مع قرب موعد انطلاق دورة الألعاب الأولمبية المقرر عقدها من 26 يوليو وحتى 11 أغسطس فى باريس، تستعد السلطات الفرنسية بالتعاون مع عدد من الدول الأروروبية لرفع حالة التأمين واليقظة الأمنية تجاه التهديدات المتعددة والمعقدة التى تلاحق القارة الأوروبية والتى يتنامى تأثيرها مع حدث كبير وجذاب كالألعاب الأولمبية لتفادى تنفيذ أى مخطط إرهابى أو عنيف محتمل. ولا تقتصر تلك التهديدات على الإرهاب الجهادى المزعوم من جانب التنظيمات الإرهابية الجهادية العابرة للحدود بل تتنوع ما بين جماعات قومية متطرفة وجماعات مسلحة المدعومة من راعيين دوليين، ناهيك عن الأعمال الناتجة عن العنف السياسى بشكل أوسع من الإرهاب.
وفى إطار تلك الفكرة طرح “مركز مكافحة الإرهابCombating Terrorism Center” دراسة[1] حول إجمالى تلك التهديدات من منظور أوسع وتشكلفى مجملها خطر للحكومة الفرنسية وشركائها الأوروبيين وتزعزع الاستقرار بداية من التهديد الجهادى المرتبط بتنظيم داعش كهاجس رئيسى للأمن الأروربى، والأعمال العنيفة وتهديدات اليمين واليسار المتطرف فضلاً عن القلق المرتبط بروسيا وإيران ووكلائهم على المستوى الدولى للحشد، وهو ما يلى عرضه وتحليله كما ورد فى الدراسة المعنية.
تهديدات مسبقة للأحداث الرياضية الكبرى:
أعطت الدراسة فى بداية الأمر نظرة تاريخية حول الهجمات التى طالت الأحداث الرياضية الكبرى بداية من “هجوم ميونخ” الذى تضمن احتجاز رهائن إسرائيليين أثناء “دورة الأولمبياد الصيفية” المنعقدة فى ميونخ بألمانيا من 5 إلى 6 سبتمبر عام 1972 وقامت بتنفيذتها منظمة (أيلول الأسود)، وكذلك “تفجيرا ماراثون” اللذان وقعا فى مدينة بوسطن الأمريكية فى 15 أبريل عام 2013 قرب خط نهاية المارثوان و اللذان أسفرا عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ما لا يقل عن 183 آخرين. ناهيك عن الهجوم الدموى الأبرز المعروف باسم “هجمات باريس” التى انطلقت فى 13 نوفمبر لعام 2015، وبدأت بتفجير انتحارى بمحيط ستاد فرنسا (ستاد دو فرانس) فى ضاحية “سان دونى” أثناء عقد مبارة كرة قدم ودية بين منتخب فرنسا ومنتخب ألمانيا، أدت إلى سقوط 4 أشخاص وعليه تم إخلاء الملعب، وتلاه إطلاق نيران فى مسرح “باتاكلان” يوم 14 نوفمبر وتم احتجاز رهائن من قبل العناصر الإرهابية أسفرت عن اشتباكات بين هؤلاء العناصر والشرطة وسقوط حوالى 130 شخص وإصابة 368 أخرين. ناهيك عن التهديدات الإرهابية التى طالت (بطولة أمم أوروبا لكرة القدم) لعام 2016 والتى استضافتها باريس وعلى الرغم من أنها لم تقع داخل المدن المضيفة للبطولة والملاعب والأماكن المزودة بالتعزيزات الأمنية، إلا أنها طالت الأماكن الأقل تأميناً كالعملية التى استهدفت ضابط شرطة فى مدينة “ماجنانفيل” الواقعة شمال غرب باريس.
خطر الإرهاب الجهادى:
وفقاً للدراسة احتل تهديد تنظيمى داعش والقاعدة قمة التهديدات الأمنية لفرنسا لاسيما بعد الهجوم الدموى الذى ضرب موسكو شهر مارس الماضى بفعل تنظيم داعش ولاية خرسان الفرع الأخطر للتنظيم والذى انتقل تاثيره لدى أرجاء أوروبا، وعلى الرغم من خلو اى تهديدات واضحة لأولمبياد باريس من قبل التنظيمات سالفة الذكر حتى الآن، إلا أنهم يحملوا فى عبائتهم التهديد الإرهابى الأساسى لفرنسا، باعتبارها كما أشار الباحثان عدواً لا يمكن غض الطرف عنه بالنظر إلى ماضيها الاستعمارى فى أفريقيا وعملياتها العسكرية ضد العناصر الجهادية فضلاً عن اشتداد خطاب الكراهية ضد المسلمين لاسيما مع تعدد الأساليب لبث التهديدات والذعر لدى المواطنين وكذلك السلطات الفرنسية ومن ناحية أخرى تنوع العناصر ونمط العمليات المرتبطة بتنظيم داعش. ولعل تاريخ فرنسا خير دليل حيث تعرضت سابقاً لعدد من التهديدات والعمليات الإرهابية على أراضيها والعديد منها أسفرت عن سقوط عدد كبير من الضحايا، وقد تصاعد ذلك التهديد لاسيما بعد الهزيمة العسكرية التى تعرض لها تنظيم داعش فى سوريا والعراق وإن كان كثير منها تم احباطه والسيطرة عليه إلا أنه ما زال مصدر قلق بالنسبة لفرنسا تليها بريطانيا وألمانيا باعتبارهم الدول الأكثر استهدافاً، وبالسنبة لتنظيم القاعدة لفتت الدراسة النظر إلى أن فروع التنظيم لم تعد تعتبر الهجمات على الأراضى الفرنسية جزءاً من قتالها، ولكنها فى نفس الوقت لا تستبعد مهاجمة المصالح الفرنسية خارج فرنسا، نظراً لتركيزها فى أفريقيا بشكل أساسى لاسيما منطقة الساحل والصحراء.
عوامل مساعدة لانتشار التطرف:
فى إطار استعراض الدراسة لخطر الإرهاب الجهادى نوهت عن عدد من الدوافع المحفزة لانتشار التطرف وزيادة التهديد الإرهابى يأتى فى المقدمة التوترات المرتبطة بمناهضة الإسلام وقضايا الهجرة واشتداد خطابات الكراهية ضد المسلمين وحادثة حرق القرآن الكريم فى السويد عام 2023، ناهيك عن شيوع بعض الظواهر المتنافية مع مبادئ الإسلام كتفشى ظاهرة المثليين ومغايرى الهوية الجنسية. وعلى صعيد أخر أثارت الحرب فى غزة الغضب بين المجتمعات الإسلامية فى جميع أنحاء العالم وأعطت فرصة لتلك التنظيمات الجهادية من أجل إعادة صعودها وبناء قدرتها على شن هجمات ضد الغرب، وطالما كانت القضية الفلسطينية وتحرير الأراضى المقدسة جزءاً من استراتيجية وإيدولوجية تلك التنظيمات عبر إضعاف العدو البعيد المتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيين، وقد حمل الهجوم الإسرائيلى على غزة والظلم ضد الفلسطينيين الأشخاص المتطرفون لارتكاب أعمال العنف وسهل من عملية الاستقطاب الداخلى للتنظيمات لشن هجمات مناهضة وكسب التأييد. تلك القضايا فى مجملها مثلت بيئة خصبة للهجمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية التى اعتبرت كما ذكرت الدراسة مهاجمة الدول الأوروبية أهداف مشروعة وإن حظيت بعض الدول مثل فرنسا وبريطانيا بالأولوية كأهداف.
مؤشرات المخططات الإرهابية:
بالاعتماد على بيانات التهديدات الجهادية فى أوروبا التابعة للمعهد النرويجي لأبحاث الدفاع (FFI) توصل الباحثون إلى وجود حوالى (273) مؤامرة إرهابية جهادية من عام 1994 حتى عام 2024، (69) منها حدثت بين 1 يناير 2019 و1 يونيو 2024 أى ربع جميع أنشطة الهجوم سواء كانت المخططات الفاشلة والهجمات الفردية البسيطة والهجمات التي شنها الإرهابيون المرتبطون بتنظيم داعش ولاية خرسان فى العقود الأخيرة حدثت بعد هزيمة التنظيم عسكرياً ، والتى استهدف معظمها أعضاء أجهزة الأمن، وخاصة ضباط الشرطة في بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا. وتشير تلك البيانات أيضاً أن معدل إحباط المخططات الإرهابية الجهادية المعلن عنها في فرنسا أقل بكثير مقارنة ببريطانيا وألمانيا في الفترة من 2019 وحتى يونيو 2024، وذلك فى مقابل تنفيذ نسبة أعلى بكثير من المؤامرات في فرنسا مقارنة بالدول سالفة الذكر. حيث استطاعت فرنسا إحباط 29% فقط من المؤامرات المعروفة علناً مقارنة بمعدل إحباط بلغ 58% فى بريطانيا، وما يصل إلى 94 % بالنسبة لألمانيا. وهو ما يجعله مقياسًا مثيرًا للقلق وفق تأكيد الباحثان فى وقت تستعد فيه البلاد لاستضافة الألعاب الأولمبية.
أنماط العناصر الارهابية:
حملت الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش التنوع فى هوية الإرهابين وكذلك الدوافع المختلطة التى تدفعهم إلى شن المخططات العنيفة والتى تستغلها الجماعات الجهادية لاستقطاب مزيد من العناصر وحملهم على اتباع نهج التطرف السلوكى شن هجمات تحمل نمط الذئاب المنفردة، وقد لاحظ الباحثان زيادة فى عدد المؤامرات والهجمات التى ينفذها “المراهقون الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً” واستدلت الدراسة على عدد من الأمثلة فى هذا الإطار آخرها المخطط الذى أحبطته أجهزة الأمن الفرنسية فى أواخر مايو 2024 من قبل شاب يبلغ من العمر 18 عامًا، من أصل شيشانى أيضاً، لشن هجوم انتحارى ضد المتفرجين والشرطة من المفترض تنفيذه خلال إحدى مباريات كرة القدم الأولمبية القادمة فى ملعب “جيوفروى جيشار” في نادي سانت إتيان.
كما سلطت الدراسة الضوء على “تنامى مشاركة المرأة” فى المخططات الإرهابية حيث وثقت وجود 6 حالات من أصل 67 حالة (9%) خلال الفترة 2019 وحتى 2024 مقارنة بـ 14 حالة من أصل 204 حالة (7%) بين عامي 1994 و2019. وايضاً استدل الباحثان على مجموعة من المخططات والهجمات النسائية فى عدد من الدول الأوروبية سواء المرتبطة بتنظيم داعش أو المنفصلة عنها مثل “تفجير كاتدرائية القديس بولس” فى لندن فى عام 2019، ومؤامرة من قبل خلية إرهابية نسائية لمهاجمة “موقع دينى” فى فرنسا خلال أحد الأعياد المسيحية “عيد الفصح” عام 2021، ومؤامرة من قبل الشيشانيين فى عام 2023 لشن هجمات إرهابية في بلجيكا، وأخيراً مؤامرة عام 2024 لمهاجمة “المصلين المسيحيين والشرطة” فى ألمانيا.
وعلى صعيد أخر لاحظ الباحثان تنوع الخلفيات الوطنية المشاركة فى المخططات والهجمات الإرهابية ما بين الخلفيات الآسيوية الوسطى خاصة “الشيشان والأوزبك والطاجيك”، والخلفيات الإيرانية الكردية، ناهيك عن الخلفيات الأوروبية المعتنقة الإسلام وغيرها من الخلفيات الآخرى.
وسائل متنوعة للهجوم:
تنوعت الوسائل والأساليب المستخدمة لشن الهجمات الإرهابية وبث التهديد والذعر لدى السلطات سواء الفرنسية أو الأوروبية فى مجملها والتى يأتى فى مقدمتها الهجمات المسلحة بالسكاكين أو البنادق والتى مثل 54% من الهجمات الجهادية فى الفترة ما بين 1 يناير 2019 وحتى 1 يونيو 2024 وتليها التفجيرات المرتبطة بإرهابيين من داعش والتى حاولت أجهزة الأمن الأوروبية إحباط معظمها، ولكن فى ذات الوقت تعتمد التنظيمات الإرهابية لاسيما داعش على نهج المخططات الإلكترونية وهو ما أسمته الدراسة (a cyber-coach approach to enabling terrorism) ذلك النمط الشائع باستخدام وسائل التواصل الاجتماعى والمنصات الإلكترونية والتطبيقات المشفرة لبناء شبكات منظمة واسعة النطاق على المستوى الدولى يمكن من خلالها الترتيب والتخطيط لمؤامرة وانتهاج أسلوب الفزاعة لبث الرعب والتهديد، ولتأكيد ذلك الطرح استعان الباحثان بتصريح (أحمد ضياء سراج) الرئيس السابق لوكالة المخابرات الأفغانية الذى أشار قائلاً “باستخدام التشفير النهائى وتطبيقات المراسلة المشفرة يمكن لـتنظيم داعش ولاية خرسان تجنيد المعلومات وتبادلها بسرعة وتخطيط وتنفيذ الهجمات، وهذا يعنى أن الهجمات الإرهابية لم تعد بحاجة إلى الخدمات اللوجستية القديمة. الآن يمكن لإرهابى فى أفغانستان تجنيد عضو يعيش في السويد، وتمويله باستخدام العملة المشفرة، فقد يكون من الصعب جدًا على الأجهزة الأمنية اكتشاف هذا الشخص لأنه قد يبدو كشخص عادى تمامًا. ولا يجوز أن يبدو عليه أي أنشطة مشبوهة ونحو ذلك، إلا إذا تم تعقبه عبر هاتفه وأخذ هاتفه. لقد أتاح التقدم التكنولوجي لأى شخص أن يتدرب على التكتيكات الإرهابية فى أى جزء من العالم، بغض النظر عن الحدود أو قيود السفر “.
أنشطة العنف السياسى:
انتقلت الدراسة إلى تناول نوع أخر من التهديدات المحتملة لدورة الألعاب الأولمبية الغير مرتبط بالإرهاب الجهادى وهو الأعمال العنيفة المرتبطة بالنشاط السياسى وإن كان أقل خطر من الإرهاب سالف الذكر، ولكن لا يمكن غض النظر عنه، وقد انعكس اشتعال القضية الفلسيطينية وتفشى العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة على الساحة الأوروبية حيث تكثفت الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، وتأججت المواجهات الفكرية خاصة على منصات التواصل الاجتماعى بين المؤيدين والمعارضين للأحداث فى غزة ولسياسات بعض الحكومات لاسيما فى أوروبا الغربية الداعمة لدولة الإحتلال متجاهلين جرائم الاحتلال العنيفة، وقد ساهم فى تأسيس تلك المظاهرات والاحتجاجات الواسعة قاعدة عريضة من المواطنيين والناشطيين والطلاب ذوى الخلفيات الوطنية المتنوعة، وعلى الرغم من أن معظم الاحتجاجات الأوروبية غير عنيفة إلا أن بعض منها تحول إلى أعمال عنف كحدوث اشتباكات مع الشرطة أو متظاهرين مضادين.
ومن الأمثلة التى استدل عليها الباحثان قيام ناشطون بتخريب مقبرة يهودية في “النمسا” في نوفمبر 2023، وفى الشهر ذاته أحرق المتظاهرون الأعلام الإسرائيلية وأعربوا عن تهديدات بالقنابل ضد إسرائيل خارج كنيس يهودى فى مدينة “مالمو” السويدية، وفى يناير 2024 عطل المتظاهرون بعنف معرضاً للمجوهرات فى “فيتشنزا” بإيطاليا وقاموا بإلقاء القنابل الحارقة والصواريخ واشتبكوا مع الشرطة، أما فى أبريل 2024 عطل المتظاهرون مؤتمرًا حول التعاون العلمي فى “تورينو” بإيطاليا، وطالبوا بمقاطعة إسرائيل. وعليه لا يستبعد وقوع حوداث عنيفة ضد قوات الأمن الفرنسية على أثر الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين والحاشدة للمشاعر الإنسانية أثناء الألعاب الأوليمبية بالرغم من الاستنفار الأمنى الكثيف، مما يعكس تهديداً أقل قابلية للتنبؤ من التهديد الذى تشكله التنظيمات الإرهابية المعروفة كما نوهت الدراسة مشيرة إلى ضرورة اتباع الأجهزة الأمنية نهج مرن لا يساعد على توليد احتجاجات مضادة.
تهديدات اليسار واليمين المتطرف:
بالرغم من تأكيد الدراسة على عدم وجود تاريخ للمتطرفين اليمينيين واليساريين فى تنفيذ هجمات إرهابية ضد الأحداث الرياضية الكبرى فى أوروبا لاسيما الغربية. إلا أنه قد تحمل معاداة اليسار المتطرف للصهيونية ودعمه للقضية الفلسطينية، وكذلك معاداة اليمين المتطرف للسامية ونزعاته القومية، إمكانية إثارة التهديد وممارسة نوع من العنف السياسى فى فرنسا أثناء دورة الألعاب الأولمبية في باريس من قبل مثل هؤلاء الفاعلين، وقد تناولت الدراسة التهديدات المرتبطة بهؤلاء بالتفصيل كما يلى عرضه:
أولًا: اليسار المتطرف:
أكد الباحثان أن الجهات اليسارية المتطرفة شكلت فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى تهديداً إرهابياً محدوداً نسبياً فى منطقة أوروبا الغربية عندما قامت “الألوية الحمراء” فى إيطاليا، و”حركة العمل المباشر” فى فرنسا بشن حملات إرهابية، تضمنت هجمات مميتة واسعة النطاق بالإضافة إلى عمليات أصغر. وتلقى هؤلاء دعماً حكومياً من الدول الشيوعية، بالرغم من تنوعهم الإيدلوجى وقضاياهم المتعددة السياسية والاجتماعية، وفى العقد الحالى ارتبطت الجهات اليسارية الفوضوية بالاشتباكات والاحتجاجات العنيفة مع نشطاء اليمين المتطرف، والتخريب والتهديدات ضد مؤسسات الدولة وممثليها ، والبنية التحتية، والشركات. وبرجوع الدراسة إلى بيانات (وكالة تطبيق القانون الأوربية Europol) وكذلك (قاعدة بيانات الإرهاب العالمية) وجد أن أعداد كبيرة من الهجمات فى أوروبا منسوبة إلى الحركات الأناركية اليسارية، وأقرت الدراسة أنه على الرغم من ذلك إلا أنها لا تزال أقل فتكاً بالمقارنة مع الإرهاب الجهادى أو اليمينى الذي يوقع أعداداً كبيرة من الضحايا. وتحاول السلطات الفرنسية جاهدة السيطرة على تلك الحركات لتحجيم التهديد النابع منها، وفى هذا السياق ذكر الباحثان إلى انطلاق العام الماضى محاكمة فى فرنسا لما تشير إليه السلطات الفرنسية باسم جماعة “يسارية متطرفة” يُزعم أنها خططت لهجمات إرهابية على ضباط الشرطة أو الجيش، مع العلم أن الزعيم الأناركي لهذه الخلية أمضى بعض الوقت كمقاتل أجنبى فى سوريا مع الأكراد الذين يقاتلون تنظيم داعش.
ثانيًا: اليمين المتطرف:
وبالمثل شكلت جماعات اليمين المتطرف قلقاً كبيراً فى الأوساط الأوروبية واستغلاله لقضايا متعددة مثل الهجرة واللجوء والإسلاموفوبيا من أجل دعوته للقومية الألمانية والهوية الثقافية والتجانس العرقى الأمر الذى يضفى صبغة عنصرية ويثير من مشاعر الكراهية بين السكان وداخل أجهزة الدولة لاسيما الأمنية منها ويجعل الأعمال المرتبطة به أشد عنفاً ووحشية مثل الأعمال الجهادية. وكما وضحت الدراسة فقد ارتفع العنف المرتبط بالجهات اليمنية المتطرفة بشكل طفيف فى أعقاب موجة المهاجرين عام 2015، وتزامن معها تحذيرات من جانب الأجهزة الأمنية فى العديد من الدول الأوروبية من ارتفاع كبير في المؤامرات الإرهابية اليمينية، فقد أشارت شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية إلى التهديد اليمينى باعتباره التهديد الأسرع نمواً.
وفى إطار تحليل التهديد المرتبط بجماعات اليمين المتطرف تناولت الدراسة العناصر المشمولة فى تلك الجماعات والتى تتضمن الأشخاص المؤييدين لأفكار النازيين الجدد أو الفاشية ومدفوعين بالكراهية ولديهم مشاعر معادية للإسلام تغذيها القومية والعنصرية، وعلى جهة أخرى تسلط الضوء على التوزيع الجغرافى لتلك الجماعات والأنشطة المرتبطة بها والذى شملت غالبية دول أوروبا الغربية ووقعت فى المقدمة فى السنوات الأخيرة ألمانيا، تليها بريطانيا، وإيطاليا، واليونان، وإسبانيا، والسويد وكذلك النرويج وفنلندا شهدت ايضاً مستويات كبيرة. وعن العناصر المستهدفة بأعمال العنف والمخططات اليمينية المتطرفة حصرهم الباحثان فى الأقليات العرقية والدينية،أو المعارضين السياسيين لاسيما الناشطين اليساريين، أو مؤسسات الدولة ومسؤوليها وعدد من السياسين، ناهيك عن المسلمين، وكذلك استهدفت العديد من الهجمات اليمينية المتطرفة في السنوات الأخيرة أشخاصًا أو مؤسسات يهودية إسرائيلية.
وأشارت الدراسة وفقاً لمؤشرات (مركز أبحاث التطرف C-REX) ومقره جامعة “أوسلو” والذى يتتبع العنف اليميني في أوروبا الغربية، فقد انخفض العنف السياسى من قبل المتطرفين اليمينيين في أوروبا الغربية مقارنة بمستويات أعلى في التسعينيات، وهذا يرجع إلى عدد عوامل محتملة أحداهما ارتفاع الشعبوية اليمينية فى جميع أنحاء أوروبا ودخولها التيار السياسى الرئيسى، ولكن فى ذات الوقت لفت المركز أن الاستثناء الملحوظ من اتجاه الانخفاض هو فرنسا التى شهدت اتجاهاً تصاعدياً فى العنف السياسى اليمينى فى الآونة الأخيرة لاسيما مع تواجد الشبكات اليمينية المتطرفة العابرة للحدود الوطنية الساعية إلى نشر الفوضى، والاستقطاب ولفت الانتباه إلى أسباب ومظالم محددة، ومع استعداد باريس لاستضافة الألعاب الأولمبية تحمل تلك الشبكات خطر محتمل مع تنامى نشاطها.
روسيا ووكلائها:
عزمت قوات الأمن الروسية من تكثيف تحركاتها بعد الهجوم الإرهابى الدموى الذى استهدفت عاصمتها وخلف حوالى 144 قتيل وإصابة 285 آخرين ، لاسيما مع تشكيك السلطات الروسية فى قيام تنظيم داعش خرسان بالهجوم على المركز التجارى وتحاول إلقاء تبعية الهجوم على الجانب الأوكرانى وحلفاؤها للدفع بالهجوم عبر مسلحون اسلاميون وسط تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية. وفى هذا السياق أكدت الدراسة أن الفرنسيين فى حالة تأهب قصوى لمواجهة أي نشاط خبيث من جانب روسيا وسط الحديث عن ارتباطها بجهات يمينية متطرفة عنيفة في أوروبا. وسبق أن دعم الاتحاد السوفييتي الجماعات اليسارية خلال السبعينيات والثمانينيات على المستوى الدولى، وتزعم الدراسة وفقاً لمصادر اعتمدت عليها تابعة لوكالات الأمن الأوروبية أنه فى الوقت الحالى تسعى موسكو إلى بناء علاقات مع الحركات اليمينية، والجهات الفاعلة السياسية، والشبكات المتطرفة في الأجزاء الغربية والشرقية من أوروبا، من أجل اللفوز بالحرب في أوكرانيا وإعادة إحياء القطب الروسى.
بمعنى أخر تزعم السلطات الفرنسية ارتباط روسيا بعدد من الأحداث العنيفة فى إطار طرح أدلة تثبت التورط الروسى لاستمالة السياسيين الشعبويين اليمينيين الأوروبيين، ودفع كميات هائلة من الدعاية والروايات الروسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتطورة وعمليات التأثير على الأخبار المزيفة، مستغلة أى قضايا مثيرة للجدل أو احداث كبرى كالألعاب الأولمبية الغير مشاركة بها، وفى المقابل تؤكد السلطات الفرنسية اتخاذ الاحتياطات اللازمة والمتشددة ضد أى تحركات روسية مناهضة ومشككة فى قدرة فرنسا الاستعدادات الفرنسية للألعاب الأولمبية.
إيران ووكلائها:
وبالنظر إلى حال طهران ووكلائها كتهديد مباشر للألعاب الأوليمبية أقرت الدراسة أن التهديد الإيرانى لا يرجح أن يكون بشكل مباشر وذلك يرجع إلى عدة أسباب أولها مشاركة إيران فى هذا الحدث الرياضى الضخم، ثانيهما رغبة إيران فى ضبط النفس فيما يخص علاقتها مع الدول الأوروبية السياسية والتجارية فى المرحلة الراهنة من أجل الحفاظ على التحالف بين إيران والاتحاد الأوروبي ، خاصة مع وجود بعض التوترات بين أجهزة الأمن الأوروبية بشأن التهديد الإرهابى على الأراضى الأوروبية الذي تشكله الجهات الفاعلة المرتبطة بإيران والمدعومة منها مثل (حزب الله، وحماس، والحوثيين، والحشد الشعبي في العراق) لاسيما مع تصاعد الصراع بين إسرائيل وحزب الله واحتمالات استهداف المصالح الإسرائيلية وكذلك الهجمات الصاروخية التي شنتها حركة الحوثي المتحالفة مع إيران على السفن التي لها صلات مباشرة أو غير مباشرة بإسرائيل، بما في ذلك السفن الأوروبية، إلى زيادة المخاوف بشأن انتشار الإرهاب، مما أجبر الاتحاد الأوروبي على إطلاق مهمة بحرية لحماية السفن والأفراد والمصالح التجارية، وناهيك عن انتهاكات حقوق الإنسان، والبرنامج النووي، والصراع مع إسرائيل، والتهديدات الموجهة للشعب اليهودي والإسرائيلي، ودعم إيران للحرب الروسية على أوكرانيا ، ولكن الفارق هنا أن لدى تلك الجماعات أجنداتها الخاصة ووكالاتها ليست موحدة، بحيث يمكن أن تلجأ إلى تنفيذ بعض الأهداف فى أوروبا منفردة ولا يشترط أن تكون تحت كنف إيران بشكل مباشر.
تأسيسا لما تم عرضه فيما سبق؛
ساعد الطرح الذى قدمه مركز مكافحة الإرهاب معتمد على نماذج عديدة وإحصائيات موثقة على فهم ما تواجهه فرنسا وشركائها الأوروبين فى الوقت الراهن من سلسلة للتهديدات المتنوعة والمتداخلة لحدث رياضى ضخم يأتى فى قمتها الإرهاب الجهادى متمثل فى تنظيم داعش ولاية خرسان الذى يستغل حدث كبير كالألعاب الأوليمبية من أجل الضغط على فرنسا وسط تجمع بشرى هائل، تليها التهديدات المرتبطة باليسار واليمين المتطرف وإن كانت أقل حدة وفتكاً من التهديدات الجهادية إلا أنه لا يمكن تجاهلها وما يزيد من كثافتها الأحداث فى غزة وانعكاستها على المجمتع الأوروبى وتعاطى السلطات المحلية الأوروبية مع تلك الأحداث، وفى إطار المواجهة بين روسيا وخصومها على المستوى الأوروبى وسط الاتهامات المتبادلة بين كلا منهما تضع السلطات الفرنسية التهديد الروسى فى اعتبارها كتهديد محتمل وإن قل نسبته وذلك فى سبيل الاستقطاب للجماعات اليمينية وإضعاف الدعم الأوروبى المقدم لأوكرانيا، وأخيراً يبدو أن التحركات الإيرانية على المستوى الأوروبى تنتهج سياسة توخى الحذر للحفاظ على علاقاتها مع الأخذ فى الاعتبار احتمالات التهديد المرتبط بها ولكن بشكل غير مباشر عبر وكلائها الإقليميين. وعليه تحمل تلك التهديدات فى داخلها جملة من التحديات التى تفرض على باريس تكثيف الجهود الأمنية لتفادى أو إحباط أى مخطط إرهابى وعنيف، وإعلان مستوى التأهب الأمنى إلى أعلى مستوى وتأمين المناطق الاستراتيجية والحيوية بالاعتماد على الدعم العسكرى من حلفاءها الأوروبيين لتوفير العشرات من قوات الأمن والمساهمات الأمنية للتأمين، ناهيك عن التعاون على المستوى الاستخباراتى للكشف المبكر عن أى تهديدات أو مخططات إرهابية وسد أى فجوة ممكنة للعنف.
المصدر:
[1] Petter Nesser, Wassim Nasr, “The Threat Matrix Facing the Paris Olympics”, Combating Terrorism Center, Volume 17, Issue 6, June 2024.
