رضوى رمضان الشريف
أُعيد انتخاب (إيمانويل ماكرون) لولاية رئاسية ثانية، عقب تصدُّره الدور الثاني من الانتخابات، التي جرت في الرابع والعشرين من شهر أبريل الماضي، وحصل «ماكرون» الوسطي الليبرالي على 58 بالمائة من الأصوات، متقدمًا على مرشحة التجمع الوطني (ماريان لوبان) التي حازت 41.45 في المئة من الأصوات.
وعقب إعلان فوز إيمانويل ماكرون بالانتخابات الرئاسية الفرنسية، انهالت ردود أفعال عربية على الفور؛ للترحيب بانتخابه، متطلعةً إلى مواصلة العمل والتعاون مع فرنسا، وكان على رأس تلك الدول «مصر، والإمارات، وقطر، والجزائر، وسلطنة عمان، والبحرين».
مما لا شك فيه، أن سياسة فرنسا الخارجية في ظل رئاسة إيمانويل ماكرون الأولى، قد نشطت بشكلٍ ملحوظٍ في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط، فبجانب صفقات الأسلحة المتنوعة مع بعض بلدان المنطقة، تشارك فرنسا بدور ٍكبيرٍ في عمليات مكافحة الإرهاب، خاصةً في شمال إفريقيا، وسعت أيضًا لاحتواء الطموحات التركية في شرق البحر المتوسط، وبين الحين والآخر، تعلن فرنسا عن تصميمها إيجاد حلٍّ للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وعلى هامش ذلك، يصبح من المهم إلقاء نظرة تقييمية للسياسة الخارجية الفرنسية، في عهد الرئيس ماكرون، ومدى تفاعلها وتأثيرها على أمن واستقرار الشرق الأوسط، فالتفاعل الفرنسي الكبير في الأزمات الدولية والإقليمية خلال السنوات الماضية، عزَّز المكانة الدولية للرئيس ماكرون الدولية، عن طريق دخوله على خطوط الأزمات، والاستغراق فيها بإجراء اتصالات متعددة مع أطراف الصراع؛ من أجل الوصول إلى حلولٍ وسط.
حصاد الفترة الرئاسية الأولى لـ«ماكرون» في المنطقة
كان هناك حالة من التناغُم بين السياسة الفرنسية وسياسة غالبية الدول العربية، خلال العقد الماضي؛ حيث يتحدد اهتمام فرنسا الخاص بالشرق الأوسط، من خلال المصالح الأمنية المهمة والمشتركة، فهي تنظر بقدْرٍ من الموضوعية إلى التخوفات العربية من الطموح الإقليمي الإيراني، وليس فقط الطموح النووي، ومن جهة أخرى، أصبحت فرنسا تتطلع لتحجيم الدور التركي بالتحالف مع قوى إقليمية أخرى، وخاصةً «مصر، والإمارات العربية المتحدة»، بعدما تبينت قدرة الدور التركي في زعزعة استقرار المنطقة.
ومن ثمَّ سعت فرنسا في عهد الولاية الأولى للرئيس ماكرون؛ لتجسد مبدأ جديدًا للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط، وهو احتواء القوى المزعزعة للأمن الإقليمي، من خلال الانخراط معها في محادثات طويلة الأجل من جهة، والتحالف مع القوى الأخرى على أساس «عسكري، وتجاري» من جهة أخرى.
وكان من أسباب ذلك الانخراط الملحوظ، بأن «ماكرون» وفريقه السياسي، رأى أن السياسة الفرنسية كانت قد شهدت بعض الانسحاب من الشرق الأوسط في السنوات الماضية، وكان لا بُدَّ من تعويض هذا الانسحاب بانخراط أكبر، ومن ثمَّ ترجمته إلى مكاسب وطنية، تنعكس على الشراكة الفرنسية مع دول المنطقة، في مختلف المجالات «الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية».
أولًا: المسار الاقتصادي
لاقت الشراكة الفرنسية العربية في المجال الاقتصادي، في فترة ولاية «ماكرون» الأولى زخمًا واسعًا؛ حيث اتسمت العلاقات التجارية بالديناميكية، فنجد ارتفاعًا ملحوظًا في التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة بين الطرفين؛ حيث بلغ حجم التجارة البينية بين مصر وفرنسا 3 مليارات دولار، عام 2020، بزيادة ما بين 15 إلى 20% عام 2019، بينما سجَّل حجم التبادل التجاري بين «الإمارات، وفرنسا» نحو 56.9 مليار دولار، وذلك خلال الفترة من بداية عام 2012 حتى نهاية سبتمبر 2021، أما قطر، فهي تعد من أهم الشركاء الإستراتيجيين لفرنسا؛ حيث بلغ عدد الشركات الفرنسية العاملة في الدولة 418 شركة، من بينها 68 شركة بملكية فرنسية، بنسبة 100 بالمائة، و339 شركة أُقيمت بالشراكة مع الجانب القطري، وثماني شركات مرخصة، من قِبَلِ مركز قطر للمال، وثلاثة مكاتب تمثيل لجمهورية فرنسا.
ثانيًا: المسار العسكري
كان من أبرز وأهم ملامح علاقة «ماكرون» في فترة رئاسته الأولى مع الدول العربية، هو التوسع في صفقات السلاح الفرنسي للدول العربية، والذي توّج بتحالف «سياسي، وتجاري» كبير، فمن جهةٍ، تجد الدول العربية في فرنسا حليفًا غربيًّا قويًّا ومستقلا عن الأجندة الأمريكية في المنطقة، ومن جهةٍ ثانيةٍ، تجد فرنسا لصناعاتها العسكرية أسواقًا متعطشةً؛ لتنويع تسليحها، ولتجديد ترساناتها، والتأهب للمخاطر الإقليمية المتوقعة.
وكان من أهم هذه الصفقات، عقود التسليح للجيش المصري، والتي منها صفقة حاملة الطائرات «ميسترال» والمقاتلات «رافال»، وأيضًا الفرقاطة البحرية «فريم»، فضلًا عن عقود التصنيع المشترك للقطع البحرية والتدريبات المشتركة بين الجانبين.
وأيضًا صفقات الأسلحة مع دول الخليج، والتي انتعشت بشكلٍ ملحوظٍ، في العام الماضي، وأبرزهم مع «المملكة العربية السعودية، والإمارات»؛ ويأتي ذلك نتيجة انكشاف الأمن الخليجي والعربي؛ لخطر التوسع الإقليمي الإيراني، خاصةً بعد الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ورغبة فرنسا في سدِّ تلك الفجوة؛ كي تكسب الحلفاء الذين خذلتهم واشنطن.
ثالثًا: المسار السياسي
وجود إيجابي
من أهم دلائل الوجود الإيجابي لفرنسا في المنطقة، وهو علاقتها مع لبنان؛ حيث تتميز العلاقات الفرنسية اللبنانية بزخمٍ خاصٍ ومتميزٍ منذ عقود، ولا يزال اهتمام فرنسا بلبنان قويًّا حتى اليوم؛ حيث اتسم تحرُّك «ماكرون» في ملف الأزمة اللبنانية، بأنه إيجابي، ومحرك للمياه الراكدة، ومن ذلك مثلًا، تحرُّكه عقب انفجار مرفأ بيروت، وتزعمه لتنسيق جهود المساعدات الدولية، عبر المنظمات الأممية والمجتمع الأهلي، بعيدًا عن النخبة السياسية اللبنانية، التي أصبحت مثارًا للشك في نزاهتها؛ إذ قدّم المبادرة الفرنسية عقب استقالة حكومة «حسان دياب»، في أغسطس 2020، وقدم سيناريو لتعاقب الخطوات؛ كي يتم تشكيل حكومة كفاءات، تتولى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتتسلم المساعدات المرصودة للبنان من الداعمين الدوليين.
وكان الالتزام الفرنسي في ملف الدعم «الإنساني، والإغاثي» للبنان، الذي استمر لعامين متتاليين (2020 و2021) خطوة ناجحة، وساهمت في تخفيف حدّة الأزمة المعيشية هناك، عن طريق تحفيز العديد من الدول الصديقة للبنان؛ للقيام بالمثل دون الارتياب في مصير المساعدات المقدمة، وإمكانية تسرُّبها إلى شبكات الفساد.
وفي إطار تجدُّد الجهود الحثيثة لفرنسا في لبنان مؤخرًا، سواء لتذليل العقبات في سبيل تشكيل الحكومات اللبنانية المتعاقبة، والتي كان آخرها، تشكيل حكومة ميقاتي، أو من خلال التهدئة في ملف الأزمة الدبلوماسية بين لبنان ودول الخليج، عقب تصريحات وزير الإعلام السابق، جورج قرداحي، التي اعتبرتها السعودية مسيئةً لها، وتضامنت معها في ذلك دول الخليج، وسحبت سفراءها من بيروت، وجمَّدت التبادل التجاري معها.
وبالفعل، يمكن القول: إن وساطة «ماكرون» نجحت نسبيًّا؛ حيث حرص خلال زيارته إلى السعودية في إطار جولته الخليجية، في ديسمبر 2021، على تنسيق الجهود مع رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، ومن هنا، مهَّد ذلك لإجراء اتصالٍ ثلاثيٍ لقادة الدول الثلاثة؛ كي يتعهد فيها الطرفان ببذل الجهود؛ لإعادة إطلاق العلاقات بين «السعودية، ولبنان» وتخطي الأزمة الدبلوماسية برمتها، قبل أن تعلن السعودية في شهر أبريل الماضي، عن عودة سفيرها إلى بيروت، واتبعت الكويت خطاها، ومن المتوقع، أن تقوم باقي دول الخليج بذلك أيضًا.
وجودٌ جدليٌ
علاقة دول المغرب العربي بفرنسا علاقة جدلية، لا يمكن حسمها بسهولة؛ لأنها تعني ببساطة، ذلك الخلط الذي جرى في ظل حالة الاندماج التي سعت إليها فرنسا، بدْءًا من محاولة فرنسة الجزائر، مرورًا بالصدام مع المغرب، والتغلغل الثقافي في تونس.
ودخلت العلاقات الفرنسية الجزائرية بشكلٍ خاصٍ، في ظلِّ ولاية «ماكرون» الأولى مرحلة حرجة وجديدة من الاضطرابات، بالرغم من أن وعوده ببدْء صفحةٍ جديدةٍ مع الجزائر، والاعتذار عن سنوات الاستعمار جدلية للغاية؛ إذ ألقى «ماكرون» باللائمة على الجزائر ونظامها السياسي بعد الاستقلال؛ لأنه كان السبب في تعقيد علاقات ما بعد الاستقلال بين البلديْن، وكأن ميراث الاستعمار لم يكن سببًا كافيًا لهذا التعقيد، وقد تسببت هذه التصريحات في سحْب الجزائر لسفيرها من باريس، بينما خفَّضت فرنسا عدد التأشيرات السنوية الممنوحة للمواطنين الجزائريين..
في الخاتمة، يمكن القول: إن سياسة «ماكرون» تدور بشكلٍ أساسيٍ للانخراط في المنطقة؛ من أجل مواجهة الإرهاب وتدعيم أمن واستقرار دول المنطقة، وذلك لوقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، ولبناء تحالفات إستراتيجية في مناطق الصراعات الأكثر اشتعالاً؛ لوقف تداعي التحديات الأمنية، ومنعها قبل وصولها إلى أوروبا.
ويلاحظ على الهامش، بأنه يوجد تباين بين السياسة الفرنسية والأمريكية في المنطقة، وكان ذلك جليًّا سواء في التعامل مع الأزمة اللبنانية، أو في التعامل مع الطموح النووي الإيراني؛ حيث سعى «ماكرون»؛ للتهدئة مع إيران، أو التفاهم بشكلٍ مباشرٍ، بدلًا من سياسة التصعيد الأمريكية التي كان يتبعها «ترامب»، فانسحاب «ترامب» من الاتفاق النووي الإيراني، والمُضي في تشديد العقوبات المفروضة على إيران، كانت مناسبةً لبيان التمايز بين السياستيْن «الفرنسية، والأمريكية» في هذا الصدد.
وأيضًا قرارات «ترامب» للانسحاب من سوريا، بعد التنسيق مع «أردوغان» خلال عامي «2018، 2019»؛ ما أفسح المجال لتوسيع النفوذ التركي في الشمال السوري، وقرار الإدارة الحالية لـ«جو بايدن» بالانسحاب الكلي من المنطقة، كل تلك الأمور أدت بـ«ماكرون» للتراجع عن سياسته المتفائلة بالشراكة مع الولايات المتحدة، وعودته إلى خطِّ التمايز عن السياسة الأمريكية؛ ما انعكس بشكلٍ خاصٍ في الشرق الأوسط.
وبالنسبة لمستقبل العلاقات «الفرنسية – العربية» بعد فوْز «ماكرون» لرئاسةٍ ثانيةٍ، فمن المتوقع، أن يستمر نهج «ماكرون» في المنطقة، بل من الممكن، أن تشهد العلاقات بين الطرفيْن زخمًا واسعًا عن ذي قبل، خاصةً في ظلِّ الأزمة «الروسية – الأوكرانية»؛ فتداعيات الأزمة على عدة ملفات اقتصادية، والتي من أهمها ملف «الطاقة، والغاز» المؤرق للدول الأوربية، يعزِّز أهمية تشبيك العلاقات مع الدول النفطية، سواء في الخليج العربي، أو دول شمال إفريقيا، متمثلة في «مصر، وليبيا».