حسناء تمام كمال
بعد مرور أكثر من شهرين على الغزو الروسي لأوكرانيا، بدت سياسات الأطراف المختلفة تجاه الحالة الصراعية أكثر وضوحًا؛ إذ وضعت الأطراف الخطوط العريضة في سياستها، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن موقف القوة التي دخلت به روسيا أوكرانيا، ووسم وضعها في البداية، لم يعُدْ كذلك؛ إذ بدت مسارات مختلفة، ينتهجها الطرف الغربي، ساهمت في تغيير المعادلة، وتطرح المؤشرات الحالية احتماليةً كبيرةً في قدرة الغرب على إعادة موازين القوة لصالحه، وتطويق الجانب الروسي، خصوصًا بعد طلب السويد و فنلندا الانضمام لحلف الناتو؛ إذ يتبع الجانب الغربي إستراتيجية تطويق متعددة، متزامنة المسارات، ومكملة لبعضها، تعتمد على عددٍ من المسارات، أبرزها «السياسي، والأمني، والاقتصادي»، بجانب هذه الأدوات، فإنها توظف عددًا آخر من الأطراف، كأدوات لهذه الإستراتيجية.
أولًا: المسار السياسي
تمييع الدوافع الروسية: وهي الطريقة المتبعة؛ للإضعاف مع الالتفاف على الدوافع الروسية، وإبدائها على قدْرٍ أقل من الأهمية التي تراها روسيا للتدخل في أوكرانيا.
إن المطالب بالانضمام الفنلندي والسويدي لحلف «الناتو» تطبيق واضح لهذه السياسية؛ فطرح انضمامهما للحلف – وبصرف النظر عن أنه قد يكون بتحريك أمريكي وغربي للدولتيْن، وليس نابعًا من سياساتهما الخاصة- هو محاولة لتقديم نماذج متعددة للدول التي تدخل الحلف، دون التنسيق مع الجانب الروسي، أو تقديم ضمانات، خصوصًا فيما يتعلق بالجانب العسكري، وانتشار القوات، ومن ثمَّ تعميم نموذج انضمام الدول المجاورة لروسيا للحلف، دون ضماناتٍ لدول الجوار، ومن ثمَّ ضرورة معاملة أوكرانيا على هذا النحو.
وبذلك تُضعف وتُميع أسباب روسيا في اجتياح أوكرانيا؛ بسبب تطلعات أوكرانيا للانضمام في حلف «الناتو»، لا شكَّ أن هذا النهج سيقلل من فرص روسيا في الحصول على المزايا في هذا الملف، عند الجلوس على مائدة مفاوضات.
التشتيت: وذلك بالشكل الذي يعني تحويل انتباه روسيا عن مهمتها الحالية في أوكرانيا، وخلْق الإلهاء والانقطاعات المتكررة، من خلال زيادة حجم التحديات المتعلقة بأمنها في مناطق أُخرى، كما لو أن كلَّ المستجدات على الساحة العالمية تستهدفها، بالشكل الذي يستدعي إنهاك الجانب الروسي في خلْق عدة سياسات؛ لمواجهة هذه التهديدات، وقد يحتاج الكثير من الوقت؛ لاستعادة تركيزه في التعامل مع أوكرانيا.
كان آخر هذه المناورات، خلْق تهديد جديد، متمثل في رغبة السويد بالدخول لـ«الناتو»، الذي تفاعلت معه روسيا بانزعاج، وبالفعل، انجرفت روسيا، واستجابت لهذا التشتيت، فبحسب روسيا، مثل هذا التغيير في التوجه السياسي للبلاد، يمكن أن يكون له تأثير سلبي على العلاقات «الروسية – الفنلندية»، التي تطورت خلال سنوات، بروح حسن الجوار، والتعاون بين الشركاء، كما تتداول الأنباء، عن وجود نوايا روسية، عن قطْع إمدادات الغاز عن فنلندا، وقطْع الواردات عن شبكة الكهرباء في فنلندا، وغيرها من الإجراءات التي تعتبرها روسيا ردًّا مناسبًا على فنلندا.
الاستهداف المعنوي: وهذا النوع من الاستهداف، يتم فيه الاعتداء المقصود على الشخص المستهدف، ووصمه بعددٍ من الصور، وتسمية سياساته، والممارسات التي يقوم بها في إطار الإدانة؛ وذلك بهدف خلْق صورةٍ ذهنيةٍ سيئةٍ في عقل المجتمع الدولي، وتصبح من ثوابتهم.
فعلي سبيل المثال، تتداول وسائل الإعلام تصريح روسيا باعتزامها نشْر صواريخها الباليستية العابرة للقارات، التي تمَّ اختبارها حديثًا من طراز «سارمات«، بأن تدخل روسيا تدخل «الشيطان» في الخدمة! بالإضافة إلى الوصْف المتداول للرئيس الروسي، بأنه «مجرم حرب».
التقطت روسيا هذه المحاولات، وتظهرها في تصاريحها الرسمية، فيقول وزير الخارجية: إن الغرب عادةً ما يقوم ببحثٍ سيِّئ السُّمْعة عن عدوٍ، والذي يتم التعبير عنه بالمعنى العسكري السياسي العملي بـ«شيطنة» روسيا.
ثانيًا: المسار العسكري
يتبع الغرب نهْج التطويق العسكري للقوات الروسية، من خلال طريقتيْن مختلفتيْن:
أولًا: تعدُّد الجبهات التي تتطلب التواجد الروسي: تمتلك روسيا ترسانة من الأسلحة النووية، عادةً ما تهدد باستخدامها؛ ردًّا في حالة الهجوم على الدولة، أو أيّ تهديدٍ لأمنها القومي، كما لديها القدرة على تنفيذ هجومٍ مفاجئ سريع ومنسق، في محاولةٍ لتحقيق أغراضها، في فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، بهذه القدرات، تعاملت مع المسألة في أوكرانيا، وتُبْدي استعدادًا للتعامل مع أيّ تهديدات مماثلة، وهو ما يحاول الغرب الاستفادة منه، بتوريطها في خوْض حربٍ على جبهات متعددة، تؤدي إلى استنزاف قدراتها العسكرية.
يدفع الغرب روسيا إلى البحث عن توسيع الانتشار في الفترة القادمة، سواء في الداخل الأوكراني، بالانتقال من الشرق إلى الغرب، أو التواجد في الجهة الجنوبية من أوكرانيا، وفتْح جبهة توتر مع دولة مولدوفيا، فخطوة في التمدد على الساحل، هي التمدد باتجاه الصدام مع دولة أوروبية أخرى.
أما خارج ساحة الحرب في أوكرانيا، فقد تكون روسيا مدفوعة للبحث عن ساحةٍ جديدةٍ بالقرب من فنلندا والسويد، حال انضمامهما لحلف «الناتو»؛ لنشر أسلحتها، قد تكون هذه الساحة هي بيلاروسيا، فهي مرشحة بقوة لذلك، وبالتالي، فإن الإصرار على تعدد جبهات التواجد الروسي، بما يتطلب ذلك من تخطيطٍ وانتشارٍ، وتعدد جهات التواجد، هو بمثابة استنزاف للقدرات العسكرية الروسية.
استمرار توجيه الدعم للجانب الأوكراني: تواصل الدول الغربية الاستجابة لمطالب الرئيس الأوكراني، بتقديم الدعم، فبلغ حجم دعم الولايات المتحدة «13.6 مليار دولار»، منها ما هو عسكري، ومنها ما هو إنساني، وتشمل المساعدات العسكرية عددًا من أنواع المدفعيات المتقدمة، القادرة على تحقيق أهداف مرتفعة المدى، ويخطط «الكونجرس» لأن تبلغ تلك المساعدات «40 مليار دولار».
وأعلنت وزارة الدفاع البريطانية، أنها خصَّصت أكثر من «530 مليون دولار» تشمل المساعدات العسكرية والإنسانية، مع وعْدٍ برفْعها خلال الأشهر المقبلة، من ضمنها 4 آلاف صاروخ مضاد للدبابات، منذ بداية الحرب، وخصَّص الاتحاد الأوربي «550 مليون دولار» مساعدات عسكرية لأوكرانيا، كما أعلن البنك الأوروبي للإعمار والتنمية، تخصيص أكثر من«2 مليار دولار» لإقراضها لأوكرانيا، ويقدر مجموع ما حصلت عليه أوكرانيا، خلال شهرين، حوالي «6 مليارات دولار»، وهي عبارة عن أسلحة.
ولا تتوانى الدول الغربية، في التأكيد على استمرار الدعم لأوكرانيا، ورفْع قدراتها العسكرية على المواجهة؛ وهو ما يجعل روسيا تواجه العسكرية الغربية في أوكرانيا، وهذا في حدِّ ذاته، يجعل التنبؤ بحدود القدرات العسكرية التي تواجهها في أوكرانيا أمرًا مُتعذرًا، كما أنها ستطيل أمَد الحرب.
ثالثًا: المسار الاقتصادي
فُرِض على روسيا حزمة واسعة من العقوبات، منذ بداية غزوْها لأوكرانيا، ويدرس الاتحاد الأوروبي، فرْض حزم أُخرى، وتتنوع العقوبات ما بين حظْر الصادرات النفطية، وتكبيل القطاع المصرفي، وحظْر الطيران، ومنْع شركات الدول الكبرى من التعامل مع السوق الروسية، وصولًا إلى مصادرة أملاك، وفرْض عقوبات مباشرة على المليارديرات، والنواب، والدائرة المحيطة بـ«الكرملين»، وصولًا إلى فلاديمير بوتين شخصيًّا، وفرضت أستراليا عقوبات على الأثرياء الرُّوس، وأكثر من 300 من البرلمانيين الرُّوس، الذين صوَّتوا بالسماح بإرسال الجيش إلى أوكرانيا، وفرضت بريطانيا قيودًا على منْح «التأشيرات الذهبية»، كما شملت فرْض قيود على المنتجات التي يمكن إرسالها إلى روسيا من قِبَلِ بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها.
تُفرض على روسيا العقوبات الأوسع في التاريخ حتى الآن، وبالرغم من تماسك الاقتصاد الروسي في الوضْع الراهن، إلا أن هناك اتفاقًا على أن هذه العقوبات ستؤثر على الاقتصاد الروسي.
في الأخير.. فإن الممارسات التي يقوم بها الغرب، هي الأضلاع المكونة لإستراتيجية التطويق المُحْكَمة، التي يقوم بها الغرب، غايتها استهداف روسيا وزعزعتها، وهي إستراتيجيةٌ تُحقِّق تفوُّقًا على المدى البعيد؛ إذ تقضي بتخصيص مسارات «سياسية، واقتصادية، وعسكرية»، تفوق مقدرات الجانب الروسي، وذلك من خلال اتِّباع عِدَّة مساراتٍ، فعَّالة في وسائل التدمير، وبالرغم من أنه لا يمكن الاستهانة مطلقًا بمقدرات روسيا «العسكرية، والاقتصادية، والمالية»، لكن يمكن التقيُّد، بأن الغرب يدرس جيدًا نقاط الضعف الروسي، وعلى رأسها، الاندفاع الروسي، ويخطط للاستفادة منها.