السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ تحتَ المجهرِ: تحليلٌ لمقابلةِ هاكان فيدان مع سكاي نيوز عربية

إعداد: هنا داود

باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية

مقدمة

شهدتْ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ تغيراتٍ وتحولاتٍ كبيرةً في السنواتِ الأخيرةِ، في ظلِ عواملَ عِدةٍ دفعتهَا لهذه التغيراتِ، أهمُها التطوراتُ الإقليميةُ والعالميةُ، التي أثرتْ على المصالحِ والأهدافِ السياسيةِ التي يطمحُ إليها أردوغان. وبحسبِ تحليلاتِ العديدِ من السياسيينَ والمسؤولينَ، يأتي في مقدمتِهم محيي الدين أتامان، تُوصفُ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ بأنه على الرغمِ من استخدامِها القوةِ الخشنةِ في التعاملِ مع بعضِ التحدياتِ، إلا أن تركيا ما زالتْ تحافظُ على سمةِ الأخلاقيةِ في سياستِها الخارجيةِ. فهل يمكنُ بالفعلُ وصفُ السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ بأنها أخلاقيةٌ؟

في هذا الإطارِ، ولكي نفهمَ لماذا تتغيرُ السياسةُ الخارجيةُ لدولةٍ من فترةٍ إلى أخرى، يمكنُ التركيزُ على المتغيراتِ التي تحددُ تلك السياسةَ، والتي بوصفِ أستاذنا الدكتور محمد سيد سليم، يؤكدُ أن السياسةَ الخارجيةَ لدولةٍ لا تتغيرُ على أساسٍ من الصدفةِ، ولا ينبغِي كذلك، وإنما تتحددُ من خلالِ متغيراتٍ تفسيريةٍ مستقلةٍ تتفاعلُ سويًا، وهذه المتغيراتُ تشملُ المتغيراتِ الداخليةَ التي تحدثُ داخلَ حدودِ الدولةِ، والمتغيراتِ الخارجيةَ في إطارِ تفاعلِ هذه الدولةِ مع غيرِها من الفاعلينَ على الساحةِ السياسيةِ.

ومن أجلِ تحديدِ الوصفِ الدقيقِ للسياسةِ الخارجيةِ التركيةِ وما إذا كان يتفقُ مع ما ذكرناهُ أم لا، يمكنُنا الاطلاعُ بشكلٍ متمعنٍ على مقابلةِ وزيرِ الخارجيةِ التركِي «هاكان فيدان» مع قناةِ سكاي نيوز عربية في نهايةِ شهرِ يوليو. فمن خلالهِا أوضحَ «فيدان» الخطوطَ العريضةَ لأهمِّ ملفاتِ السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ كالتالي:

الحربُ الإسرائيليةُ على غزة

كما ظهرَ خلالَ المقابلةِ، احتلتْ قضيةُ غزة مكانةً محوريةً في السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ .لعدةِ عواملَ؛ لأنها مسألةٌ متعلقةٌ بالعالمِ الإسلامِي ككلٍ وبشكلٍ أكبرَ الشعبُ والقيادةُ التركيةُ، فخلالَ هذه الحربِ التي تقتربُ مدتُها من عامٍ، تم ارتكابُ كلِ جرائمِ حقوقِ الإنسانِ وجرائمَ ضدَ الإنسانيةِ. وهذا ما تُقرُ به تركيا، إذ تعتبرَ أن إسرائيلَ ترتكبُ جرائمَ حرب ٍوتؤكدُ أن كل ما حدثَ هو نتيجةٌ للاحتلالِ الغاشمِ.

وفي توضيحِ دورِ تركيا في هذه الحربِ، أوضحَ فيدان الانحيازَ للجانبِ الفلسطينيِ، ولكنه ليس بعداءٍ لإسرائيلَ، بل أوضحَ أن إدانةَ نتنياهو أصبحتْ لا يختلفُ عليها الغربُ بل وحتى الأمريكيين. وبالتالي، تركيا تحاولُ القيامَ بدورِ الداعمِ للجانبِ الفلسطينيِ وتحترمُ المقاومةَ الفلسطينيةَ، وهي لا تقصرُ تواصلَها مع جانبٍ فلسطينيٍ واحدٍ، بل هي على تواصلٍ مع الحكومةِ الفلسطينيةِ وكذلك مع حركةِ حماسِ، لأنها تعترفُ بحماسٌ كحزبٍ سياسيٍ تحت مظلةِ الدولةِ الفلسطينيةِ وكحركةٍ مقاومةٍ للاحتلالِ. وعلى هذا الأساسِ، فهي ستدعمُ أيَّ حركةِ مقاومةٍ، وكما دعمتْ غزة في حروبِها الماضيةِ، فهي تقومُ بدورِ الداعمِ والحليفِ لها خلالَ هذه الحرب.

أما فيما يتعلقُ بالمفاوضاتِ، فإن تركيا تضعُ أهميةَ المفاوضاتِ في مقدمةِ اهتماماتِها وحاولتْ القيامَ بدورِ الوساطةِ من أجلِ دفعِ الجانبِ الفلسطينِي إلى قبولِ شروطِ الصفقاتِ المطروحةِ، ولكن يتضحُ أن الأهدافَ السياسيةَ لنتنياهو، حسبَ قولِ هاكان فيدان، هي العائقُ الوحيدُ لإتمامِ هذه الصفقاتِ. وأوضحَ أن الأهدافَ الخارجيةَ لتركيا بخصوصِ هذه القضيةِ هي ضمانُ سلامةِ الطرفينِ الفلسطينيِ والإسرائيليِ من خلالِ حلِّ الدولتين والاعترافِ بالدولةِ الفلسطينيةِ عاصمتُها القدسُ الشرقيةُ بحدودِ عام 1967. ومن أجلِ طمأنةِ من يرفضِ هذا الحلَ، لا تمانعُ تركيا أن تشاركَ هي وبعضُ الدولِ العربيةِ في خلقِ آليةٍ تضمنُ اتفاقَ السلامِ بين الطرفينِ، حتى وإن كانتْ هذه الآليةُ تشكيلَ  قوةٍ دوليةٍ.

وعلى هذا الأساسِ، تتسمُ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ بقدرٍ من الاستقلاليةِ في التعاملِ مع هذه القضيةِ وكذلك تتسمُ بالأخلاقيةِ. إلى جانبِ ذلك، تسعىَ تركيا لأن تكونَ لاعبًا إقليميًا قويًا في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ من خلالِ لعبِ دورِ الحليفِ والانخراطِ في أدوارِ الوساطةِ.

العلاقاتُ الثنائيةُ مع الدولِ العربيةِ

اتبعتْ تركيا في فترةِ بدايةِ حكمِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ سياسةَ تصفيرِ المشكلاتِ، وعانتْ بعدَها بفترةٍ من مشكلاتٍ وخلافاتٍ مع دولٍ كثيرةٍ، تأتي في مقدمتهِا مصرُ وسوريا. أما في الفترةِ الأخيرةِ، وبما أن سياسةَ تصفيرِ المشكلاتِ تعني “إزالةَ المشكلاتِ أو تقليصَها في علاقاتِ الدولِ مع بعضِها البعضِ”، أرى أن تركيا عادتْ مرةً أخرىَ إلى سياسةِ تصفيرِ المشكلاتِ من منطلقٍ براجماتيٍ عقلانيٍ، بحيثُ تتجهُ لتصفيرِ خلافاتِها مع الدولِ الأخرى بهدفِ أن تكونَ لاعبًا إقليميًا قويًا، ولا تقتصرُ علاقاتهُا على جانبٍ واحدٍ، مع دافعٍ آخرَ نرىَ فيه سمةَ الأخلاقيةِ وهو محاولةُ إرساءِ الأمنِ والاستقرارِ، بالأخصِ في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ.

العلاقاتُ الثنائيةُ مع مصرَ

من خلالِ هذه المقابلةِ، أظهرَ أن تركيا عازمةً على الانخراطِ بشكلٍ أكبر والارتقاءِ بمستوى العلاقاتِ الثنائيةِ مع مصرَ، وهذا يبدو واضحًا من تحركاتِ الدولتين في الفترةِ الأخيرةِ. وأكدَ هاكان فيدان على زيارتهِ إلى القاهرةِ لمقابلةِ نظيرهِ المصريِ الجديدِ في بدايةِ شهرِ أغسطس للترتيبِ لزيارةِ الرئيسِ السيسي إلى أنقرةَ، ويبدو أن أكثرَ الموضوعاتِ التي ستكونُ على طاولةِ التباحثِ بينهم هي قضيةُ غزةَ ودعمُ قيامِ مصرَ بدورِ الوساطةِ. إلى جانبِ ذلك، ستتوسعُ الاستثماراتُ التركيةُ بشكلٍ كبيرٍ في مصرَ، وربما سيكونُ هذا ثانيَ أهمِّ الملفاتِ. ولكن بشكلٍ عامٍ، تتضحُ الأهدافُ الإيجابيةُ لتركيا تجاهَ مصرَ خلالَ هذه المقابلةِ، وربما تمَّ التأكيدُ على هذهِ الحقيقةِ فقط.

 العلاقاتُ الثنائيةُ مع العراقِ

على الرغمِ من تأكيدِ فيدان على أن الهدفَ الأكبرَ من انخراطِ تركيا في العراقِ هو تحقيقُ التنميةِ والاستقرارِ من أجلِ العملِ على إنجاحِ مشروعِ طريقِ التنميةِ الذي سيمرُ عبرَ دولِ الخليجِ إلى أوروبا، وأكدَ على أنه طالمَا لم يتمْ تحقيقُ الأمنِ والاستقرارِ، لن ينجحَ المشروعُ في جذبِ المستثمرين. ولذا، على تركيا الانخراطُ في العمليةِ العسكريةِ والتعاملُ بذكاءٍ مع أولِ ردِ فعلٍ إيجابيٍ من الحكومةِ العراقيةِ تجاهَ العمليةِ العسكريةِ.

ومع ذلكَ، في اعتقاديِ، فإن الهدفَ الأولَ لتركيا هو تأمينُ حدودِها والقضاءُ على حزبِ العمالِ الكردستانيِ كهدفٍ أولٍ، حيثُ تصنفهُ كمنظمةٍ إرهابيةٍ وتعتبرُ وجودَه تهديدًا للحدودِ التركيةِ وللأمنِ العراقِي. وهو الهدفُ الذي لن تتنازلَ عنه تركيا وعن العملياتِ العسكريةِ لمواجهةِ PKK حتى وإن ظهرتْ اعتراضاتٌ من الجانبِ العراقيِ، حيث ستتمكنُ من التعاملِ معها بشكلٍ دبلوماسٍي، في حين ستستمرُ العلاقاتُ الثنائيةُ بشكلٍ إيجابيٍ على صعيدِ المجالاتِ الأخرى.

العلاقاتُ الثنائيةُ مع سوريا

تطرقَ فيدان إلى الخطواتِ الإيجابيةِ التي بادرَ بها الرئيسُ أردوغان من أجلِ تطبيعِ العلاقاتِ مع سوريا، وأن هذه الرغبةَ ما زالتْ حاضرةً، ولكنه أكدَ أن تركيا لا تسعىَ لذلك بدافعٍ من العجزِ، بل هي تسعَى بمنطقٍ عقلانيٍ براجماتيٍ، ولذلك ترفضُ وضعَ أيِ شروطٍ قبل الوصولِ إلى طاولةِ التباحثِ. وهو ما يشيرُ في اعتقاديِ، الى أن سحبَ القواتِ التركيةِ الموجودةِ في سوريا لن يكونَ أحدَ الاحتمالاتِ الممكنةِ في الفترةِ المقبلةِ.

أما فيما يخصُ ملفَ اللاجئين السوريين، ربما أرادَ فيدان أن يقولَ إن تركيَا لم تغلقْ بابهَا للسوريين في وقتِ الأزمةِ، ولكن حانَ الوقتُ لعودتهِم بشكلٍ آمنٍ قبل أن تبدأَ أزمةٌ في تركيا قد لا يمكنُ احتواؤُها مستقبلاً، ولكنه شددَ على أن ذلك لن يتمَ بشكلٍ عدوانيٍ، وإنما أكدَ على الأخوةِ الموجودةِ بين الشعبينِ السوريِ والتركيِ، وأن عودةَ السوريين الآمنةَ إلى بلدهِم ليستْ للسوريين في تركيا فقط، بل لكل سوريٍ اضطرَ للهجرةِ، مع التأكيدِ على العملِ من أجلِ تحقيقِ الاستقرارِ في الداخلِ السوريِ.

العلاقاتُ الثنائيةُ مع ليبيا

تسعىَ تركيا للارتقاءِ بمستوى العلاقاتِ مع الشرقِ الليبيِ من خلالِ المباحثاتِ لزيارةٍ مرتقبةٍ للمشيرِ خليفة حفتر إلى تركيا، حيثُ تهدفُ تركيا أولًا لضمانِ مصالحهِا وكذلك إلى إعادةِ إحياءِ الدولةِ الليبيةِ المستقلةِ التي يتوحدُ فيها الشرقُ مع الغربِ، ويعد هذا أحدَ أهمِ الأهدافِ التي تدفعُها لتحسينِ العلاقاتِ، وتسعىَ في هذا الإطارِ بالاستعانةِ بالمنظماتِ الدوليةِ. وبالتاليِ، يظهرُ دورُ تركيا المنخرطُ في ليبيا مع التأكيدِ على أن ترسيمَ الحدودِ الذي قد تمَ لن يُعادَ النظرُ فيه لأنه متسقٌ مع القانونِ وتمتْ الموافقةُ عليه من قبلِ الأطرافِ المعنيةِ.

العلاقاتُ الئنائيةُ مع دولِ الخليجِ

أكدَ فيدان خلالَ المقابلةِ أن العلاقاتِ الثنائيةَ مع دولِ الخليجِ أصبحتْ جيدةُ للغايةِ، واستطاعتْ تركيا تجاوزَ الخلافاتِ التي كانتْ قائمةً، بالأخصِ مع السعوديةِ. وكما ظهرَ، فإن مجالَ الصناعاتِ الدفاعيةِ هى من أكثرِ المجالاتِ التي ستثمرُ العلاقاتِ الثنائيةَ بين دولِ الخليجِ، بالأخصِ مع المملكةِ العربيةِ السعوديةِ التي تتجهُ للتعاونِ مع تركيا في هذا الصددِ، كما يظهرُ أن تركيا تسعىَ لتوسيعِ العلاقاتِ في الفترةِ القادمةِ وتوسيعِ تعاملاتِها مع مجلسِ التعاونِ لدولِ الخليجِ. وما يؤكدُ ذلك هو انطلاقُ الجولةِ الأولى من مفاوضاتِ اتفاقيةِ التجارةِ الحرةِ في العاصمةِ أنقرة، كما تهدفُ تركيا في تعاونهِا مع دولِ الخليجِ إلى النظرِ في أزماتِ منطقةِ الشرقِ الأوسطِ ودولِ إفريقيا والتباحثِ بشأنهِا ومحاولةِ اقتراحِ آلياتٍ لحلهِا.

ملفُ قضيةِ قبرص

من الواضحِ أن تركيا عازمةٌ بشكلٍ كبيرٍ على فرضِ نفوذِها في جزيرةِ قبرص بشكلٍ أكثرَ توسعًا، لأنها تؤمنُ بأن الشعبَ التركيَ القبرصيَ، قد تعرضَ لظلمٍ كبيرٍ خلالَ فتراتِ عدمِ الاستقرارِ، وأن الوجودَ العسكريَ التركيَ هو ما سمحَ بوجودِ السلامِ في الجزيرةِ. وكما اتضحَ، فإن تركيا لا تنوي تقليصَ الوجودِ العسكريِ في الجزيرةِ حتى وإن كان ذلك سيحدثُ توتراتٍ أكثرَ مع اليونان. وأكدَ فيدان مرةً أخرى على سمةِ الأخلاقيةِ، حيث إن وجودَ تركيا في الجزيرةِ هو من أجلِ حفظِ السلامِ وحفظِ حقوقِ الشعبِ التركيِ، وليس مجردَ فرضٍ للنفوذِ.

الاستنتاج

أن تحديدَ السياسةِ الخارجيةِ لدولةٍ ما بأبعادِها وأهدافِها لا يقتصرُ على التصريحاتِ الرسميةِ من هذه الدولةِ أو مقابلاتِ وخطاباتِ المسؤولين، وإنما الخطواتُ والتحركاتُ على أرضِ الواقعِ لها الدورُ الأكبرُ، فقد تتوافقُ مع التصريحاتِ الرسميةِ أو تتناقضُ معها. ومع ذلك، تظلُ هذه التصريحاتُ والمقابلاتُ لها أهميةٌ للاستدلالِ على السياسةِ الخارجيةِ المحركةِ لدولةٍ ما.

وخلالَ هذا اللقاءِ مع هاكان فيدان، اتضحَ لنا أن تركيا تسعىَ بنفوذٍ جامحٍ لأن تكونَ لاعبًا قويًا في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ من خلالِ تعزيزِ علاقاتهِا مع الدولِ العربيةِ ودولِ الخليجِ، والتعاملِ بمنطقٍ عقلانيٍ براجماتيٍ لتجاوزِ الخلافاتِ التي لم تكنْ تعودُ بالنفعِ على أيٍ من الأطرافِ، حيثُ تحاولُ تركيا لَعٌبَ دورِ الحليفِ لدولِ الشرقِ الأوسطِ، ولعبَ دورِ الوساطةِ في الأزماتِ الدوليةِ والإقليميةِ، ودورِ القائدِ في إحلالِ السلامِ والأمنِ والاستقرارِ.