إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة:
أسبغ التطور التكنولوجى تأثيره على عالم الاقتصاد الرقمى، فبدأت البنوك بتوجيه تلك التطورات لخدمة عملاءها لتختصر وقت الانتظار داخلها أو خارجها، وهو ما يعنى أن تغيرات جوهرية ستطرأ على أداء البنوك التقليدية وأنظمة الخدمات بفضل التفاعل الرقمى، من خلال التعامل على الهواتف الذكية والحوسبة السحابية، وبالتوازى، قطعت مصر شوطاً كبيراً
فى مكننة المعاملات المالية، وتسعى إلى الإفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعى لدخول عالم البنوك الرقمية.
كان قد بدأ البنك المركزى اللحاق بركب التطورات، حين وافق على الترخيص لبنوك رقمية تقدم خدماتها عن طريق الإنترنت بدلاً من تقديمها من خلال مقر رئيسى وفروع، فى ضوء سعى لرقمنة حياة المواطنين من خلال التعامل اللانقدى، وذلك بهدف إحداث تطورات
فى المعاملات البنكية ولخلق بيئة تنافسية ومستدامة تخدم الإصلاح الإقتصادى، ولتعزيز قدرة النظام المالي على تعبئة المدخرات وإعادة ضخها في شرايين الاقتصاد عبر الكيانات الاقتصادية من خلال حلول تمويلية واستثمارية وسيطة ما يرفع كفاءة الاقتصاد المصرى.
لذا أصدر البنك المركزى قانون عام 2020، وتمت الإشارة فيه إلى المصارف الرقمية صراحة، مع شمولها فى قواعد تأسيس المصارف وعملها وضوابطهما في شكل عام، إلا أن قرار الموافقة على إصدار قواعد ترخيص وتسجيل المصارف الرقمية والرقابة والإشراف عليها صدر منتصف يوليو 2023، وهو ما شكل إشارة البدء الحقيقية لاستيعاب ذلك النوع من البنوك فى مصر.
القطاع المصرفى المصرى:
القطاع المصرفى فى مصر من أقوى القطاعات فى القارة، وفق تصنيف “أفريكان بيزنس” لأفضل 100 بنك، فاثنان من المراكز الثلاثة الأولى من مصر (البنك الأهلي المصري وبنك مصر)، ويأتى البنك التجارى الدولى فى المرتبة التاسعة. ومن بين أفضل 100 بنك، يوجد 25 بنكًا مصريًا، ويعلل نائب رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى المصرى ذلك، بأن الإصلاحات التى بدأت فى عام 2003، أدت إلى تعزيز وتنويع القطاع المصرفى، مما سمح بمشاركة الكيانات المحلية والأجنبية، ويوجد اليوم 36 بنكاً عاملاً فى البلاد، وجميعها تتمتع برأس مال جيد، بجانب زيادة الحد الأدنى لرأس المال التشغيلى الذي يطلبه البنك المركزى، والذي يبلغ حاليًا 5 مليارات جنيه مصرى.
ومن المهم معرفة أن معدلات انتشار الخدمات المصرفية آخذة فى الارتفاع رغم التحديات المستمرة، فقد ارتفع معدل الوصول إلى الخدمات المصرفية فى عام 2022، بنسبة تقارب 48% من السكان، مقارنة بـ 45% في عام 2017، ويرجع هذا النمو إلى التوجه للخدمات المالية عبر الهاتف المحمول والخدمات المصرفية الرقمية. ومع ذلك، لا يزال ما يقرب
من 50٪ من سكان القارة لا يتعاملون مع البنوك، مما يشير إلى إمكانات كبيرة لمزيد من النمو فى هذا القطاع، وتتوقع شركة “ماكينزى” معدل نمو سنوي قدره 10% في سوق الخدمات المالية الأفريقية، مما سيدر إيرادات بقيمة 230 مليار دولار بحلول عام 2025.
مصر سوق واعدة:
تتجه مصر للتوسع فى “الشمول المالى” بوضع استراتيجيات وبالترويج لأهمية ذلك التوجه، إذ وصل عدد المواطنين الذين لديهم حسابات فى البنوك وفى مكاتب البريد، إضافة إلى محافظ الهاتف المحمول والبطاقات المسبقة الدفع (مثل بطاقة “ميزة”)، إلى نحو 42 مليون مواطن، فيما بلغ عدد محافظ الهاتف المحمول 34 مليون محفظة، فيما حققت شبكة المدفوعات اللحظية (الفورية) “إنستا باى”، التي أطلقتها “شركة بنوك مصر” وتتيح التحويلات الفورية إلى عملاء البنوك والبطاقات البنكية والمحافظ الإلكترونية نجاحاً مهما منذ انطلاقها في نهاية فبراير 2022.
وتهيمن مصر على سوق شركات التكنولوجيا المالية وفق ما أعلنت “فوربس الشرق الأوسط” لعام 2023، حيث أشارت لأقوى 30 شركة عاملة فى مجال التكنولوجيا المالية فى الشرق الأوسط، وجاءت مصر فى المقدمة بـ8 شركات، تلتها السعودية بـ6 شركات ثم الإمارات والكويت بـ5 شركات لكلتيهما، وسط هيمنة لشركات المدفوعات على قائمة شركات التكنولوجيا المالية، وجائت شركة “فورى لتكنولوجيا البنوك والمدفوعات الإلكترونية” المصرية فى صدارة تلك الشركات، بحجم عملاء يقترب من 50 مليون عميل وحجم معاملات بلغ 6,8 مليار دولار عام 2022.
التوجه نحو أفريقيا:
تتوسع البنوك المصرية داخل القارة السمراء عبر الفروع ومكاتب التمثيل، وتهدف إلى دعم حجم التجارة بين مصر والدول الأفريقية وتعزيز المصالح المشتركة، فوضعت إستراتيجية طموحة عبر منح المزيد من البرامج التمويلية المختلفة لرجال الأعمال، لتمويل عمليات الاستيراد والتصدير بهدف الاستفادة من الفرص الاستثمارية الضخمة داخل القارة فى مختلف المجالات.
وانعكس وجود فروع للبنوك المصرية داخل أفريقيا بشكل إيجابى على تصنيف الجدارة الائتمانية، وتمثل 4 بنوك التواجد المصرى فى القارة الأفريقية وهى: الأهلى المصرى، والبنك التجارى الدولى، والقاهرة، وبنك مصر، وتواجدت هذه البنوك فى 6 دول أفريقية منها 4 دول من حوض النيل وهى إثيوبيا، والسودان، وكينيا، وأوغندا، بجانب جنوب أفريقيا، وكوت ديفوار.
فى نفس السياق وبشكل مختلف، قرر البنك الأهلى المصرى زيادة حصته فى رأس مال البنك الأفريقى للتصدير والاستيراد (أفريكسيم بنك) بمبلغ 326.6 مليون دولار، وقال رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى المصرى إن تلك الزيادة فى رأس مال «أفريكسيم بنك» تأتى فى إطار إستراتيجية البنك الداعمة لتوجهات الدولة، والبنك المركزى لتنمية التعاون المشترك بين دول القارة الأفريقية خاصة فى القطاع المصرفى، وكذلك دعم حركة التجارة البينية بين دول القارة، كما أعلن بنك القاهرة مؤخرا زيادة استثماره فى نفس البنك، وبتلك الخطوة، تصبح مصر من أكبر مساهمى «أفريكسم بنك» الذى ينشئ مقره الرئيسى بالعاصمة الإدارية الجديدة، والذى يلعب دورا مهما فى تعزيز حركة التجارة بين إفريقيا والعالم.
تعاون مع الاقتصاد الأفريقي الأكبر:
وقع البنك المركزى المصرى ونظيره النيجيرى مذكرة تفاهم وهما اثنين من أكبر الاقتصادات فى إفريقيا، حيث اتفقا على إنشاء “جسر التكنولوجيا المالية”، وفى حين أن النطاق الكامل للتعاون لم يتم تفصيله بعد، إلا أنه من المتوقع أن تشمل الشراكة بين البنكين المركزيين مشاريع تنظيمية مشتركة، وترخيص منسق وأطر قانونية، وتبادل المعلومات والبيانات، والإحالات التبادلية للتكنولوجيا المالية، وتطوير المواهب.
فهذه الخطوة موجهة بشكل خاص نحو تحسين الشمول المالى، ومن المأمول أن يتيح التعاون المصرى – النيجيرى فى مجال التكنولوجيا المالية الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية لمزيد من المواطنين من كلا البلدين، حيث يوجد فى القاهرة وأبوجا حاليًا أكبر عدد من السكان الذين لا يتعاملون مع البنوك فى أى مكان في العالم.
يقول الرئيس التنفيذي لشركة المدفوعات الأفريقية MFS Africa: هذه الخطوة مهمة لأنها تأتى فى وقت يدعو فيه المزيد من قادة التكنولوجيا المالية إلى تعاون أكبر بين البلدان الأفريقية لدفع الصناعة إلى الأمام، حيث إن البلدان الأفريقية بحاجة إلى دمج أسواق التكنولوجيا المالية الخاصة بها من أجل إطلاق العنان لإمكاناتها الاقتصادية الكاملة.
آفاق أرحب للتوسع:
التوسع الإنمائى والاستثمارى المصرى فى إفريقيا متنوع، ويشمل حتى الجوانب اللوجستية لزيادة الصادرات مثل نجاح مصر فى إنشاء 6 مراكز لوجستية فى عدد من دول أفريقيا (كينيا-المغرب- موريشيوس- نيجيريا- وزامبيا- الجزائر) من إجمالى 12 مركزا لوجستيا مستهدفا، وذلك فى سياق مواز مع التوسع المصرفى الذى يخدم نفس السبب من خلال تدعيم التجارة مع إفريقيا بمنح المزيد من البرامج التمويلية لتمويل عمليات التصدير والاستثمار لرجال الأعمال، ويمكن تطوير خطط التوسع اللوجيستى فى القارة من خلال تشجيع رجال الأعمال المصريين على الاستثمار فى شراء أسهم فى موانئ القرن الافريقى، بما يحقق مصالح مصر الاستراتيجية، فالقرن الافريقى ساحة للتنافس اللوجيستى بين القوى الاقليمية تحديدا، ودخول مصر يمنح لها ميزة استراتيجية للعب دور أكبر وامتلاك نفوذ أوسع على حساب إثيوبيا باعتبارها دولة حبيسة وتمر تجارتها عبر موانئ جيبوتى وإريتريا.
إفريقيا تتحرك مصرفيا:
لدى إفريقيا مسعى جديد لإنشاء وكالة التصنيف الائتمانى الخاصة بها، فالتحيز والجهل ببيئة العمل فى القارة يؤدى لانحراف التصنيفات الائتمانية لإفريقيا، حيث يتم تصميم وكالات التصنيف الائتمانى لتقييم الجدارة الائتمانية للحكومات أو الشركات المملوكة للدولة أو الشركات الخاصة أو المقترضين الآخرين لتمكينهم من الحصول على التمويل.
ويتم بعد ذلك استخدام المعلومات التى يقدمونها لمساعدة المستثمرين على اتخاذ القرارات بشأن المخاطر والعائد وأسعار الفائدة المناسبة، وبالتالى فإن التصنيف الائتمانى له تأثير كبير
على قدرة المقترضين على جمع التمويل وسداده. ومع ذلك، هناك شعور متزايد بأن الاعتماد على الوكالات القائمة لا يخدم الاحتياجات الأفريقية، وأن الأمر يتطلب إنشاء مؤسسة جديدة تركز على القارة.
والهدف من وراء ذلك ليس استبدال وكالات التصنيف الأخرى التي تحتاجها الدول الإفريقية لدعم الوصول إلى رؤوس الأموال الدولية، وإنما هو توسيع قاعدة تنوع الآراء فى هذا المجال”، ففى الوقت الحاضر، تسيطر وكالات التصنيف الائتمانى الثلاث الكبرى التى تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، وهي “موديز وفيتش وستاندرد آند بورز”، على 95% من قطاع التصنيف الائتماني العالمي. وكل منها يقدم تصنيفات لاقتصادات أفريقية مختلفة، مع وجود 32 دولة فقط مشمولة فيما بينها ككل، مما يجعل من الصعب مقارنة الجدارة الائتمانية للحكومات المختلفة.
يأتى ذلك فى وقت تقدر فيه الديون الإفريقية بنحو تريليون دولار فى 2022، إذ تضاعفت خمس مرات منذ عام 2000، وتتركز 66 في المئة من الديون في 9 بلدان تتصدرها جنوب إفريقيا، بينما تعاني 22 دولة من عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الدائنين، وهو ما يؤثر على تصنيفه الإئتمانى، وبالتالى يضع العراقيل أمام قدرتها على الإقتراض لتمويل التنمية.