رضوى رمضان الشريف
مقدمة
أصبح استخدامُ الدولارِ أداةً لردع الخصوم، ومواجهة الأعداء، وهو أداة خطيرة، أبرزته العقوبات الأمريكية؛ حيث العقوبات الأمريكية المُكثَّفة على إيران سابقًا؛ بسبب برنامجها النووي، والآن العقوبات على روسيا؛ فمما لا شك فيه، أن الأزمة (الروسية – الأوكرانية) التي تظهر في الأفق، خلقت من ورائها العديد من التداعيات والتبعات الاقتصادية العالمية، فكان من أهم هذه التبعات، فرْض الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الحليفة لهما، العديد من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وكان من أكثر هذه العقوبات ضررًا، فصْل روسيا عن نظام “سويفت SWIFT “، وهو نظامٌ يتيح للمؤسسات المالية، إرسال واستقبال المعلومات حوْل المعاملات المالية، في بيئة آمنةٍ وموحَّدةٍ، ونظرًا لأن الدولار يعمل كعملة احتياطية عالمية، فإن “سويفت” تُسهِّل نظام الدولار الدُّولي، وتمنح هيمنة “السويفت” والدولار الولايات المتحدة قدرًا كبيرًا من النفوذ على البلدان الأُخرى.
وفي الجانب الآخر، تتجه روسيا والصين للرد على فصْل الأولى عن نظام “سويفت”، وذلك بالتنسيق مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ودول منظمة شنغهاي؛ لدعوة التخلي عن الدولار، والدفع بالعملات الوطنية.
يُجدر بالإشارة، أن التوجه الروسي الصيني لتقليل الاعتماد على الدولار، لم يكن وليد اللحظة الحالية؛ فمنذ سنوات حاولت كلا البلدين، العمل في بيئة غير معتمدة على الدولار عند تداول السلع الأساسية، وفي العام الماضي، أطلقت الصين نظامًا للدفع بكلتا العملتين، والذي يستخدم في بيْع النفط الروسي إلى الصين، كما توسعت الصين في توقيع اتفاقيات تبادل العمل مع كثيرٍ من الدول؛ لتقليل التعامل بالدولار، إضافةً إلى خفْض البنك المركزي الروسي والصندوق السيادي الروسي التعامل بالدولار.
فضلًا عن المحاولات (الروسية، والصينية) بتزويد جهودهما؛ للحصول على الذهب؛ لتنويع أصولهما، بعيدًا عن الدولار، ففي السنوات الأخيرة، كانت روسيا أكبر مشترٍ رسمي للذهب، تليها الصين عن كَثَبٍ، ويأتي ذلك في إطار إستراتيجيةٍ؛ تهدف لتنويع الاحتياطيات، بعيدًا عن الدولار.
وبجانب خطة بوتين لتصدير النفط والغاز للدول الأوروبية بالـ(روبيل)، يوجد محاولات صينية؛ لتسعير النفط المستورد من الدول الواقعة على “مبادرة الحزام والطريق” – خاصة دول الخليج- بالـ(يوان) بدلًا من الدولار.
تشترك الصين وروسيا سويًّا في مصلحة إضعاف سيطرة الدولار على النظام المالي الدولي، وانطلاقًا من هذا الإطار، تطرق الهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة التي تقوم بشكلٍ كبيرٍ على الدولار، وخاصةً المعاملات النفطية – حيث 80٪ من معاملات النفط العالمية مُقَوَّمة بالدولار- ويفرض المنطق على العقول سؤالًا مهمًا، وهو كيف سيبدو العالم إذا أصبح هناك قطب اقتصادي منافس، تتزعمه روسيا والصين، موازٍ للقطب الاقتصادي، القائم على الدولار، متمثل في الولايات المتحدة؟
أولًا: مظاهر التقارب
تربط الصين وروسيا علاقات اقتصادية ودبلوماسية وثيقة؛ حيث نمت التجارة بين البلدين بشكل مطرد، في السنوات الأخيرة، ووصل حجم التجارة في عام 2021، إلى مستوى مرتفع، بنحو 147 مليار دولار، بنسبة زيادة بـ36 %، مقارنةً بالعام السابق، بما يشكل بحوالي 18 %، من إجمالي التجارة الروسية الخارجية.
وتُعدُّ الصين حاليًّا أكبر سوقٍ للصادرات الروسية، مثل (النفط، والغاز، والفحم، والمنتجات الزراعية)، ومن الواضح، أن روسيا بدأت في تصدير المزيد إلى الصين في السنوات الأخيرة، بصورة أكبر مما كانت عليه في السابق، ففي العام الماضي، كانت روسيا ثاني أكبر مورد للنفط إلى الصين، وثالث أكبر مورد للغاز؛ حيث بلغت الصادرات 41.1 مليار دولار و4.3 مليار دولار على التوالي، كما كشف الرئيس الروسي “بوتين” مؤخرًا عن صفقات نفط وغاز روسية جديدة مع الصين، تقدر قيمتها بنحو 117.5 مليار دولار.
وقبل ساعات من العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، وافقت الصين على شراء القمح الروسي، وفى غضون ذلك، أظهر الرئيس الروسي ” بوتين” علاقة واضحة مع نظيره الصيني “شي جين بينج”، خلال زيارته لـ(بكين) في شهر مارس الماضي؛ وأعلن كلا الطرفين اعتزامهما، بتعزيز التبادل التجاري بينهما؛ ليصل إلى 250 مليار دولار، بحلول عام 2024.
يعتمد في الوقت الحالي نحو 17 % فقط من التجارة بين روسيا والصين على العُمْلة الصينية الـ(يوان)، (وهي نسبة شهدت ارتفاعًا من 3.1 % في عام 2014)، ومن المتوقع، أن تسرع خطوة فصْل روسيا عن نظام “سويفت” في تعزيز العلاقات التجارية بين روسيا والصين؛ فلدى روسيا نظامها الخاص للدفع والحوالات المالية (STFM)، بينما تمتلك الصين نظام الدفع بين البنوك، عبر الحدود (CIPS)، وتعمل هذه الأنظمة بالعملات الخاصة بكلا البلدين، وقد تكون عملة الصين ونظامها الخاص بين البنوك عبر الحدود (CIPS) محل اهتمام فوري للروس، إلا أن البعض يحذر من أن (بكين) يجب أن تدير العلاقات مع (موسكو) دون الإضرار بالعلاقات مع الدول الغربية، أو تهديد وصولها إلى النظام المالي العالمي.
ثانيًا: تحالفات اقتصادية جديدة
دفع نظام العقوبات الأمريكية روسيا وبعض الدول الحليفة معها – خاصةً الدول التي على خلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية – إلى تكوين تحالفات اقتصادية جديدة، أو إعادة تفعيل تحالفاتها الاقتصادية، السابق تكوينها، وستؤثر هذه التحالفات على خريطة الاقتصاد العالمي، وبالتبعية على اقتصاد العديد من الدول؛ ومنها دول الشرق الأوسط.
وبالحديث عن الشرق الأوسط، يقصد به تحديدًا الدول الغنية بالنفط، التي لها دوْرٌ كبيرٌ، من خلال تسعير نفطها بدولار، في تعزيز العُمْلة الأمريكية، وبالتالي، ترسخ هيمنة الولايات المتحدة،
وفي مرحلةٍ جديدةٍ يتصدر بها الـ(يوان) الصيني المشهد، ويعزز دوْره في المعاملات الوطنية، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 15 مارس الماضي، أن المملكة العربية السعودية، أكبر مُصدِّر للنفط عالميًّا، تجري محادثات مع الصين، ثاني أكبر مستهلك للنفط بالعالم؛ لقبول الدفع بالـ(يوان)، مقابل بعض مبيعاتها النفطية، وطبقًا للصحيفة، يأتي هذا القرار مدفوعًا بتوتر العلاقات، الذي لم يَعُدْ سرًّا بين الرياض وواشنطن؛ بسبب سياسات البيت الأبيض في المنطقة.
سبق وأن طرحت (بكين) فكرة أن تكون معاملاتها بشأن عقود النفط مع السعودية، قائمة على الـ(يوان) في عام 2018، إلا أنها لم تُفعَّل، ولكن بالنظر إلى مؤشرات الوضع الحالي للعلاقات السعودية الأمريكية، والتي تبدو غير مُرضية بالنسبة للحكومة السعودية؛ بسبب التراجع الأمريكي عن التزاماته الأمنية؛ لحماية أمن المنطقة، بالتوازي مع محاولة إدارة (بايدن) إعادة الاتفاق النووي الإيراني، أصبح يوجد مخاوف من أن تتحقق خطة (بكين)؛ لتسعير النفط بالـ(يوان).
مخاوف من “البترو يوان”
بالرغم من أن فكرة تسعير النفط بالـ(يوان) رمزية حتى الآن، ولم تتحقق، إلا أن العديد من المسؤولين الأمريكيين، أعربوا بعدم رضائهم عن تلك الفكرة؛ حيث وصفوها، بأنها “غير مرجحة”، وستعود مع بعض المخاطر على الاقتصاد السعودي؛ لأن الريال السعودي مرتبط بالدولار، مع تأكيدهم بأن هذه الخطوة – حال حدوثها- ستمثل تعزيزًا للعملة الصينية؛ حيث تشتري الصين أكثر من 25٪ من صادرات النفط من السعودية.
بالرغم من أنه لا يُوجد سبب للاعتقاد بأن إطلاق “البترو يوان” وفقًا للتصور المطروح، سينهي فورًا هيمنة “البترو دولار”، فنهايته تعتمد على العديد من المتغيرات، وأهمها كيف تسيطر الصين على سوق النفط العالمية؟
في حال تحقيق تلك الخطوة – حتى وإن كانت مستبعدة- ستؤدي لتعزيز العُمْلة الصينية، بشكل من الممكن إطلاق عنان (بكين)؛ للتفكير في تصورٍ مستقبليٍ؛ لتحويل عملتها إلى ذهب؛ ما سيؤثر بشكل أكبر على هيمنة الدولار الأمريكي.
ويترتب على هذا الأمر العديد من التغيرات الدولية؛ حيث ستفرض على شركاء الصين التجاريين، تحويل الـ(يوان) إلى ذهب، دون الحاجة إلى شراء الأصول الصينية، أو تحويلها إلى دولارات أمريكية، خاصةً أن الدول التي تواجه عقوبات أمريكية مثل (روسيا، وإيران، وفنزويلا) ستكون قادرةً على تجنُّب العقوبات، من خلال تداول النفط بالـ(يوان)، القابل للتحويل إلى الذهب.
كما أن الصين تدرك أيضًا، أن ارتفاع أسعار الذهب يهدد مكانة الدولار الأمريكي كاحتياطي العُمْلة العالمي، وبالتالي، فهي حريصة على شراء كميات كبيرة من الذهب، وتساعد الدول الأُخرى على فعل الشيء نفسه.
عندما تبدأ المزيد من البلدان بإدراك أن هناك بديلًا مُجدِيًا للدولار الأمريكي، هو الوقت الذي ستبدأ فيه الأمور بالفعل في التحوُّل؛ فالتحوُّل الشامل- إن حدث- إلى الـ(يوان)، سيؤدي بالتأكيد إلى حدوث أزمةٍ في الدولار الأمريكي.
وقد يكون احتمالية انخفاض الطلب على الدولار في الفترة المقبلة – باستمرار الأزمة الأوكرانية- صدمة بالنسبة للحكومة الأمريكية، التي تعتمد على الطلب بالدولار؛ لتمويل إنفاقها الخارج عن السيطرة؛ حيث تخيل عالمًا لا حاجة للصينيين فيه إلى الدولارات؟
تُصنف الصين على أنها أكبر حائز أجنبي للديون الأمريكية، وإذا استمرت في تجريد نفسها من الدولارات، فمن سيتحمل الركود؟ حيث يحرص الاحتياطي الفيدرالي بفرض سيطرته على سندات الخزانة على مدار العامين الماضيين، ولكن إذا انخفض الطلب العالمي على سندات الخزانة بشكل حاد – وكان من الممكن أن يحدث في عالم خالٍ من البترودولار- فسيتعين على حكومة الولايات المتحدة، إما بخفْض الإنفاق بشكل كبير، أو على الاحتياطي الفيدرالي، الاستمرار في طباعة الأموال؛ لتحويل الديْن إلى نقود، والذي سيمثل حال حدوثه معضلةً اقتصاديةً كبيرةً، بالنسبة للولايات المتحدة.
الخاتمة والاستنتاجات
إن سعْي الصين وروسيا وحلفائها في التخلي عن الدولار، سيكون أحد الأسباب الرئيسية في خفْض الطلب على الدولار، خاصةً مع زيادة حجم التنامي التجاري بين كلا البلدين، والمساعي المستمرة بالارتقاء بها، وبالتالي، التخلي عن الدولار سيؤثر عليه، كعُمْلة عالمية؛ ما يحد من تأثير العقوبات الأمريكية على الدول، فضلًا عن أن المشروع الاقتصادي الصيني العالمي “مبادرة الحزام والطريق” للتجارة مع عدد كبير من الدول، يساهم في زيادة الطلب على الـ(يوان) الصيني كعُمْلة احتياطية، دون الحاجة إلى استخدام الدولار؛ ما يعني التدرج في إلغاء الدولار مستقبلًا، وبالتالي، التقليص من هيمنة أمريكا على التجارة العالمية .
الاستنتاجات
– أثبتت العقوبات الأمريكية عدم استمرار فاعليتها طيلة الوقت، فبالرغم من دوْرها في ردْع ومواجهة الخصوم، إلا أنه توجد عواقب غير متوقعة، ونتائج عكسية، بخلاف ما خُطط لها، خاصةً إن فُرضت على دولٍ ذات امتيازاتٍ نفطيةٍ كبيرةٍ؛ ففرض عقوبات صارمة إضافية على روسيا قد يساعد أوكرانيا؛ لتجاوز الأزمة في الأجل القريب، لكنه يخاطر بتسريع حركة أوسع؛ لإبطال “الدولرة”، قد تعمل في الأجل البعيد على إضعاف القيادة العالمية الأمريكية في شكلٍ جوهريٍ.
– إن الأزمة الروسية الأوكرانية الحالية هي نقطة تحوُّل اقتصادي رئيسية، وسيكون لها عدة عواقب؛ من بينها تسريع تحوُّل نظام مالي عالمي ثنائي القطب، إلى نظام يعتمد على الدولار، والآخر على الـ(يوان).
– وجود قطب اقتصادي جديد، تتزعمه (روسيا، والصين)، موازٍ للقطب الاقتصادي القائم، الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، سيُحدث نوعًا من التوازن الاقتصادي على المستوى (الدولي، والإقليمي، والمحلي).
– السيناريو الجيوسياسى الأكثر خطورة بالنسبة للغرب حاليًا، سيكون تحالفًا كبيرًا بين (الصين، وروسيا) وربما إيران، تقوده (بكين)، وتوحده ليس بالأيديولوجية، بل بالدوافع المشتركة، ولتجنب هذا الاحتمال، مهما كان بعيدًا، سيتطلب عرْضًا للمهارة الجيوستراتيجية الأمريكية على جميع محيط أوراسيا، في وقتٍ واحدٍ، وتعزيز تحالفات الولايات المتحدة مع القوى الناشئة، وإقامة علاقات أوثق مع القارة الأفريقية، سيكون أمرًا ضروريًّا للغرب، مع دخوله حقبة جديدة من المنافسة الجيوسياسية.