حسين عمرو المبيض
منذ بداية الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، في 24 فبراير، تبيَّن للعالم أجمع، وحشية الحرب، خصوصًا كونها أكثر الحروب توثيقًا وتداولًا على وسائل الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي، والتي قد كشفت الحرب أمام الرأي العام العالمي، كما ساهمت في انتشار الدلائل المصورة، التي تُوثِّق حالة الدمار؛ الناتجة عن ترسانة الغزو الروسي، من قصف الطائرات والمدافع الروسية لمواقع مدنية، إلى احتلال القوات الأرضية للمدن والمناطق السكنية، والتي خلَّفت وراءها قتلى مدنيين، ودمارًا للمنشآت المدنية، ونزوح الكثير إلى خارج البلاد، وخلال الفترة الأخيرة، انتشرت وثائق مصورة من بلدة “بوتشا”، الواقعة شمال غرب العاصمة “كييف”، هزَّت المجتمع الدولي؛ لما تظهر من عشرات الجثث لمدنيين في الشوارع، والقبور الجماعية؛ حيث صرحت السلطات الأوكرانية، أن أكثر من 720 شخصًا قُتلوا، مع العثور على 403 جثة، في البلدة التي عانت من احتلالٍ روسيٍّ، دام شهرًا، وحتى قبل “بوتشا”، اتهمت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون القواتَ الروسيةَ، باستهداف المدنيين بشكل عشوائي، واستشهدوا على ذلك، بقصف مستشفى للولادة، في مدينة “ماريوبول”، الواقعة في جنوب البلاد، ومسرح مخصص لإيواء أطفال.
ليس هناك شكٌّ، في أن هذه الجرائم إذا ثبتت، هي جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية؛ لذلك تبْذُل الحكومة الأوكرانية قصارى جهدها؛ لتحديد ومعاقبة مرتكبي الجرائم، أثناء الاحتلال، وفي 28 فبراير، تلقى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية )كريم خان ( إحالات، بشأن الوضع في أوكرانيا من 39 دولةً من أعضاء المحكمة؛ ما نتج عنه إعلان المدعي العام، فتح تحقيقٍ في جرائم حرب محتملة، ارتكبتها روسيا في أوكرانيا، كما منحت أوكرانيا المحكمة الاختصاص القضائي للجرائم على أراضيها، بغض النظر عمن يرتكبها، لا شكَّ بأن الخسائر البشرية والمعاناة الإنسانية؛ الناتجة عن استمرار الحرب في أوكرانيا، تطرح العديد من الأسئلة حول صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية، ومدى فاعليتها، في إطار وقْف العنف، وفي ظلِّ الأصوات المتعالية، التي تطالب بضرورة محاكمة المسؤولين، ومعاقبة مرتكبي الجرائم.
نبذة عن المحكمة الجنائية الدولية وصلاحيتها
تأسست المحكمة الجنائية الدولية، عام 2002، في مدينة “لاهاي” الهولندية، و بعد التوقيع على ميثاق روما، عام 1998، ودخول المحكمة حيّز التنفيذ، عملت بشكل مستقل ودولي؛ لمحاسبة مرتكبي الجرائم حول العالم، وتعد المحكمة هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة، من حيث (الموظفين، والتمويل)، وتُنظم العلاقة بينهما، بموجب اتفاقية تنسيق بين الجانبين، وتعمل المحكمة على إتمام دور الأجهزة القضائية الوطنية، فهي لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي، ما لم تُبْدِ المحاكم الوطنية رغبتها أو عدم قدرتها على التحقيق أو الادعاء، بذلك تمثل الملاذ الأخير لتحقيق العدالة.
تقع ضمن اختصاصات المحكمة أربع جرائم وهي:
1. جرائم الحرب، وهي تختص بانتهاكات للقانون الدولي ضد مدنيين أو مقاتلين، أثناء نزاع مسلح، سواء داخلي أو في حرب بين دولتين.
2. جرائم ضد الإنسانية، وهي تختص بالإبادة أو التهجير أو اضطهاد على أسس عرقية أو دينية.
3. الإبادة الجماعية، وهي ترتكب بمقصد تدمير مجموعة قومية أو عرقية أو دينية بأكملها أو جزء منها.
4. العدوان، وهو الاعتراف بالاعتداء على سيادة دولة، من قِبَلِ دولة أُخرى، والسماح بمحاكمة قادته، وتمارس المحكمة اختصاصها، إذا أحالت دولة إلى المدعي العام قضية، يبدو فيها أن جريمة خطيرة قد ارتكبت، كما يمكن أن يقوم بذلك مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أو أن يباشر المدعي العام التحقيق في قضايا من تلقاء نفسه.
التحقيق حتى الآن
في سياق الغزو الروسي لأوكرانيا والجرائم التي ترتبت على ذلك، تحرك المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (كريم خان)؛ للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا، بعد إحالة عددٍ من الدول الأعضاء، إضافةً إلى أوكرانيا ملف القضية إليه، وذلك مكَّن (خان) من فتح تحقيق بموجب المادة 14 من نظام روما الأساسي، وعلى أثر ذلك، قام بزيارة “بوتشا” في عمل مشترك مع المدعية العامة الأوكرانية (إيرينا فينيديكتوف)؛ حيث تمَّ استخراج جثث المدنيين القتلى من مقبرة جماعية، في مشهد وصفه (خان) “مسرح جريمة”، كما صرَّح أن فريقًا أوليًّا، يتكون من “محققين ومحامين وأشخاص لديهم خبرة خاصة في التخطيط التشغيلي”، تم إرسالهم إلى أوكرانيا؛ للبدء في جمع الأدلة، كما تمَّ إنشاء بوابة مخصصة، يمكن من خلالها لأي شخص لديه معلومات ذات صلة بالوضع في أوكرانيا، الاتصال بمحققي المحكمة الجنائية الدولية.
آلية التحقيق
تعتمد المحكمة الجنائية الدولية على الدول الأعضاء؛ للمساعدة في التحقيق والإنفاذ، ومن ذلك المنطلق، عزم الاتحاد الأوروبي على تقديم التمويل والدعم للمحكمة الجنائية الدولية؛ للمساعدة في توثيق جرائم الحرب الظاهرة في أوكرانيا، وإبقاء روسيا مسؤولة، وفي الميدان، يتسابق الصحفيون ونشطاء حقوق الإنسان والمواطنون العاديون مع الزمن؛ لالتقاط الصور، وتسجيل مقاطع فيديو، ونشر الأدلة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو مشاركتها مع المنظمات غير الحكومية، القادرة على فحصها، كما يجمع المدعون في المحكمة بين الطب الشرعي، وشهادات الشهود، والفيديو، والاستخبارات؛ لإنتاج صورة كاملة عن الجرائم، ومرتكبيها، وفي حين استطاع المُدَّعون تقديم “أسباب معقولة”، تربط متهمين بارتكاب جرائم حرب، يمكن إصدار حكم بالإدانة، ويتعين على المدعي العام، إثبات التهمة على المتهم، بما لا يَدَعُ مجالًا للشكِّ، وبالنسبة لمعظم الاتهامات، يتطلب ذلك، إثبات أن المتهم عقد العزم والنية على ارتكاب الجريمة، و يثبت المدعي العام، عدم وجود أهداف عسكرية في منطقة الهجوم، وأن مقتل المدنيين لم يكن مجرد حادث، وفضلًا عن التحديات التي تواجههم في إثبات النية، وربط القادة مباشرة بهجمات محددة، يمكن أن يواجه المدعون صعوبةً في الحصول على أدلة من منطقة حرب، ومنها ما يتعلق بالمقابلات مع الشهود، الذين ربما يتعرضون للترهيب، أو لا يرغبون في الحديث، وفي حالة أوكرانيا، سيعكف المدعون العامون بالمحكمة الجنائية الدولية على فحص أدلة الفيديو والصور الفوتوغرافية المتاحة.
وعندما يضع المدعون نمطًا من الأحداث، فإن الخطوة التالية، هي الارتقاء في سلسلة القيادة، وعادةً ما يكون ذلك صعبًا؛ حيث إنه في السنوات الأخيرة، واجهت في محاكمة جرائم الحرب، ضد (سلوبودان ميلوسيفيتش( الصربي و( تشارلز تايلور) في ليبيريا، مشاكل في ربط القادة بميليشيات وقوات غير نظامية، وعلى النقيض من ذلك، فإن التسلسل القيادي في روسيا لا يحتاج إلى تحقيق؛ لأن الأمر يتعلق بالسجلات العامة، وتحدد اللوائح العسكرية مسؤوليات جنرالاتها، بينما تنص المادة 87 من الدستور على الرئيس، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي قانون الحرب لا يعطي أيّ حصانة للرؤساء، و يمكن للمحكمة الجنائية الدولية، أن تتهم القيادة العليا لروسيا، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، دون الاضطرار إلى إثبات أنهم أمروا بهذه الجرائم، يكفي أن الجرائم وقعت، وأن القادة لم يفعلوا شيئًا لمنعها، أو لمعاقبة المسؤولين عنها.
وفي الآونة الأخيرة، توجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس الروسي (فلاديمير بوتن)؛ حيث وصفه الرئيس الأمريكي (جو بايدن) بـ”مجرم حرب”، في الإشارة لفظائع “بوتشا”، ومن جهة أخرى، طالب رئيس الوزراء البريطاني، (بوريس جونسون) ،امتثال (بوتين) أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ لتجاوزه على حدِّ قوله: “الخطوط الحمراء في الوحشية”، ومن المرجح، أن يجادل المدعون، بأنه مع استمرار القصف الروسي على “ماريوبول” والمدن الأوكرانية، لم تظهر القيادة الروسية أيّ اهتمامٍ، بمنع أو معاقبة تلك الهجمات، التي أسفرت عن مقتل المدنيين.
ومع ذلك، فمن الممكن، ألا يُقدم أي شخص للمحاكمة، ويرجع ذلك للجانب العملي للمحكمة الجنائية الدولية؛ حيث إنه ليس لديها قوة تنفيذ، أو وسائل جاهزة؛ لنقل المشتبه بهم إلى مقراتها للمحاكمة، ويمكن للقوى الغربية، أن تربط العقوبات الحالية بتسليم روسيا للمتهمين، لكن هذا المسار غير مؤكد، في الوقت الحالي، ويقوم المحققون الذين يعملون وسط ضحايا “بوتشا” والمدن الأوكرانية، على الرغم من إدراكهم، أن العدالة قد لا تتحقق أبدًا.
السيناريوهات
تستمر روسيا في نفي التُّهم الموجهة إليها، وكانت روسيا قد انسحبت من المحكمة الجنائية الدولية، في عام 2016، بعد أن قضت المحكمة الجنائية الدولية، بأن الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم يرقى إلى مستوى “الاحتلال المستمر”؛ لذلك من المتوقع، ألا تلتزم روسيا بقوانين التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ومن غير المرجح، أن تسلم المشتبه بهم للمحاكمة، ولا سيما الرئيس( فلاديمير بوتين)، وفي حين أن ثبتت التُّهم على مرتكبي الجرائم من الجانب الروسي، فإن مجلس الأمن، وهو الممر السياسي الإلزامي لإحالة الدول والمجرمين إلى المحكمة الجنائية، قد يُثبت عدم فعاليته، بصفة روسيا أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، يمكن أن تستخدم حق النقض “الفيتو”، ضد أي اقتراح لمعاقبتها، أو تسليم المجرمين.
أما السيناريو الأقل احتمالية، هو أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق (بوتين) أو أشخاص قيادية؛ ما يقيد بشدة قدرتهم على السفر، وسيتوجب على جميع الدول الأعضاء الـ 123 في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بتسليمهم إلى المحكمة، فهي تعتمد على الدول للقبض على المجرمين والمشتبه بهم، فإن فعالية المحكمة وآليات عمل القانون الدولي في الممارسة لا تعتمد على المعاهدات فحسب، بل على السياسة والدبلوماسية أيضًا.
في نهاية القول: يصعب على المجتمع الدولي، تجاهل الانتهاكات الصريحة لقوات الغزو الروسي على الأراضي الأوكرانية، في أكثر الحروب توثيقًا، وفي حين يتواصل العمل المُضْنِي لمُدَّعِي المحكمة الجنائية الدولية في تجميع الأدلة، ورسم الصورة الكاملة للجرائم، يصْعُب الجزْم بالإطار الزمني للتوصل إلى نتائج إدانة مجرمي الحرب، و كما أن المحكمة الجنائية الدولية هي آلية مستقلة، تقع نسبيًّا خارج نفوذ الأمم المتحدة، مع ذلك، من الصعب أيضًا القول: إنها قادرة على استخدام سلطاتها بالكامل في النظام العالمي الحالي، وضمان العدالة بالمعنى الكامل، وعلى الرغم من ذلك، فإن موقفها من الحرب الأوكرانية جديرٌ بالتفاؤل، ومن شأنه، بأن يكشف عن الحقائق في المستقبل القريب.