بقلم الكاتب عمّار ياسين – مُحامِ وباحث في دراسات السّلام والصّراع
استدعى غزو روسيا لأُوكرانيا والانتقال غير المُفاجئ من دائرة الصّراع الكامن (Latent Conflict) إلى الصّراع المفتوح (Open Conflict) تساؤلاتٍ عديدة، كان من بينها: ألم يَئنِ للصّراعات والحُروب أن تنتهي؟ ما ذنب المدنيين العُزّل لكي يهجروا منازلهم إمّا إلى نزوح أو لجوء؟ هل استعصت ظاهرة الصّراع الدُّولي على الوأد رغم الإمكانات الهائلة التي صارت بيد المجتمع الدُّولي في سبيل المُحافظة على الأمن والسِّلم الدُّوليين؟
وللإجابة عن تلك التساؤلات، علينا الاقتراب أكثر من ظاهرة الصّراع في ذاتها ومحاولة الوقوف على أبعادها الظاهرة والكامنة على حد سواء؛ فقد عُرِّف الصّراع بأنه: “عمليّة تضارب في الأهداف أو الأفكار أو الإجراءات، أو في تلبية حاجات الأفراد أو المُجتمعات ورغباتهم”[1] وبناءً على هذا المفهوم فإنّ النّزاع/الصّراع[2] أمرٌ حتميّ ونتيجة طبيعيّة للتفاعل الإنساني بين بنو البشر. وعلى ذلك يُمكن تصوُّر وجود جسر مُوصّل بالضّرورة لحالة صراعيّة ترد كاستجابة لضرب فأكثر من ضروب التّضارب السّتة على النّحو التّالي:
- التّضارب في منظومة الأهداف؛
- التّضارب في منظومة الأفكار والتوجُّهات؛
- التّضارب في الإجراءات المُتخذة من قِبل الأطراف؛
- التّضارب في تلبية حاجات الأفراد؛
- التّضارب في تلبية حاجات المُجتمعات؛
- التّضارب في تلبية رغبات الأفراد و/أو المُجتمعات.
تُعتبر سُداسيّة التّضارب المذكورة آنفاً أهم مُغذيات الظواهر أو الحالات الصّراعية على اختلاف أطرافها وفاعليها في شتّى البقاع؛ وبالنّظر في الحالة الصّراعية الجارية بين روسيا وأُوكرانيا حالياً نستطيع تلمُّس واستخلاص ما يلي:
أولاً: حدث تضارب في منظومة الأهداف بين كُل من روسيا وأوكرانيا؛ هدفت أوكرانيا إلى دخول حلف شمال الأطلسي “الناتو” رغم المعارضة الروسيّة بداعي الاحتماء من بطش مُحتمل، ورأت روسيا في المُقابل أن الهدف الرئيس من سعي أوكرانيا لدخول حلف الناتو هو إقحام القوات الأميركيّة على الحدود الأوكرانية- الروسيّة بذريعة الحفاظ على أمن واستقرار دولة عُضو بالحلف؛ باعتبار ما سيكون حال نجحت أُوكرانيا في الانضمام.[3]
ثانياً: حدث تضارب في الأفكار والتوجُّهات: بالنظر إلى تجاذبات الماضي القريب بين روسيا وأوكرانيا، واتهام الأُولى بدعم حركات انفصاليّة أوكرانية لزعزعة أمن واستقرار الأخيرة؛ وُجدت هُوّة كبيرة هُنا في توجُّهات كُل طرف، روسيا اعترفت مؤخراً بإقليمي دونيتسك ولوجانسك كجمهوريتين مستقلتين في شرق أوكرانيا، وهو ما استنكرته أُوكرانيا واعتبرته خرقاً لاتفاقية مينسك ببلاروسيا عام 2014[4]، استمر تضارب التوجُّهات سياسياً بامتياز حتى حوّلت روسيا مسارها وقامت بتصعيد مُفاجئ بدأت على إثره عمليّة اجتياح عسكري غير محدود المدى أو الهدف لمناطق مختلفة في ربوع أوكرانيا، حتى إنها قامت بعزل مُدن أوكرانية وطلب تسليم الجيش الأوكراني للسّلاح.
ثالثاً: حدث تضارب في الإجراءات المُتخذة من كلا الجانبين: سعت أُوكرانيا للتأكيد على جديتها في الانضمام لحلف الناتو مهما تكبّدت من خسائر في سبيل ذلك، وسعت روسيا في المقابل في الذّود عن مرماها (أو هكذا تظن!) وصولاً لحد الاجتياح والغزو الصّريح لأُوكرانيا؛ مُعتمدةً على ضعف الموقف الأميركي والذي يتبعه ضعفاً أُوروبياً بطبيعة الحال.
رابعاً: حدث تضارب في تلبية حاجات الأفراد: وفي حالتنا تلك، حاجة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحفاظ على الأمن القومي الرُّوسي بمفهومه الواسع؛ والذي يمتد، بحسب وجهة النظر الروسية، إلى خارج الحدود الروسيّة ليطال أيّ سياسات من شأنها التأثير المُباشر أو غير المُباشر على المصالح الروسيّة.[5] وفي المُقابل، حاجة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في الظّهور أمام شعبه بمظهر حامي الحمى[6] والسّاعي نحو الاستقلال الجاد والكامل عن النفوذ الروسي، وسُرعة الاحتماء بحلف شمال الأطلسي لكي يكون الحلف في لحظةٍ معينة، هو الحامي والضّامن لأمن وسلامة واستقرار الدولة الأُوكرانية بنص ميثاق الحلف.
خامساً: لم يحدث تضارب في تلبية حاجات المُجتمعات: وهذا يُحيل إلى عدم اشتراط تحقق كافة أركان قيام الحالة الصراعية، وإمكانية نشوبها بتوافر ركن واحد فأكثر من أركانها السّت. فلا يمكن القول بأن هناك ثمّة ضغط يُذكَر من المجتمع الرُّوسي للانجرار إلى هذا المستوى من التصعيد، وأمارة ذلك اندلاع العديد من التظاهرات في أنحاء متفرقة من روسيا تنديداً ببدء العملية العسكريّة وسط حملة واسعة من الاستيقاف والقبض من قِبل السُّلطات الروسية.
سادساً: حدث تضارب في تلبية رغبات الأفراد على وجه الخصوص لا المُجتمعات: كانت رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هي عدم تذرُّع حلف شمال الأطلسي بمحاولة دعم الدولة الأوكرانية والتواجد في أرضها لحماية ووحدة أراضيها، وذلك لقطع الطريق أمام أميركا، المُنافس الأشرس والسّد المنيع أمام الطّموح الروسي في استعادة أمجاد الماضي، في أداء أيّ دور مُستقبلي بمقربة من الحدود الروسيّة بسبب عضويتها في حلف شمال الأطلسي. وفي المُقابل استمرت رغبة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي الخروج من عباءة روسيا للأبد، والتوجُّه نحو حلفاء جُدد مهما كلّفه ذلك حياته أو وقوفه عاجزاً أمام القوة الغاشمة الروسية، من وجهة النظر الأُوكرانية.
استوفى الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني شرائطه الشّكليّة والموضوعيّة بوجود حالة مُركّبة من التّضارب في منظومتي الأهداف والتوجُّهات معاً، بحيث تحوّل من مُجرد أزمة كان من المُمكن أن تكون عابرة إلى صراع مُسلّح مُمتد؛ ويبقى أن نتساءل: هل تُحاول روسيا فعلاً اجتياح كييف والسيطرة على مقاليد الأُمور داخل أوكرانيا أم أنّها تُلوّح بذلك فقط؟ سنرى.
وللجمع بين النظرية والتطبيق في فهم ظاهرة الصّراع الدُّولي بالنّظر إلى ما تقدَّم من مُعطيات، يمكننا الوثوق في النتائج التالية:
أولاً: الظاهرة الصّراعيّة على اختلافها وتفاوت قُوى أطرافها وفاعليها بها قدر من المنطق، لا تبدأ من تلقاء نفسها ولا تفرض وجودها بل تُستدعَى في سياق معيّن بالنظر لتوفُّر بعض أو كُل ما تتطلّبه من مُغذيات قادرة على تحويلها من حالة ليس فيها سِلماً ولا صِراعاً (كما في العلاقة بين أوكرانيا وإثيوبيا على سبيل المثال، بالنظر للبعد المكاني وعدم وجود فرصة أمام تلاقي/تضارب أيّة مصالح بين البلدين) إلى حالة تُلقَى بها بذور الصّراع الكامن:
شكل (1): الصّراع الكامن
الصّراع الكامن في حقيقته تعبير عن حالة نجمت بتضافر سُلوكيات متجانسة (سلميّة) في ظل أهداف متضاربة (كما في العلاقة بين روسيا وأوكرانيا بدءً من اتفاقية مينسك 2014 التي ساهمت في تهدئة الأوضاع وحتى قبل الاعتراف الرُّوسي بإقليمي دونيتسك ولوجانسك كجهوريتين في الداخل الأُوكراني).
ثانياً: الظّاهرة الصّراعية بها قدر وافر من الحساسية، وتستطيع في أيّ لحظة لعب دور جديد بالنظر إلى توافر مُغذيات هذا الدور: وجدنا على سبيل المثال أن العلاقة بين أوكرانيا وروسيا فيما بين اتفاقية مينسك 2014 وما قبل الاعتراف الرُّوسي بإقليمي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليين في أُوكرانيا، ظلّت كامنة واتّسمت بالهدوء؛ إلا إنها ملكت في الوقت نفسه كُل مقوّمات الاشتعال في أيّ لحظة، ومن ثم تحوّلت من صراع كامن إلى صراع مفتوح:
شكل (2): الصّراع المفتوح
أمّا الصّراع المفتوح فهو تعبير عن حالة مُفاقمة، ناتجة عن عملية تضارب في الأهداف والسُّلوكيات معاً؛ بحيث يجنح أحد أو كُل أطراف الصّراع إلى التصعيد وصولاً لحد إعلان الحرب. ما حدث بدءً من إعلان روسيا الاعتراف بإقليمي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليين كجمهوريتين مستقلتين عن الدولة الأُوكرانية، في مُحاولة منها لدفع أُوكرانيا إلى عدم المُضيّ قُدُماً نحو بناء تحالفات ليس في صالح روسيا مثل الانضمام إلى حلف الناتو، ما حدث أخرج الحالة الصّراعية الرُّوسيّة-الأُوكرانية من دائرة الصّراع الكامن إلى دائرة الصّراع المفتوح كما في الشّكل (2)، بحيث بلغ التفاقم أقصاه ضرباً للجُذور (الأهداف غير المرئيّة أو غير المُعبَّر عنها) والسّطح (السُّلوكيات الظّاهرة) معاً.
ثالثاً: لعبت عمليّة بناء التّحالفات (Alliance) دور مؤجّجاً في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني، وذلك بخلاف ما تعارفت عليه الأدبيات المُعاصرة من إيجابية الدور الذي تلعبه التحالفات كقاعدة في العلاقات الدولية، فالتحالفات أساساً هي عبارة عن آلية لبناء قوة ردع عامة وخاصة، عامّة تجاه جميع الدول الأعضاء وغير الأعضاء في الحلف، وخاصّة تجاه دولة مُعينة يخشى الحلف أن تكون مصدر تهديد لأيّ من أعضائها. وهذا لم يحدث؛ لا أُوكرانيا استطاعت الانضمام لحلف الناتو ومن ثم الاحتماء فيه، بل لم يُسارع حلف الناتو لضمّها ومن ثم الحَلول كطرف في الحرب الجارية مخافة التوسُّع المُحتمل في العمليات العسكريّة بما يُهدّد الأمن والسّلم الدُّوليين. وفي المُقابل لم تتأنّى روسيا في خُطواتها حتّى أن الفاصل القصير للغاية بين اعترافها بإقليم دونيتسك ولوجانسك الانفصاليين وإعلانها الحرب على أوكرانيا؛ يُعد فاصل معدوم الأثر، لا هو استطاع تحقيق الأهداف المرجوّة من الاعتراف بالأقاليم الانفصالية، ولا هو أظهرها أمام المجتمع الدولي بمظهر المُضطّر لكي تبدأ عمليّة عسكريّة غير معروف مداها ولا أهدافها على وجه الدقّة.
هذا، وعلى الرغم من التكوين الدقيق للظّاهرة الصّراعية في النظرية والتطبيق على حد سواء، فإنها، في ذاتها، ظاهرة مؤقتة ومحدودة، ومن الممكن حلحلتها وتسويتها سواءً بطريق الإدارة أو الحل، أو في مرحلةٍ مُتقدمة بطريق تحويل مسار الصّراع (Conflict Transformation) شريطة تفتيت أسبابها ووجود إرادة جادة لدى الأطراف و/أو الفاعلين المؤثرين في الصّراع لإحلال السّلام وإنجاح عمليّة التدخّل البنّاء، وهو ما يوسّع من آفاق النّظر إلى الصّراع المُحتدم حالياً بين روسيا وأُوكرانيا باعتباره مُجرد حلقة ضمن حلقات أُخرى تأتِ بعد؛ بغض النّظر عن طبيعة المسار الذي ستسلكه تلك الحلقات.
[1] عمرو عبدالله وعمّار ياسين وآخرون، دليل المُصطلحات العربيّة في دراسات السّلام وحل النّزاعات. إصدار: جمعيّة الأمل العراقيّة، الطبعة الأُولى (2018) ص72.
[2] يُمكن مُلاحظة توجُّهين أو مدرستين رئيستين في التعامل مع هذا المصطلح في العالم العربي، إذ تميل المدرسة الأولى إلى استعمال مُصطلحي النزاع والصّراع تبادلياً من دون تمييز بينهما، ترجمةً لمفردة Conflict الإنجليزية، بينما تميل المدرسة الأُخرى إلى التمييز بينهما جُزءً من سلسلة أو طيف؛ لوصف المسار المحتمل لتفاقم النزاع، على النحو الآتي: اختلاف، خلاف، مُشكلة، شِجار، نزاع، صراع، أزمة، عُنف وحتّى حرب. والذي نراه أنَّ فهمنا واستعمالنا لأيٍّ من المصطلحين يجب أن يعتمد على السياق العام لكلِّ مُصطلح؛ والحساسيات المرتبطة به، وذلك في ضوء فهم المجتمع لأصل معنى كلمتي (نزع) و(صرع) والتقابل الدِّلالي بينهما والاستعمال الشائع لكُل منهما، مثل: (نزاع حُدودي) مُقابل (صراع وجودي) فضلاً عن غلبة الاعتبارات القانونيّة (نزاع) أو الاعتبارات السياسيّة (صراع).
[3] جدير بالذكر عدم انضمام أُوكرانيا لحلف شمال الأطلسي “الناتو” حتى يومنا هذا؛ في ظل سعيها الحثيث للانضمام والاستفادة من المادة الرابعة من ميثاقه والتي بموجبها يتشاور أعضاء الحلف حول طلب أيّ من الدول الأعضاء بشأن سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي أو أمن أيّ من تلك الدول؛ وذلك وسط مُطالبات صريحة من روسيا بالالتزام بعدم قبول أوكرانيا أبداً في الحلف، وهو ما لاقى رفضاً من أعضاء الناتو مؤكّدين على “سياسة الباب المفتوح” للحلف.
[4] اتفاقية سلام عُقدت بين كُل من روسيا وأوكرانيا لوقف القتال الدائر بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين الأوكران. انظُر: شرح وافي لاتفاقية مينسك وأسباب طفوها على السّطح مرة أُخرى: https://www.indiatimes.com/explainers/news/minsk-agreements-ukraine-crisis-562733.html
[5] Janusz Bugajski, Why Moscow Fears NATO? https://cepa.org/why-moscow-fears-nato/
[6] Oliver Pieper, Ukraine’s Volodymyr Zelenskyy: From Comedian to National Hero! https://www.dw.com/en/ukraines-volodymyr-zelenskyy-from-comedian-to-national-hero/a-60924507