إعداد: مصطفى مقلد
شكل الانقلاب على الرئيس “بازوم” فى النيجر لطمة جديدة على وجه الإستاتيكو الحاصل فى غرب إفريقيا، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية، فالمنطقة يحكمها النفوذ الغربى، وتسعى الوحدات السياسية هناك سواء دول الإقليم أو منظمة “الإكواس”، لمحاولة التعاطى مع المستجدات السياسية ومواكبتها، فى ضوء عدم قدرتها على إعادة عقارب الساعة للخلف فيما يخص الانقلابين العسكريين فى مالى وبوركينا، غير أن التعامل اختلف هذه المرة مع النيجر، وأشار قادة الإقليم لإمكانية استخدام القوة العسكرية، ويمكن إرجاع ذلك إلى ظروف دولية جديدة ولطبيعة العلاقة الاقتصادية للنيجر مع فرنسا تحديدًا، ولموقعها الجغرافى.
تقع النيجر فى قلب منطقة الساحل، وتعتمد فرنسا فى 20% من احتياجاتها للطاقة على اليورانيوم النيجرى[1]، كذلك كانت ساحة ارتكاز لمواجهة الإرهاب والتطرف، بجانب أنها على مدار العقد الماضى شهدت تحديات لترجيح كفة الحكم الديمقراطى، ولا تريد فرنسا أن تخسر رقعة جيوسياسة جديدة لصالح “فاغنر” التى دعمت دعائيًا الانقلاب أو روسيا التى دعت للرجوع للحكم الدستورى، لكن من ناحية أخرى، رفضت التدخل العسكرى فى النيجر وهو ما يفتح مساحات أوسع لقادة الانقلاب للمضى قدمًا خاصة فى ظل تشابه الموقف الأمريكى مع نظيره الروسى فى التأكيد على ضرورة تبنى المفاوضات لا الحرب.
ويمكن النظر للموقف الأوروبى الأكثر حدة عن غيره من خلال عدسة “البحث عن الطاقة”، فتغير النظام فى النيجر لمناوئة الغرب وتحديدًا فرنسا، يزيد أعباء الطاقة على أوروبا فى غضون الحرب (الروسية – الأوكرانية)، وفى ضوء تحول أوروبا للأسواق الإفريقية للحصول على الغاز كمصدر طاقة، ويظهر بجلاء ارتدادات أزمة انقلاب النيجر على الغاز النيجيرى، حيث اتفق الطرفان الجزائرى والنيجيرى فى نوفمبر 2020، على المضى فى تنفيذ المشروع الذى تكون فيه النيجر دولة العبور الوحيدة، وفى يوليو 2022، أعلنت السلطات الجزائرية توقيع مذكرة تفاهم جديدة مع النيجر ونيجيريا للشروع فى تنفيذ مشروع خط أنابيب الغاز العابر للصحراء، وتقدر كلفة المشروع 13 مليار دولار، وقد ينقل ما يصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا لأوروبا[2].
وهو ما انعكس على موقف الجزائر والذى جاء متحفظًا، حيث انتقدت الجزائر الانقلاب فى النيجر، لكنها فى الوقت نفسه تعارض أى تدخل إقليمى عسكرى، فتدهور الوضع الأمنى سيكون له عواقب غير متوقعة على إنشاء الخط، خاصة أن الانقلاب أدخل الدولة فى نفق مجهول، وسيتطلب ذلك مدة زمنية لإعادة ترسيخ معالم الاستقرار السياسى وعودة الأمن فى هذا البلد.
من ناحية أخرى، يبرز أنبوب (نيجيريا- المغرب) الذى أعلنت حكومة المغرب أن مشروع خط نقل الغاز (النيجيرى – المغربى) البرى والبحرى، سينقل الغاز الطبيعى من “أبوجا” إلى “الرباط” عبر 13 دولة إفريقية فى غرب وشمال القارّة، والذى يتجنب المرور فى دول الاضطراب، وقد وقع المغرب مع مجموعة دول غرب إفريقيا “إكواس”، فى 15 سبتمبر 2022، مذكرة تفاهم لإنجاز أنبوب الغاز بين “الرباط وأبوجا” بحلول عام 2047، ويمثل العامل الزمنى تحدٍ آخر لأوروبا للحصول على الطاقة بشكل عاجل.
على صعيد آخر، أعاد اكتشاف حقل “السلحفاة” الذى يقدر احتياطه بنحو 25 تريليون قدم مكعب للغاز[3]، آمال الموريتانيين والسنغاليين، على حد سواء، للتحول كوجهة جديدة لتصدير الغاز، وهو ما يمثل لحظة مهمة فى حياة الملايين من السكان الذين يعيشون فى إحدى أفقر مناطق غرب إفريقيا على أمل أن تساعد عوائده فى رفع مستوى التنمية وانتشال الاقتصاد من الركود.
ويوازى ذلك، مخاوف من ارتفاع حدة التوتر فى العلاقات بين “نواكشوط ودكار”، حيث لم تتوقف خلافاتهما على الحدود أو فيما يخص الثروة السمكية أو المهاجرين منذ حصول البلدين على الاستقلال عام 1960، خاصة أنه سبق وأن عانى البلدان من حربٍ أهلية دامية عام 1989 تحولت إلى مواجهة عسكرية بين البلدين، وبات يُنظر للغاز الموريتانى كبديل محتمل لتعويض الإمدادات الأوروبية من الغاز الروسى، إذ من المتوقع أن يبدأ إنتاج الغاز من حقل “السلحفاة” المشترك مع السنغال نهاية العام.
وتسعى السلطات الموريتانية إلى الاستثمار بشكل سريع فى هذا القطاع، وتجنب أى خلاف قد ينجم بسبب حساسية الوضع السابق بين “نواكشوط ودكار”، وكان البلدان قد وقعا عقدًا مع الشركة المكلفة بالتنقيب والاستخراج لتقاسم الغاز ما بدد إلى حد ما المخاوف من نشوب خلافات بين البلدين فى الوقت الراهن، ورفع حجم التطلعات باستغلال الثروة الغازية المكتشفة بالمحيط الأطلسى لإنعاش اقتصاد البلاد.
وتبدو الأرقام المعلنة عن حجم الإنتاج المتوقع، التى فاقت 10 ملايين طن سنويًا، مشجعة، بخاصة مع إعلان الشركات العاملة فى مجال التنقيب[4]، اكتشاف حقول غازية أخرى، وسعى شركات عملاقة لدخول مجال التنقيب عن الغاز فى الساحل الموريتانى، ويحظى الغاز المكتشف فى غرب موريتانيا والسنغال على اهتمام الدول الأوروبية نظرًا للموقع القريب منها.
ويتوقع المراقبون أن تصبح البلاد، نهاية عام 2023، ثالث دولة فى إفريقيا بعد نيجيريا والجزائر فى مجال تصدير الغاز، وقد بدأ عدد من شركات التنقيب العالمية البحث عن فرص استثمار فى دول غرب إفريقيا فى مجال النفط والغاز، من بينها شركات تربطها عقود حاليًا مع موريتانيا وهى “بريتش بتروليوم” البريطانية، وشركتا “كوسموس إنرجى” و”إكسون موبيل” الأميركيتان و”توتال” الفرنسية.
فى سياق آخر، يخشى الغرب أن تشق موريتانيا “شريكة الناتو” طريقها نحو الصين وروسيا، حيث أعادت زيارة الرئيس الموريتانى إلى الصين الحديث فى “نواكشوط” عن التفات موريتانى نحو الشرق، تتشكل ملامحه خلال الآونة الأخيرة، خاصة أنها جاءت بعد مشاركة وزيره الأول “محمد ولد بلال” فى القمة الروسية الإفريقية التى احتضنتها مدينة “سانت بطرسبورغ.
وفى تحليل حديث لمعهد الأبحاث (AidData)، ومقره الولايات المتحدة، قال إن “الجيش الصينى يخطط لبناء مجموعة من القواعد البحرية بالخارج، ولفت التقرير إلى أن “نواكشوط” طُرحت كخيار جذاب بالنسبة إلى الصينيين، وارتكز معدو التقرير على مؤشرات تجعل من هذا الخيار أولوية لبكين من بينها “حجم الاستثمارات الصينية الكبير فى موريتانيا، إضافة إلى قرب هذا البلد العربى من أوروبا”، وبحسب صفحة الرئاسة الموريتانية فإن من نتائج الزيارة الأخيرة للرئيس الموريتانى إلى الصين، إعفاء بكين “نواكشوط” من ديون 150 مليون يوان صينى (20 مليون دولار أمريكى) من ديون مستحقة عليها، وتوجيه الشركات الصينية إلى الاستثمار فى موريتانيا، وتوقيع اتفاقية إطار بين البلدين، فى شأن مبادرة الحزام والطريق.
ويتوقع مراقبون ألا يصل الأمر إلى وجود قواعد، لأن موريتانيا مرتبطة بعلاقات جيدة مع الناتو، ولأنها رسميًا من الدول التى ترفض الوجود العسكرى الأجنبى على أراضيها، لكن التعاون بين “نواكشوط وبكين” -ما دون الوجود العسكرى- قد يبلغ مداه، وتعتمد المقاربة الدبلوماسية الموريتانية على التعاون مع حلف “الناتو” دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها الجيدة مع الشرق، ويعتمد “الناتو” على شراكته مع موريتانيا للتصدى لمخاطر الإرهاب وتهريب المخدرات والهجرة، فى منطقة الساحل، كما يعول على نجاح مقاربتها الأمنية ضد انتشار الجماعات المسلحة، وسيطرتها على كامل أراضيها، فى ظل سياق أمنى معقد تمر به المنطقة.
إذن موريتانيا تحاول إجادة اللعب على الجانبين ومسك العصا من الوسط، خاصة وأن الأوضاع المضطربة فى منطقة الساحل دفعت إلى تنامى ظاهرة الاصطفاف بين دول مجموعة الساحل فى تحديد علاقاتها مع محورى الشرق والغرب، إذ ارتمت كل من مالى وبوركينا فاسو فى الحضن الروسى، وتذبذب موقف حكام نيامى الجدد من التوجه شرقًا، ولم يعد للمعسكر الغربى إلا تشاد الحليف الإستراتيجى لفرنسا.
وهذا الوضع يخلق جاذبية أكبر لموريتانيا فى أعين الشرق والغرب، وهو ما يحمل ميزات وتحديات فى مجال الطاقة الموريتانى، وتحديات إقليمية تتمثل فى اضطرار موريتانيا إلى التعامل مع المتغير الجديد الذى طرأ على المنطقة، فدول الساحل ستعانى بعد انقلاب النيجر، فالمجموعة “إكواس” جمدت عضوية مالى، وقد انعكس ذلك عليها سلبًا وعرقل جهود مكافحة الإرهاب، وفى ضوء انتظار أن تصحح تلك الدول وضعيتها وقبولها كشريك جديد بمقاييس جديدة والاضطرار للتعاون معها، تبقى مآلات مستقبل تجمع دول الساحل معلقةً، وهو ما قد تتأثر به التنمية والاستثمار فى مجال الطاقة الموريتانى.
ختامًا:
فإنه للوهلة الأولى يبدو أن موريتانيا وجهة مثالية لأوروبا لإشباع حاجتها من الطاقة، غير أن التحديات الأمنية هناك تجعل تدفقات الغاز مهددة بانتشار حمى الانقلابات العسكرية المفاجئة، وكذلك رغبة موريتانيا فى الانفتاح والتوجه شرقًا، وعلى المدى القريب فإن أوروبا لن تتوانى فى الاستفادة من الغاز فى غرب إفريقيا وشرق المتوسط باعتبارهما الأسواق الأقرب إليها جغرافيًا، ويزيد ذلك النهم، قرب حلول فصل الشتاء، والحاجة لملء الخزانات لضمان توفر الإمدادات للتدفئة، وتخطى ذلك للوصول إلى مصدر مستدام.
[1] مخاوف وتساؤلات بشأن مدى اعتماد فرنسا على يورانيوم النيجر.. https://2u.pw/Rq3RKqV
[2] مذكرة تفاهم بين الجزائر والنيجر ونيجيريا لبناء خط غاز عابر للصحراء.. https://2u.pw/pSrz2Tu
[3] غاز موريتانيا والسنغال بين المستبشرين خيرا والقلقين.. https://2u.pw/wBRyV9b
[4] نفس المرجع.