إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة
بمناسبة أول قمة حضورية فى بكين بين الطرفين فى 7 ديسمبر، وهى الأولى منذ أكثر من أربع سنوات، بحث ممثلو الاتحاد الأوروبى والصين معالجة “الاختلالات فى التوازن والخلافات” بين الجانبين، فالصين أهم شريك تجارى للاتحاد الأوروبى، وفى ذلك السياق، قال الرئيس الصينى “إنه يجب على الصين والاتحاد الأوروبى أن لا يريا بعضهما كخصمين بسبب اختلاف الأنظمة، أو أن يحدا من التعاون بسبب التنافس، أو أن تحدث مواجهة بينهما بسبب الاختلافات، وأن الصين ترغب فى أن تجعل الاتحاد الأوروبى شريكًا اقتصاديًا وتجاريًا رئيسًا وشريكًا ذا أولوية فى التعاون فى مجال “التكنولوجيا”.
على الجانب الآخر، لا يمتلك الاتحاد الأوروبى نفس القدر من الهدوء، بل يرى أن هناك “أوضاع تحتاج إلى تصحيح”، فقد دعا “شارل ميشال” لعودة “الاستقرار” خلال خطابه فى غير موضع، من خلال علاقات تقوم على “مبادئ الشفافية والقدرة على التوقع والمعاملة بالمثل”، ويأتى ذلك التأهب لتعديل وإصلاح العلاقات بعدما سجلت المنطقة عجزًا تجاريًا بقيمة 426 مليار دولار مع الصين العام الماضى، وهو الأكبر على الإطلاق.
تأتى محاولة إعادة هيكلة العلاقات فى خضم مواجهة الاقتصاد الصينى أزمة الإسكان المتصاعدة، وهو ما قد يعنى سعى البلاد إلى زيادة الصادرات كمحرك للنمو، بما يحمل معه مزيد من التحديات لعلاقات الطرفين، وترى أليسيا جارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ فى بنك الاستثمار الفرنسى ناتيكسيس: “لا تستطيع الصين تقديم أى شيء لأوروبا لأنها مقيدة للغاية باقتصادها”.
الأجواء المحيطة بالزيارة
بعد شهور من توتر العلاقات، يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها توصلوا إلى فكرة مفادها أن تصعيد الأمور مع الصين حاليًا “ضرره أكبر من نفعه”، خاصة فى ضوء عدم وجود موقف غربى موحد تجاهها، بجانب مستجدات الصراع فى أوكرانيا والتساؤلات حول فعالية حجم المساعدات الغربية وحجم الاستفادة من استمرار القتال، وغياب رؤية واضحة لأفق إنهاء الصراع، لذا يبدو أن هناك مرحلة جديدة من التفاهمات بناء على خطوات عملية.
فتأتى القمة الصينية الأوروبية بعدما عقد الرئيس الأمريكى ونظيره الصينى قمة ثنائية فى 15 نوفمبر الماضى فى سان فرانسيسكو على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادى آسيا- المحيط الهادئ “آبيك”، وقد ناقشا عددًا من القضايا، بما فى ذلك: استئناف المحادثات العسكرية رفيعة المستوى بين الولايات المتحدة والصين، وعقد محادثات حكومية ثنائية بشأن الذكاء الاصطناعى، والعمل على مجموعة عمل حول التعاون بين البلدين فى مكافحة المخدرات.
وفى 17 نوفمبر، قال الرئيس الصينى لرئيس الوزراء اليابانى، على هامش قمة “آبيك”، إن على بلديهما “إدارة خلافاتهما بطريقة مناسبة”، وفى 18 نوفمبر، قال رئيس الوزراء الأسترالى “أنتونى ألبانيزي” إنه دعا رئيس الوزراء الصينى “لى تشيانغ” لزيارة أستراليا، فى وقت تشهد فيه علاقات البلدين تحسنًا، وزار ألبانيزى بكين مطلع نوفمبر الماضى، كما التقى الرئيس الصينى شى جينبينغ للمرة الثانية خلال شهر على هامش قمة (أبيك)، وفى نفس الشهر، اجتمع وزير الخارجية الصينى “وانغ يى” مع نظيريه من اليابان وكوريا الجنوبية فى مدينة بوسان
فى كوريا الجنوبية، لمناقشة الجهود المبذولة لاستئناف قمة قادة الدول الثلاث المتوقفة منذ فترة طويلة.
وتنتهز أوروبا – أن هناك تحولًا مهمًا يواجه الاقتصاد الصينى على خلفية ارتفاع الديون، التى تعمق من أزمة القطاع العقارى التى تمثل عقبة رئيسة أمام النهوض الاقتصادى- كفرصة يمكن من خلالها توسيع هامش المناورة وتفادى تحديات جديدة قد تخلقها تلك التغيرات فى الاقتصاد الصينى. وعلى الجانب الآخر، ألحقت حرب روسيا فى أوكرانيا وأزمة الطاقة الناتجة عنها ضربة قوية بالاقتصاد الأوروبى، لذا فإن تخفيف حدة التوترات مع الصين واستقرار العلاقات الاقتصادية له جاذبيته.
كذلك فإن المشهد فى أوكرانيا متقلب، فيرى مراقبون أن الرئيس الروسى مقتنع حاليًا بأن السياق الدولى أكثر ملاءمة له، فقد تعثر الهجوم الأوكرانى المضاد، والدعم غير المشروط الذى يقدمه الغرب بدأت تظهر عليه علامات الضعف، وفى الداخل الروسى تعافت عائدات النفط، كذلك فإن القيادة العسكرية الأمريكية محبطة فى شأن إخفاق الجيش الأوكرانى فى الهجوم المضاد، وهناك توتر أكبر يتعلق بالقيادة السياسية، حيث يدعم الجمهوريون قبيل انتخابات الرئاسة الأمريكية، وقف الدعم المطلق لأوكرانيا، فقد رفض مجلس الشيوخ الأمريكى مؤخرًا مشروع قانون، ينص على تقديم 50 مليار دولار من المساعدات الأمنية الجديدة لأوكرانيا، بالإضافة إلى أموال للمساعدات الإنسانية والاقتصادية لحكومة كييف، و14 مليار دولار لإسرائيل، وتضع تلك المتغيرات “أوروبا” فى تحدٍ مع الزمن ومع نفسها، بهدف تسيير تطورات الحرب كما تريد بأقل تكلفة مادية بعد قرار مجلس الشيوخ الأمريكى، ودون تقديم تنازلات لروسيا، من خلال استمالة الصين بعيدًا عن روسيا.
أوروبا تبحث عن الاستقلال
يرى مراقبون أن “قادة أمريكا والصين يتحدثون عن تفادى حرب باردة، لكنهم منخرطون بالفعل فى صراع كونى”، ومشكلة أوروبا أنها لا تريد اتباع السياسات الأمريكية كما هى، ولا تستطيع التخلى عن الحماية الأمريكية، وخاصة مع تنامى الخطر الروسى والصعود الصينى، ففى أبريل، زار ماكرون الصين وصحبته “أورسولا فون دير لاين”، وحظيت الزيارة بحفاوة صينية، وكان أهم ما فى الزيارة من حيث التصريحات هو حديث ماكرون عن “كتلة أوروبية مستقلة” وليست منحازة إلى واشنطن أو بكين، واشتملت على شق اقتصادى مهم، حيث تم توقيع عدد كبير من الاتفاقات الاقتصادية أكدت حرص الجانبين على تعزيز هذه العلاقات وعدم التجاوب مع الضغوط الأمريكية لمواجهة اقتصادية.
وما حققته الزيارة من صفقات وتجاوبها مع مساعى فرنسا لتقليص فجوة التبادل التجارى تحقق لها أهدافًا عديدة، أولها أنها تعزز من مصالحها وروابطها المشتركة بين البلدين، وتقوض محاولات واشنطن تقليل الاعتماد على العلاقات الاقتصادية بين الصين والغرب.
الصين كذلك أكبر شريك تجارى لألمانيا، ويعارض شولتز الجهود التى تقودها الولايات المتحدة من أجل “الانفصال” عن الصين، لكنه نبه فى الوقت نفسه إلى ضرورة تجنب الشركات الألمانية “الاعتماد على سلاسل التوريد من دولة واحدة” فى إشارة إلى أهمية بعض الصادرات الصينية، مثل المعادن الأرضية النادرة، بالنسبة لاقتصاد بلاده وغيرها من الدول الغربية.
ملفات التباحث
يبرز العجز التجارى الكبير والحرب فى أوكرانيا كأبرز ملفات التباحث، فالاتحاد الأوروبى يرى ضرورة وضع “حلولًا تفاوضية” تعالج هذا العجز التجارى الذى يصب فى صالح بكين، وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية إن الجانبين ناقشا الأسباب الجذرية لاختلال التوازن التجارى، من عدم الوصول إلى السوق الصينية والمعاملة التفضيلية للشركات الصينية، إلى القدرات الفائضة فى الإنتاج الصيني، مضيفة أنه تم إحراز “تقدم” بشأن استعداد الصين لتوضيح القيود المفروضة على تدفق البيانات عبر الحدود والتى أثرت على شركات الاتحاد الأوروبى العاملة هناك.
وبروكسل تعتقد أن أسباب العجز ترجع إلى حد كبير إلى “عدم وصول الشركات الأوروبية إلى السوق الصينية، والإعانات الخفية، وقضايا حماية الملكية الفكرية، وقد تفاقم هذا الوضع بسبب القرار الذى اتخذته العديد من البلدان ــ الولايات المتحدة واليابان والهند وكوريا الجنوبية ــ بالتخارج من المجالات التى تمتلك فيها الصين فائضًا فى الإنتاج (على سبيل المثال، تلك المرتبطة بتحول الطاقة، مثل الألواح الشمسية وطاقة الرياح) وإلى ضعف الطلب الداخلى
فى الصين، وهو ما فرض ضغوطًا متزايدة على سوق الاتحاد الأوروبى، إذ أن الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبى أكبر بثلاثة أضعاف من الصادرات الأوروبية إلى الصين.
وطلبت بروكسل من الصين معالجة هذه الطاقة الفائضة من خلال زيادة الطلب المحلى، وخفض أهداف الإنتاج والإعانات، ومنح شركات الاتحاد الأوروبى وصولًا أكبر إلى أسواقها، وقال المصدر إنه إذا لم يتم اتخاذ إجراء، فقد يضطر الاتحاد الأوروبى إلى “استخدام المزيد من الأدوات الدفاعية”.
ومن ناحية أخرى، حذر رئيس المجلس الأوروبى “شارل ميشال” الزعيم الصينى من التعامل الفورى مع “قائمة الشركات” المشاركة فى إمداد روسيا بالسلع ذات الاستخدام المزدوج وعددها 13 شركة مقرها الصين، مشيرًا إلى أن دول الاتحاد الأوروبى ستناقش قريبًا ما إذا كانت ستفرض عقوبات على هذه الكيانات، ويسعى الاتحاد إلى تشديد الرقابة عليها ولم توضح القراءة الصينية التى نشرتها وسائل الإعلام الرسمية كيف استجاب “شي” لهذه المخاوف.
كذلك حث الاتحاد الأوروبى الصين للعب دور أكثر إيجابية حيال التغيرات المناخية، خاصة وأن الصين مسؤولة عن 28% من انبعاثات غازات الدفيئة المسبّبة للاحترار، مقابل 7% للاتحاد الأوروبى.
نتائج الزيارة
لم تسفر القمة عن أى اختراقات كبيرة، كما وعكست تآكل الثقة بين الصين والاتحاد الأوروبى بسبب عدم الوفاء بوعود فتح أسواق الصين على نطاق أوسع أمام الشركات الأوروبية، وقد دعت “فون دير لاين” الاتحاد الأوروبى إلى “إزالة المخاطر” من الصين، من خلال تقليل الاعتماد على المواد الخام الحيوية التى تسيطر عليها الصين وتنويع سلاسل التوريد، كما تنظر الصين إلى أوروبا على أنها متأثرة على نطاق واسع بالولايات المتحدة، ولم تكن هناك أيضًا علامة على أن الاتحاد الأوروبى حقق أى تقدم فى إقناع الصين باستخدام نفوذها على روسيا بشكل أكبر لإنهاء الحرب الأوكرانية، وسبق القمة بيوم، أن أبلغت إيطاليا الصين بأنها لن تشارك بعد الآن فى مبادرة الحزام والطريق، وهو ما يؤشر إلى أن مناخ العلاقات يفتقر إلى الثقة والدفء.
ختامًا:
لا يمكن الحكم على مسار من خلال خطوة، فتلك القمة كخطوة لم تحقق ما أمل الأوروبيون فى تحقيقه، غير أنه ليس من مصلحة الصين التصادم أو توتر العلاقات مع شريك تجارى غاية فى الأهمية، وعليه يظهر لنا أن الصين تحاول كسب الوقت لنفسها حتى يتبلور موقف أوروبى يبحث بالفعل عن الاستقلال عن الولايات المتحدة حيال الصين، وعلى الجانب الآخر يلزم الاتحاد الأوروبى إدخال إصلاحات هيكلية على طريقة تعاملها مع الصين يمكنها من انتزاع تنازلات من الصين فيما يخص العلاقات التجارية، وحتى يتحقق ذلك لا يمكن لأوروبا الرهان على موقف صينى داعم لها فيما يخص الحرب الأوكرانية.