أنهت الصين يومين من المناورات الحربية، حملت اسم “السيف المشترك 2024 آيه”، في مضيق تايوان وفي شمال الجزيرة وجنوبها وشرقها، والتي من المرجح أن تكون المناورة الأكبر منذ أبريل 2023، ركزت على “الاستعداد القتالي لدوريات بحرية جوية مشتركة وتوجيه ضربات دقيقة مشتركة على أهداف رئيسية” بحسب وكالة شينخوا الصينية الرسمية. وتأتي هذه التدريبات بعد وقت قصير من تنصيب الرئيس التايواني “لاي تشينغ” وعلى خلفية الحرب التجارية المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة اللتين فرضتا تعريفات متبادلة على بعضهما البعض وتعزيز علاقة الرئيس “شي” مع الرئيس “بوتين” عقب لقاؤهما في بكين والتعهد بزيادة التعاون بعدة طرق.
ونددت تايوان بالمناورات العسكرية الصينية في بيان صادر عن وزارة الدفاع التايوانية جاء فيه: “ندين بشدة مثل هذه الاستفزازات والأفعال غير العقلانية التي تقوض السلام والاستقرار الإقليميين”. والبيان أضاف إنه تم إرسال قوات تايوانية بحرية وجوية وبرية “للدفاع عن الحرية والديمقراطية بإجراءات عملية”، في إشارة إلى تايوان باسمها الرسمي.[1] وصرحت وزارة الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة “تشعر بقلق عميق” إزاء التدريبات العسكرية الصينية في مضيق تايوان وحثتها بشدة على ضبط النفس.[2] كما أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً قال فيه إن التدريبات العسكرية الصينية حول تايوان زادت من التوترات عبر المضيق، وحث جميع الأطراف على ممارسة ضبط النفس وتجنب الأعمال التي تزيد من تصعيد التوترات.[3] وحسبما صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الاسترالية، “بيني وونغ”، أن استراليا تشعر بالقلق من أن العمليات العسكرية الصينية واسعة النطاق في مضيق تايوان قد تتسبب في وقوع حادث أو تصعيد التوترات.[4]
لـمـحـة تـاريـخـيـة
كانت الجزيرة، التي تبعد حوالي 100 ميل عن ساحل جنوب شرق الصين، تحت سيطرة الإمبراطورية الصينية في القرن 17، وأصبحت مستعمرة يابانية في عام 1895، وذلك عقب هزيمة إمبراطورية تشينغ الحرب الصينية اليابانية الأولى، ومع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، استطاعت الصين أن تستولى على الجزيرة بقيادة حكومة الجنرال ” تشيانج كاي شيك ” القومية، ومع اندلاع الحرب الأهلية الصينية، وانتصار الحزب الشيوعي بقيادة “ماو تسي تونغ” ضد قوات “تشيانج” في عام 1949، وفرار تشيانج وما تبقى من الحزب القومي أو حزب الكومينتانغ إلى تايوان، وأطلقوا عليها أسم جمهورية الصين وعاصمتها تايبيه، كما أسس “ماو” حكومته الخاصة في بكين، وكلاهما أعلن نفسه الحكومة الصينية الشرعية الوحيدة.
ويشير التايوانيين إلى هذا التاريخ ليجادلوا بأنهم لم يكونوا جزءا من الدولة الصينية الحديثة التي تشكلت في عام 1911، أو جمهورية الصين الشعبية التي تأسست في عام 1949، فيما تعتبر الصين تايوان إقليماً منشقاً تسعى للسيطرة عليه،[5] وتطالب بها من خلال سياسة “صين واحدة”، وتعهدت بإخضاعها لحكمها، بالقوة إذا لزم الأمر. ومن الجدير بالذكر أن حملة الحزب الشيوعي الصيني واسعة النطاق لإضفاء الشرعية على مطالبة البلاد بتايوان باعتبارها “جزء لا يتجزأ من الصين”، قد نجحت في ترسيخ الفكرة في أذهان الشعب الصيني، فعقب الاستيلاء على التبت في خمسينيات القرن الماضي وهونغ كونغ وماكاو في التسعينيات، تبقى تايوان هي الخطوة الأخيرة الواضحة التي لابد من إعادتها مرة أخرى.[6]
وترتبط تايوان بروابط قوية مع الصين، والتي تعد أكبر شريك تجاري لها، حيث بلغ إجمالي حجم التجارة 224 مليار دولار في عام 2023، كما تعد وجهة الاستثمار المفضلة لتايوان، حيث تستثمر الشركات التايوانية أكثر من 100 مليار دولار هناك، إلا ان تشجع تايوان شركاتها على تحويل استثماراتها إلى دول أخرى مثل الهند وفيتنام لتقليل الاعتماد على الصين.[7]
الأهـمـيـة الاسـتـراتـيـجـيـة لـتــايـوان
تعد تايوان واحدة من أهم القطع الاقتصادية في الاقتصاد العالمي، وذلك كونها مصنعة لرقائق أشباه الموصلات ذات الأهمية الاستراتيجية، والتي يتم تشغيل بها الكثير من الإلكترونيات في العالم، من الهواتف إلى السيارات الكهربائية. إذ تمتلك شركة تايوانية واحدة، وهى شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات، أو TSMC، أكثر من نصف السوق العالمية.
ووفقاً للصين، فإن سيطرتها على الجزيرة، سيمكنها أن تكون أكثر حرية في إبراز قوتها في غرب المحيط الهادئ ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية، وسيكون لبكين سيطرة على صناعة تقود الاقتصاد العالمي.[8] فضلاً عن جغرافيا الجزيرة، إذ يقع في جنوبها قناة باشي، وهي جزء من مضيق لوزون، أحد الممرات المائية الدولية القليلة التي يمكن للقوات البحرية الصينية من خلالها ربط سلسلة الجزر بأمان والوصول إلى غرب المحيط الهادئ الشاسع – وتهديد الأراضي الأمريكية بشكل مباشر بما في ذلك غوام وهاواي والولايات المتحدة القارية.
وتعد الولايات المتحدة أقوى حليف للجزيرة، حيث تقع تايوان في وسط ما يسمى بـ “سلسلة الجزر الأولى”، وهى قائمة بالأراضي الصديقة للولايات المتحدة. وتعتبرها الصين جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الأمريكية لاحتواء الإسقاط العسكري الصيني، كما جعل السلوك العدواني المتزايد للصين في بحر الصين الجنوبي تايوان أكثر أهمية بالنسبة لحسابات الولايات المتحدة. من الناحية الاقتصادية، تعد تايوان واحدة من أهم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، إذ تعد من بين أكبر موردي أشباه الموصلات إلى البلاد، أوتعد أيضاً جزءاً من مجموعة بايدن من “الديمقراطيات التقنية” – وهو تحالف متعدد الأطراف وأيديولوجي لمواجهة الاستبداد الرقمي في الصين.[9]
دلالات عـديـدة
تنطوي المناورات العسكرية الصينية على عدد من الدلالات والرسائل، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
أولًا – تحذير صارم ضد حركات الاستقلال في تايوان:
يُرجح أن تكون خلفية المناورات الحربية التي تمت مؤخراً هو تنصيب الرئيس التايواني “لاي تشينغ تي”، 20 مايو المُنصرم، وفوز حزبه الديمقراطي التقدمي في الانتخابات التي جرت في يناير من العام الجاري.[10] ويُعرف “لاي”، وهو طبيب تحول إلى سياسي، شغل منصب نائب الرئيس منذ 2020، بأنه أكثر راديكالية دعا علناً إلى استقلال تايوان. وفي مقال رأي تم نشره من قِبل صحيفة وول ستريت جورنال، يوليو من العام الماضي، تعهد “لاي” بالحفاظ على الوضع القائم بالجزيرة، باعتبار أن ذلك يصب في مصلحة تايوان والمجتمع الدولي، كما دعا خلال ذلك المقال إلى بناء قدرات الردع العسكري لتايوان، وتعزيز القدرات الإقتصادية، فضلاً عن إقامة شراكات مع الدول الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. وعليه، يتهم الحزب الشيوعي الحاكم في بكين “لاي” بأنه “إنفصالي خطير”، كما فسرت الحكومة الصينية خطاب تنصيبه باعتباره إشارة خطيرة للاستقلال، وهو ما يعد خط أحمر للصين، على الرغم أنه لم يشر حتى الآن إلى رغبته في إعلان ذلك رسمياً. كما رفضت بكين عروضاً متكررة من “لاي” لإجراء محادثات، بما في ذلك عرض هذا الشهر.[11] وصرح المتحدث باسم قيادة المسرح الشرقي لجيش التحرير الشعبي، العقيد البحري “لي شي”، أن المناورات العسكرية تعد بمثابة “عقاب شديد للقوات الانفصالية التي تضغط من أجل استقلال تايوان”. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، “وانغ ون بين”، إن “قوى الاستقلال ستنتهي بجماجم محطمة ودموية” بعد مواجهتها بخطة الصين “الكبرى” من أجل “التوحيد الكامل” مع تايوان.[12]
ثانيًا – استعراض للقدرات العسكرية الصينية والتلويح بإمكانية تنفيذ التهديدات:
بدأت المناورات العسكرية بمشاركة القوات البحرية والقوات الجوية وقوة الصواريخ في مناطق حول تايوان، للتدريب على الاستعداد القتالي المشترك في البحر والجو وكذلك مهاجمة الأهداف الرئيسية وفقاً لقيادة المسرح الشرقي لجيش التحرير الشعبي الصيني. وشملت التدريبات مضيق تايوان وشمال وجنوب وشرق تايوان، وكذلك المناطق المحيطة بجزر كينمن وماتسو ووكيو ودونغين التي تسيطر عليها تايوان، وعلى عكس التدريبات التي أجرتها الصين في العامين الماضيين، تضمنت المناورة الأخيرة تدريبات للاستيلاء على الجزر النائية في تايوان في أي محاولة للحصار.[13]وحسبما أعلنت وزارة الدفاع التايوانية أن الصين قد أرسلت أكبر عدد من الطائرات المقاتلة هذا العام، والذي بلغ عددها 49 طائرة بالقرب من الجزيرة، وحلقت 35 طائرة فوق خط الوسط في المضيق بين تايوان والصين ودخلت منطقة الدفاع الجوي التايوانية. بالإضافة إلى ذلك، شوهدت 19 سفينة بحرية صينية وسبع سفن خفر سواحل صينية. وهو ما يُعتبر استعراض للقوات العسكرية الصينية فضلاً عن التلويح بإمكانية تنفيذ تهديدات بكين وضم تايوان بالقوة إذا لزم الأمر.[14]
أصدر جيش التحرير الشعبي الصيني خريطة تسلط الضوء على مناطق العمليات حول تايوان.[15]
ثالثًا – التحذير من التدخل من قبل القوى الخارجية:
من المرجح أيضاً أن تكون المناورات العسكرية الصينية بمثابة تحذير لحلفاء تايوان بشكل عام، وللولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، من التدخل لدعم الجزيرة. وتعتبر واشنطن أكبر حليف لتايوان، وذلك على الرغم من عدم اعترافها رسمياً بها كدولة نتيجة لتحويل اعترافها الدبلوماسي من تايبيه إلى بكين في عام 1979 على أمل أن تكون الأخيرة بمثابة ثقل موازن للاتحاد السوفيتي. إلا انها لا تقبل ادعاء بكين بأن الجزيرة جزء من الصين، ولكنها تعتبر أن وضع تايوان بعد الحرب، بعد أن “تخلت عنه” اليابان، لا يزال غير محدد. كما تحافظ على علاقات غير رسمية مع تايبيه، مسترشدة بقانون العلاقات مع تايوان ((TRA، وهو تشريع وقعه الرئيس “جيمي كارتر” ودعمه السناتور بايدن آنذاك ليصبح قانونا، ويعد الأداة الرئيسية التي تجري من خلالها الولايات المتحدة مبيعات أسلحة قانونية إلى تايوان، ووفقاً للقانون، فإن واشنطن مُلزمة أن تحافظ على «قدرتها على مقاومة أي لجوء إلى القوة أو غيرها من أشكال الإكراه التي من شأنها أن تعرض الأمن أو النظام الاجتماعي أو الاقتصادي لتايوان للخطر»، وذلك لضمان تحديد مستقبل الجزيرة بالوسائل السلمية “بما يتفق مع رغبات ومصالح الشعب في تايوان”، ولا تتضمن أحكامه ضماناً ملموساً بأن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان في حالة نشوب صراع عبر المضيق في المستقبل. وتنظر الصين إلى مبيعات الأسلحة، فضلاً عن الاتصالات الرسمية، على أنها استفزازات وانتهاك لسياسة صين واحدة التي تنتهجها واشنطن.[16] وقد احتجت الصين على تكثيف مشاركة الولايات المتحدة مع تايوان بتنظيم مناورات حربية واسعة النطاق حول الجزيرة في أغسطس من عام 2022 وأبريل من عام 2023.[17]
ومما سبق، تأتي المناورة العسكرية الصينية الأخيرة، كجزء من نمط طويل الأمد وليست دلالة على حرب وشيكة بين الطرفين، وذلك لكبح جماح الرئيس “لاي” المؤيد لبقاء الوضع الراهن بالبلاد، وتذكير حكومة تايبيه بخطر الغزو حال رفضها أن تصبح جزءاً من الصين، فضلاً عن كونها تحذير لحلفاء تايوان من التدخل لدعمها. ويُتوقع مواصلة بكين الفرضيات العسكرية، مع استمرارأنشطتها في المراقبة والرصد حول تايوان، لتعزيز موقفها الرافض لأي شكل من أشكال استقلال الجزيرة، إلى جانب محاولة كسب سكان الجزيرة من خلال القوة الناعمة لإظهار الوحدة في ضوء إيجابي.
المصادر:
[1] سكاي نيوز عربية، “الصين تبدأ مناورات عسكرية كبيرة تطوّق تايوان”، 23 مايو 2024.
