المقالات
“الدين”.. قوة ناعمة لروسيا فى إفريقيا
- أغسطس 26, 2023
- Posted by: mohamed mabrouk
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الدراسات الأفريقية
إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة:
بينما يركز اهتمام العالم على القتال فى أوكرانيا، كان بطريرك موسكو “كيريل” فى تحدى النظام الراسخ للمسيحية الأرثوذكسية، من خلال نقل كنيسته الأرثوذكسية الروسية إلى إفريقيا حيث تتطلع الأرثوذكسية الروسية إلى التوسع هناك، ومن المفهوم أن “كيريل” يعتزم معاقبة الزعماء الأرثوذكس فى البلدان الأخرى الذين دعموا الكنيسة الأوكرانية الانفصالية، ففى نهاية العام الماضى، بينما كان الكرملين يركز جهوده على الحرب فى أوكرانيا، أعلنت بطريركية موسكو أنها بصدد إنشاء إكسرخسية – وهى سلطة كنسية كبيرة – فى إفريقيا.
سياق تاريخى:
فى عام 1990، تحت ضغط من الحملة القومية من أجل الاستقلال، أحيت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الوضع شبه المستقل لكنيستها التابعة فى أوكرانيا، وأعادت تسميتها إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (UOC)، لذلك وُجِدت كنيستان أرثوذكسيتان متنافستان فى أوكرانيا منذ ذلك الحين، حيث كنيسة (UOC) الموالية لموسكو، وكنيسة ((UOC-KP التى تمثل أوكرانيا المستقلة، وتطور الأمر فى 15 ديسمبر 2018، حينما عقد نحو 190 أسقفًا وكاهنًا وقادة من الكنيسة فى أوكرانيا اجتماعًا داخل كاتدرائية “سانت صوفيا” بحضور الرئيس الأوكرانى لانتخاب رئيس الكنيسة الأوكرانية الموحدة الجديد، معلنين “تأسيس كنيسة أرثوذكسية مستقلة خاصة ببلادهم”، ليغيروا تقليدًا دينيًا يمتد عمره إلى ما يزيد على 300 سنة، إذ كانت كنيسة كييف تابعة إلى موسكو، وقد أيدت البطريركية القسطنطينية المسكونية (المقر التاريخى للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية) بإسطنبول تلك الخطوة.
وتعتبر أوكرانيا ذلك التحرّك خطوة مهمة ضد التدخل الروسى فى شؤونها، إذ تتهم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بممارسة نفوذ خبيث على أراضيها، من خلال السماح بأن يستخدمها الكرملين أداة لـ”تبرير النزعة التوسعية الروسية ودعم المتمردين الانفصاليين فى شرق أوكرانيا”، غير أن الخطوة جاءت بدعم أمريكى بعد أن وضع بطريرك القسطنطينية “برثلماوس الأول” أوكرانيا تحت الولاية الكنسية لرئيس أساقفة أمريكا “دانييل بامفيلون” والأسقف الكندى “إيلارون”، اللذين يرأسان الكنائس الأوكرانية الأرثوذكسية فى كلا البلدين، ففى 2018، كان قد شجع وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، السلطات الأوكرانية وممثلى الكنائس على التحرك نحو إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة.
دوافع التوسع:
تعد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أكبر مجتمع أرثوذكسى فى العالم، ويمثل منح البطريرك المسكونى فى إسطنبول “برثلماوس الأول” حق الاستقلال للكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية، حرمان بطريركية موسكو الأرثوذكسية من ثُلث رعاياها، لذلك فقد شكَّل دعم استقلال الكنيسة الأوكرانية عن موسكو تهديدًا خطيرًا لكل من الروايات التأسيسية لروسيا، وكذلك ادعاءات موسكو بالتفوق الروحى، لذا تزعم وسائل الإعلام الروسية التى تسيطر عليها الدولة أن “برثلماوس الأول” هو مجرد أداة لتنفيذ مؤامرات الناتو وأمريكا.
وقد دعمت ثلاث كنائس أرثوذكسية أخرى الاستقلال هى: الإسكندرية واليونان وقبرص، ما أغضب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهددت بعواقب وخيمة الكنائس التى تدعم البطريركية الأوكرانية، وبالفعل قطعت موسكو من جانب واحد شراكتها مع القسطنطينية والإسكندرية وأثينا ونيقوسيا، وفى 29 ديسمبر 2021، قرر المجمع المقدس لبطريركية موسكو إنشاء “إكسرخسية” روسية للقارة الإفريقية بأكملها، تتكون من أبرشيتين: واحدة لشمال إفريقيا وواحدة لجنوب إفريقيا، وسيكون لقب أسقف الأبرشية الشمالية “للقاهرة وشمال إفريقيا”، ورأى الكثيرون فى هذا القرار انتهاكًا للحقوق القديمة للبطريركية السكندرية، وفى حالة نجاحها، فإن الإكسرخسية الجديدة سوف تجذب الكهنة وأبناء الرعية بعيدًا عن بطريركية الإسكندرية، مما يضعف المؤسسة القديمة.
من ناحية أخرى، لا يستخدم بوتين نفوذه السياسى فحسب، بل يستخدم أيضًا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فى إفريقيا، باعتبارها قوة ناعمة يتمتع بها نظام بوتين تساعده فى تعزيز الوجود الروسى فى إفريقيا، فاتباع القيادة الروحية لموسكو يعنى قبول الأجندة السياسية للكرملين، كما أنه نظرًا لافتقارها إلى الوسائل الاقتصادية والمالية اللازمة لمواكبة تمدد الصين فى القارة، فإنها تتطلع إلى نشر تفوقها الدينى لكسب النفوذ السياسى، غير أنه لا يزال يتعين على روسيا أن تهزم كنيسة الإسكندرية إذا كانت تريد توسيع نطاق نفوذها فى إفريقيا.
وفى 28 يوليو 2023، خلال القمة (الروسية – الإفريقية) فى سانت بطرسبرغ فى روسيا، أعرب البطريرك الروسى “كيريل” عن رغبته فى توسيع الكنائس الأرثوذكسية الروسية فى إفريقيا، فالأمر له بعد جغرافى سياسى، إذ يعنى أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم تعد أكبر كنيسة أرثوذكسية بالعالم، وسيكون للقسطنطينية حليفٌ أوكرانى قوى فى تعاملها مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فى حين أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية معادية للغرب مثل نظام بوتين، بينما ستكون الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة ذاتيًا “مؤيدة أوروبا”.
تدعى الكنيسة الروسية أنها تتوسع إلى إفريقيا باسم الأعراف الكنسية القديمة، لكن المفارقة هى أن مثل هذه القواعد تُنتهك من أجل التوسع، حيث يشير القانون الكنسى للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية إلى مجموعة من المبادئ التوجيهية واللوائح التى تحكم تصرفات أتباعها البالغ عددهم 220 مليونًا، وتحدد أيضًا الولايات القضائية الجغرافية.
علاقة كيريل بالكرملين:
ويرى مختصون فى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، أن كيريل يعدّ المرشد الروحى لبوتين، ويحكى الكثير عن دوره فى شدّ العصب الدينى خلف المؤسسة العسكرية الروسية، ولأن كيريل مزيج من السياسى والكنسى، فقد بدا واضحًا أنه داعم للعمليات العسكرية الروسية، فى شبه جزيرة القرم، والتدخل الروسى فى سوريا، والغزو الروسى لأوكرانيا، وصرح فى بدايات الأزمة بأن ما يجرى هو جزء من معركة حضارية ضد الانحطاط الغربى، وأن روسيا تخوض حربًا دينية من نوع ما، ودعا الروس إلى “الالتفاف حول السلطات، وصد الأعداء الخارجيين والداخليين”.
كان قد أُنتخب الأسقف كيريل بطريركًا لموسكو وسائر روسيا، فى عام 2009، وبات بذلك القائد الروحى لنحو 110 مليون مسيحى أرثوذوكسى، خلفًا للبطريرك ألكسى الثانى، وتولى لسنوات طويلة العمل فى دائرة العلاقات الكنسية الخارجية فى بطريركية موسكو، لذلك يعتقد أنه كان على صلة بالاستخبارات السوفيتية، إلى جانب دوره فى إعادة هيكلة الكنيسة الأرثوذكسية إداريًا، ويعرف عن كيريل بأنه من أبرز حلفاء بوتين، فعند انتخاب كيريل بطريركًا عام 2009، حضر بوتين المراسم، وكان رئيسًا للوزراء فى حينه.
إلى جانب مواقف كيريل الداعمة سياسيًا لبوتين، اتفق المحللون على أنه ذراعًا ثقافية قوية للسلطات فى روسيا، إذ يعتمد نهجًا محافظًا، وتصفه وسائل الإعلام العلمانية الروسية بـ”زعيم الفكر المحافظ الجديد الروسى”، ويعتقد بأنه يشترك مع بوتين فى الرؤية نفسها حول ضرورة إعادة بعث الإمبراطورية الروسية.
الاهتمام بإفريقيا:
كان اهتمام بطريركية موسكو المفاجئ بإفريقيا يوازى اهتمام الكرملين المتزايد بالقارة، حيث تهدف إلى استغلال عدم الرضا العرقى بين بعض موظفى بطريركية الإسكندرية، فكنيسة الإسكندرية بها عدد قليل من الأساقفة الأفارقة، وهم فى الغالب يونانيون مغتربون، ويزعم البطريرك كيريل أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ملزمة بفتح كنائس جديدة للمؤمنين فى إفريقيا، مؤكدا أن بطريركية الإسكندرية فقدت شرعيتها من خلال المناورات السياسية.
وكما هو الحال مع بوتين فى أوكرانيا، قد يجد كيريل أن خططه التوسعية تباطأت أو توقفت بسبب عوامل خارجية لم يأخذها فى الاعتبار، وتعتمد بطريركية موسكو على الدولة الروسية لتمويل تمددها فى الخارج، والعقوبات الاقتصادية الغربية بعد غزو أوكرانيا يمكن أن تؤدى إلى إبطاء أو وقف تدفق الأموال من روسيا إلى إفريقيا، لذا فهذه المغامرة الإفريقية مهددة بأن تكون قصيرة الأمد، فبسبب العقوبات، لم يحصل الكثير من الكهنة الأفارقة على أى أموال، ومنهم من يعود إلى بطريركية الإسكندرية.
واتهم الزعماء الأرثوذكس فى اليونان وألبانيا وأماكن أخرى بطريركية موسكو باستخدام نزاع الكنيسة الأوكرانية كذريعة للتوسع المخطط له منذ فترة طويلة فى إفريقيا، ويطمح “كيريل” فى أن يحظى بنطاق من سلطة “ثيودور الثانى” بطريرك الإسكندرية، حيث يحمل لقب “البابا وبطريرك مدينة الإسكندرية الكبرى وليبيا وبنتابوليس وإثيوبيا وكل مصر وكل إفريقيا، مع وجود أكثر من مليون من المؤمنين الأرثوذكس الشرقيين فى القارة الإفريقية، حيث تمتد سلطة ثيودور الروحية من النيجر إلى جنوب إفريقيا.
لذا يرى البطريرك “كيريل” أن زيادة نفوذه لا يمكن أن يكون إلا من خلال التدخل فى سلطة ثيودور الثانى، وهو يدين علنًا بطريركية الإسكندرية باعتبارها فاسدة ومنحطة، ويدعى أن بطريركية الإسكندرية تحرم الأفارقة من الإرشاد الروحي. وبذلك، فإنه يضفى الشرعية على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بتزويدهم بالإرشاد الروحى، ولا يقتصر هذا التوجيه على المصطلحات الدينية، بل يسعى البطريرك كيريل إلى توجيه العلاقات الروسية الإفريقية من خلال الكنيسة أيضًا.
ويطلب من الكهنة والمؤمنين الأفارقة تغيير ولاءاتهم من الإسكندرية إلى موسكو ويعدهم بالرعاية الاجتماعية والبنية التحتية والمدارس والمستشفيات، ويهدف هذا النهج إلى استغلال احتياجات الشعب الإفريقى.
ومن المفهوم أن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لا علاقة لها بالكنيسة الروسية الأرثوذكسية وليست طرفًا فى النزاع الدائر بينها وبين الروم الأرثوذكس، فالروم الأرثوذكس بمصر هم عبارة عن جالية أجنبية استقرت تاريخيًا بمصر كغيرها من الطوائف، وأن بطريرك الروم الأرثوذكس بالإسكندرية لا يتم تعيينه من السلطات المصرية. بالتالى فالخلاف الدائر لن يؤثر على العلاقات بين موسكو والقاهرة.
مظاهر التوسع:
على مدى العامين الماضيين، توسعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فى إفريقيا، وقد افتتحت أكثر من 200 أبرشية فى 25 دولة إفريقية على الرغم من أن السلطة الأرثوذكسية التقليدية فى إفريقيا تنتمى إلى بطريركية الإسكندرية بمصر، حيث يدعى “كيريل” أن بطريركية الإسكندرية ستقود جماعة المؤمنين إلى مجال النفوذ الغربى، وعلى العكس من ذلك، فإن أجندته الخاصة تعزز طموحات موسكو فى إفريقيا وتؤكد أنه من خلال السعى إلى إقامة علاقات وثيقة مع بطريركية موسكو، يمكن للدول الإفريقية حماية نفسها من الضغوط الخارجية.
وعلى خطى الكرملين لتوسيع نفوذه فى إفريقيا، تواصلت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مع المجتمعات الأرثوذكسية فى جميع أنحاء القارة، وكانت إثيوبيا من بين الدول المستهدفة، وقد تم تأكيد ذلك فى اجتماع فبراير 2022 فى أديس أبابا، عندما استقبل رئيس الكنيسة الإثيوبية، سكرتير العلاقات بين المسيحيين فى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وناقش الثنائى إنشاء أبرشية روسية فى أديس أبابا لأعضاء كنيستها المقيمين هناك.
وقالت موسكو أيضًا إن 102 من الكهنة الأرثوذكس فى إفريقيا انتقلوا بالفعل من بطريركية الإسكندرية إلى الإكسرخية الروسية فى إفريقيا احتجاجًا على اعتراف الإسكندرية بالكنيسة الأوكرانية المستقلة، ووقع على رسالة بهذا المعنى 27 كاهنًا إفريقيًا منهم 19 من تنزانيا، وأربعة من كينيا، وثلاثة من أوغندا، وواحد من زامبيا.
ويمكن لجمهورية إفريقيا الوسطى أن تكون مثالًا على نهج بطريركية موسكو تجاه إفريقيا، ففى جمهورية إفريقيا الوسطى، قام أحد كبار رجال الدين بتحويل ولائه من الإسكندرية إلى موسكو، وكافأ الكرملين ذلك بسخاء من خلال مدارس وبنية تحتية جديدة، كما رحبت أبرشيات شرق إفريقيا الأخرى – جيبوتى ودير داوا- الخاضعة رسميًا لسلطة كنيسة الإسكندرية، بالبطريركية الروسية فى أراضيها القانونية.
الولايات المتحدة فى الكواليس:
زار برثلماوس الأول، البطريرك المسكونى للقسطنطينية والزعيم الروحى لما يقرب من 300 مليون مسيحى أرثوذكسى على مستوى العالم، الولايات المتحدة فى 23 أكتوبر 2021، وكان اللقاء مهمًا للرئيس الأمريكى ومواقفه تجاه روسيا، فالبطريرك المسكونى هو الزعيم الروحى لنحو 1.5 مليون مواطن أمريكى، وطوال حياته المهنية وأثناء حملته الرئاسية، تلقى بايدن دعمًا قويًا من الناخبين من الروم الأرثوذكس، كذلك فإن الرجلين تربطهما علاقة يسودها الدفء، تعود إلى الفترة التى كان فيها بايدن نائبًا للرئيس فى عهد الرئيس أوباما، كما كان “برثلماوس الأول” من بين أوائل الذين هنأوا بايدن على انتخابه رئيسًا، ورد بايدن على البطريرك المسكونى برسالة أعرب فيها عن شكره لرسالة تهنئة البطريرك المسكونى.