يَزخمُ المجتمع الدولي بسلسلةٍ من النزاعات الممتدة والتي تُثبت باستمرار فشل المؤسسات الدولية وفشلَ النظام الدولي في تحقيق الهدف الأساسي الذي تمَّ إنشاؤه من أجله وهو مَنْعُ الحروب وإرساء الأمن الجماعي والسلام، فتستمر المؤسسات الدولية في العمل لخدمة مصالح منفردة ومتحيزة مما يجعل عملية السلام عمليةً صعبةً وممتدة بسبب عدم وجود هيكل دولي محايد قادر على التعامل مع الأزمات الدولية وإدارتها بشكل سلمي، ويعد النزاع بين أرمينا وأذربيجان أحد أبرز النزاعات التي أثبتت ضَعْف قدرة النظام الدولي في إدارة الأزمات، لإنه على الرغم من وجود مفاوضات للسلام بين البلدين ولكن لم تستعدْ أذربيجان إقليم قره باغ إلا من خلال استخدام القوة العسكرية في سبتمبر 2023، وهو ما أعطى الفرصة لبدأ مفاوضات سلام جدية.
وتأتي الدراسة”The European Union’s involvement in the peace process between Azerbaijan and Armenia – A path destined to fail” المنشورة في مركز تحليل العلاقات الدولية في أذربيجان – باعتباره مركزا يقدم رؤى استراتيجية وتوصيات للشؤون الدولية ويحلل أولويات السياسة الخارجية لأذربيجان – تتناول دور الاتحاد الأوروبي في عملية الوساطة بين أذربيجان وأرمينيا، ودور الأطراف الخارجية في مفاوضات السلام مع الإقرار أن جهود الاتحاد الأوروبي فشلت حتى الآن في فرض سلام بين الدولتين وإنما تتسبب هذه الجهود في زيادة المشاعر الانتقامية، وحتى لم تتوقعْ الدراسة نجاحَ أي جهودٍ للاتحاد الأوروبي في المفاوضات في المستقبل القريب وتطرقت الدراسة لمجموعة من الأسباب التي بررت هذا الفشل.
تطوراتُ عمليةِ السلام
تتناولُ الدراسة التطورات الأخيرة في مسار عملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا بعد حرب قره باغ الثانية وبعد استعادة أذربيجان أراضيها بالقوة العسكرية نتيجة تلقيها الدعمَ العسكري من حلفائها تركيا وإسرائيل وعلى الرغم من استخدام القوة إلا أن هذه العملية أعطت الفرصة لبدءِ سلامٍ مُتبادلٍ حيث أكدت القيادة السياسية في أرمينيا الرغبة الحقيقية في توقيع عملية سلام شاملة وأن هناك استعداداتٍ لتقديم العديد من التنازلات، فتقر الدراسة أن هذه الرغبة الموجودة لدى القيادة الأرمبنية تأتي نتيجة إدراكها بأهمية تطبيع العلاقات مع أذربيجان وبالتالي مع تركيا وحجم المكاسب التي تعود على ازدهارها الاقتصادي والعسكري.
وعلى الرغم من وجود رغبة المضي قدمًأ في عملية السلام إلا أن الدراسةَ تشيرُ إلى توترِ العلاقات بين أرمينيا وروسيا التي كانت الحليفَ الأقرب لها منذ سنواتٍ طويلة، وبداية تقربها للغرب باعتبارها أطرافاً خارجيةً لا تتصرف بشكلٍ محايد يضع عملية السلام في خطر ويجعل التزام أرمينيا بعملية السلام أمراً غامضاً، ولكن في اعتقادي أن بعد توتر العلاقات بين روسيا وأرمينيا كان لابد وأن يدفعها للتعاون مع غير الحلفاء حتى ولو كانت قوى الغرب لأن روسيا ستستمر في استخدام أوراق الضغط لديها في مجالات الاقتصاد والدفاع لاكتساب النفوذ قي أرمينيا، فكان من الطبيعي أن تلجأ أرمينيا لنوعٍ من الدبلوماسية المرنة.
ولكن بشكلٍ عام ما توصل إليه الطرفان بشأن اتفاق الإفراج المتبادل عن الرهائن كما أشارت تحليلاتٌ سياسية عدة هو خطوةٌ غير مسبوقة قد تدل على وجود تفاهم ورغبةٍ حقيقةٍ متبادلة بين الأطراف، كذلك انسحاب أرمينيا من التنافس على استضافةِ مؤتمر الأطراف COP29 يثيرُ بارقةَ أمل وفي الوقت ذاته يضع على أذربيجان مجموعةً من القيود يجب عليها الالتزام بها، ولكن ما مقدار الثقة المتبادلة بين الطرفين؟ فلابد من وجود قدرٍ عالٍ من الثقة إلى جانبِ وجود إرادةٍ سياسيةٍ لتحقيق تقدمٍ ملموس في عملية السلام.
الاتحادُ الأوروبي في إدارة الأزمات
تؤكدُ الدراسة على ضَعْفِ الاتحاد الأوروبي الشديد في مجال الدفاع والأمن وأنه على الرغم من نجاحه في التكامل الاقتصادي إلا أن معضلته الدائمة افتقارُه للإجماع حول قضايا الأمن والدفاع وتباين سياسات الدول الأعضاء، فهناك صعوبةٌ في صياغة سياسةٍ خارجيةٍ هيكليةٍ تتوافق مع السياسة الخارجية لأعضائة ونتيجة لذلك أصبح مستبعد من مختلف الصراعات في جواره المباشر وغير قادر على التأثير فيها، وأثبت الاتحاد الأوروبي في حالة الصراع الأذري الأرمني ضعف سياساته الخارجية بالفعل في مجال الدفاع، على الرغم من أنه لا يمكن الحكم على سياسة الاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع من خلال حالة دراسة منفردة، ولكنني أتفق أن هناك شبهَ إجماعٍ في الساحة السياسية على الضعف الذي يعانيه الاتحاد الأوروبي في سياسته الأمنية وأثبتتْ الأحداثُ المتسارعة في الفترة الأخيرة الحاجةَ الشديدة لإدخال إصلاحاتٍ في هذه السياسات بالأخص مع احتمالات عودة ترامب مرة أخرى في الأدارة الأمريكية.
وساطةُ الاتحادِ الأوروبي الصراع الأذربيجاني – الأرميني
تشيرُ الدراسة إلى افتقار الاتحاد الأوروبي منذ بداية الصراع إلى نهجٍ مشتركٍ ومتفَقٍ عليه من الدول الأعضاء أنفسهم، وبالتالي كان من الصعب إحداثُ تحركٍ إيجابي في الصراع وبالطبع استمر ذلك في إعطاء الفرصة لنمو الدوافع الجيوسياسية لدولٍ مثل روسيا وتركيا وإسرائيل، ووصفتْ الدراسةُ الاتحاد الأوروبي باعتباره فاعلاً غائباً عن هذا الصراع حتى حرب قره باغ الثانية.
كما تؤكد الدراسة على أن مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي تمَّ إنشاؤها بالأساس لخَلْق حلٍ سِلمي للصراع الأذربيجاني – الأرميني لم تنجحْ في ذلك والدليل أن أذربيجان لجأت في النهاية لاستخام القوة لاستعادة الأراضي المتَنازع عليها وبالتالي تم وقْفُ أنشطتها، وهذا ما أثبت الغياب الأوروبي ولم يُتخْ له المشاركة كما تشير الدراسة إلا بعدما أتاحت الظروف الجيوسياسية المتمثلة في الانشغال الروسي عن منطقة جنوب القوقاز جراء الحرب في أوكرانيا.
وكانت أول خطوةٍ بمحاولة الاتحاد الأوروبي توفير أرضية موثوقة للبلدين من خلال تنظيم اجتماعات مباشرة للزعيمين بواسطة شارل ميشيل رئيس المجلس الأوروبي والتي نُظمت منذ 2021 ولكن كان التأثير الملموس منذ سبتمبر 2022 حيث تمَّ نَشْرُ ما يقرب 40 مراقبًا على الحدود وإنشاء بعثة الاتحاد الأوروبي في أرمينيا، وهو ما اختلف فيه لأنه إذا كان قد أحدث تأثيراً ملموساً بالفعل لم تكن لتستخدمَ أذربيجان القوة العسكرية في سبتبمر 2023 بل في اعتقادي تأثيرها كان ضعيفاً حتى ذلك الوقت، وما تنتقده الدراسة هو أنه بعدما استخدمت أذربيجان القوة العسكرية في سبتمبر 2023 كان ردُّ رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل هو وجوبَ اعتراف أذربيجان بالسلامة الإقليمية لأرمينيا فتنتقد الدراسة هذا الرد الفوري باعتباره متحيزاً، وأكدت الدراسة على فَشِلِ جوزيب بوريل في إدارة الأزمة وفي التعامل بشكل محايد.
تنتقد الدراسة كيفية ادارةِ الاتحادِ الأوروبي للأزمة بالأخص التصريحات التي تراها لا تتناسبُ مع مكانةِ الاتحاد الأوروبي التقليدية باعتباره فاعلاً مؤثراً، وأن التصريحات المتمثلة في اتهام أذربيجان بقيامها بعملياتِ تطهيرٍ عِرقيِ للأرمن هي تصريحات غير صحيحة وأنها تثيرُ المشاعرَ الإنتقامية للأرمن ومن شأنها أن تُثبطَ عملية السلام وتُسهمَ في تأخير بناء الثقة.
وبالتالي نستنتج أن الدراسة ترى فشلَ الاتحاد الأوروبي كوسيطٍ في الصراع الأذربيجاني – الأرمني لأسباب عِدة:
أولهما بسبب ضَعْفِ وقصور السياسة الأمنية والدفاعية وصعوبة تحقيق إجماعٍ بين أعضائه في الأمور المتعلقة بالسياسة الخارجية مما أنتج ضعْفَ الوجود الأوروبي في منطقة الصراع وكانت سياسته الخارجية قد أشارتْ إلى نزاع قره باغ، وكان يفترض لهذه العقبة أن تحُل بعد تعديل سياسات الأمن والدفاع المشترك بمعاهدة لشبونة وهو ما لم يتمْ الوفاءُ به، وحتى التحركات التي بدأها الاتحاد منذ 2021 وترى الدراسة آثارها الملموسة، لم تنجح حتى سبتمبر 2023 في حل الصراع بشكل سلمي.
وكذلك ترى الدراسة أن تدخّلَ الاتحاد الأوروبي لم يكنْ بشكلٍ محايد بل كانت هناك تصريحات قدد تتسبب في إثارة المشاعر الإنتقامية للأرمن من خلال اتهام أذربيجان بالتطهير العرقي والاعتماد على تصريحات من جانب واحد.
السبب الثالث هو سلوكُ الدول الأعضاء حيث تشيرُ الدراسة إلى تَحوطِ أذربيجان من وجود فرنسا في المفاوضات المباشرة للسلام بين الدولتين حيث تؤكد الدراسة أن مواقفهَا وخطابَها السياسي يُكسبانها لقبَ المؤيدة لأرمينيا في أذربيجان، إلى جانب دعوات البرلمان الفرنسي لفرض عقوبات على مسؤولين في أذربيجان، وكما تشير الدراسة تسببت فرنسا في أزمةٍ دبلوماسيةٍ بين الزعيمين وتوتر العلاقات بين أذربيجان والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا حيث علقت علاقاتها معها، وبالفعل عند النظر للمؤشرات نجدُ أن الدعمَ الفرنسي لأرمينيا هو دعمٌ غيرُ مشروط من خلال بيعها الصواريخ والرادارات ومساعدتها في تدريب قوات الدفاع، وبالتالي تنتقدُ الدراسةُ الدور الفرنسي الذي لا يأخذُ كل الأطراف في الاعتبار ولذا لم ينجحْ في دعم عملية السلام باعتبار فرنسا من أهم الدول في الاتحاد الأوروبي.
مستقبلُ مفاوضاتِ السلام بوساطة الاتحاد الأوروبي
تشير الدراسة ألى أن وساطة الاتحاد الأوروبي ستستمر على هذا النهج ولن يتغيرَ وضْعُ الاتحاد الأوروبي في المفاوضات في المستقبل القريب، ستستمر أرمينيا في تعميق علاقاتها مع دول مثل فرنسا والهند مما سيتسببُ في اثارةِ المشاعر الانتقامية حيث تُوجه الاتهامات إلى أذربيجان بأن لديها رغبةً احتلال جنوب أرمينيا بأكمله من خلال ممر زنغرور مما سيتسبب في تجميد عملية السلام، وفي اعتقادي أن طموحات أذربيجان بإعادة فتْح ممر زنغرور هو متعلقٌ بطموحاتٍ استراتيجية ليس الهدف منها تهديد نفوذ أرمينيا.
استنتاج
في ضوء التحليلِ المعمق للدراسة، يتضحُ جلياً أن التحدياتِ التي تواجهُ هذا المسار معقّدة ومتشابكة، حيث فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق تقدمٍ ملموسٍ في هذا الصراع نتيجة لمجموعة من العوامل المتداخلة، بدءًا من القصور في هيكل الاتحاد الأوروبي نفسه ووصولاً إلى الديناميكيات المعقدة للصراع الإقليمي.
أظهرت الدراسة بوضوح أن الاتحاد الأوروبي يعاني من تحدياتٍ هيكليةٍ جوهرية تعيقُ قدرتَه على لَعِبِ دورٍ فعال في إدارة الأزمات، مثل ضعف التماسك الداخلي وعدم وجود سياسة أمنية دفاعية مشتركة، بالإضافة إلى ذلك، أبرزت الدراسة تأثير التحيزات السياسية والدوافع الجيوسياسية على قدرة الاتحاد على اتخاذ موقفٍ محايدٍ في الصراع، وسلّطت الدراسة الضوء على الدور المتغير للأطراف الإقليمية، مثل روسيا وتركيا، وتأثير ذلك على ديناميكيات الصراع.
