائج إيجابية – على الأقل- خلال هذه الفترة، حيث إن التوصل إلى حلٍّ، يعتمد بشكلٍ أساسيٍ على قدْر المرونة الذي تتبناه الأطراف، ومقدار الثقة بينهم، ومدى حرصهم على الخروج بالبلاد من المأزق الحالي، وبالتالي، فمن المرجح، أن يطول أَمَدُ الصراع السوداني فترةً أُخرى، مع استمرار تولِّي المجلس السيادي لمهام إدارة البلاد، لحين وصول أطراف الصراع إلى توافق، حول ما بعد الفترة الانتقالية.