المقالات
ورقة سياسات بعنوان: الاستراتيجية البديلة وسبل إحياء المشاريع المائية بين مصر ودول حوض النيل
- نوفمبر 8, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات الأفريقية
إعداد/ دينا لملوم
منسق وحدة الشئون الأفريقية
الملخص التنفيذي:
يعد الأمن المائي المصري قضية وجودية بالنسبة لمصر؛ لذا فهي ترفض كافة التحركات الأحادية في ملف السد الإثيوبي والملفات الموازية، والتي تبعد كل البعد عن مبادئ القانون الدولي المُنظِمة للمياه، لا سيما مبدأ التوافق وعدم إحداث ضرر لدولتي المصب، مع ضرورة الإخطار المسبق، وهو ما تخطته إثيوبيا في إقدامها على تدشين سد بدعوى التنمية، والذي أعلنت عن اكتماله بنسبة ١٠٠٪ ٣١ أكتوبر الماضي دون تشاور مع مصر والسودان، ناهيك عن اتفاقية عنتيبي التي أصبحت واقعاً ملموساً بعد أن دخلت حيز التنفيذ ١٣ أكتوبر ٢٠٢٤، حيث أنها تنص على إلغاء الحصص المائية المُقدرة لمصر والسودان، مع تقاسم المياه بين دول حوض النيل، والسماح لدول المنبع بإقامة مشروعات مائية دون تنسيق مع دول المصب، الأمر الذي يشكل خطراً بالغاً على دولة كمصر التي تعول على نهر النيل بشكل كلي في توفير مواردها المائية، فضلاً عن أن الذي شجع الحكومة الإثيوبية على تدشين السد، هي أطراف خارجية من مصلحتها تقويض أسس الاستقرار والسلام في المنطقة، بما قد يدفع باقي دول المنبع لإقامة مشاريع واهية بحجة التنمية كإثيوبيا؛ من أجل تضييق الحصار على مصر والإضرار بمستقبل أمنها المائي، وهو الأمر الذي لن تقبله الإدارة المصرية بكافة السبل، كما أنها تحتفظ بخيارات الرد في الوقت المناسب.
وعليه وجب الإشارة إلى بعض الخطط والاستراتيجيات البديلة لإعادة النظر في مشاريع الأنهار الصناعية؛ لمواجهة التحديات المحتملة سواء كانت طبيعية حيث زيادة الكثافة السكانية واتساع رقعة المشروعات التنموية، والتي تشكل ضغطاً على موارد المياه، أو المُفتعلة، من قبل جهات وأطراف رامية لخنق مصر مائياً، كسلاح للضغط عليها في ملفات أخرى، وهو أمر مستبعد لن تسمح الدولة المصرية بحدوثه.
ويكمن الهدف من هذه الورقة في تسليط الضوء على مشاريع حيوية ومحورية، فعلى مدار أعوام أُطلقت العديد من مشاريع ربط الأنهار الأفريقية بنهر النيل من خلال حفر قنوات صناعية، أبرزها قناة على نهر الكونغو، وأخرى قناة جونجلي الواقعة بجنوب السودان، والتي تمثلت في دافع التنمية في بادئ الأمر حتى تصاعد الخلاف على السد الإثيوبي الذي شهد أعواماً من التعنت من قبل أديس أبابا، تمخضت عنه حيثيات سياسية وأمنية تتعلق بأمن مصر المائي.
ومن هذا المنطلق سيتم تناول أبرز المسارات التي تُحتم ضرورة العمل عليها خلال الفترة المقبلة لتقليل حدة المخاطر التي يُحتمل أن تحدث مستقبلاً فيما يتعلق بقضية المياه، مع الإشارة إلى بعض الفرص والتحديات التي يمكن أن تجابه مصر في هذا الصدد، وأخيراً طرح عدد من مقترحات التحرك والتوصيات التي يمكن أن تسهم في إيجاد مخرج لهذه المعضلة.
المقدمة:
لقد أصبح البحث عن سبل جديدة لتقليل المخاطر التي يمكن أن تحدث في المستقبل القريب؛ بسبب تعنت الحكومة الإثيوبية في ملف السد الإثيوبي وانتهاك كافة القوانين والأعراف الدولية المنظمة للمياه، ومؤخراً دخول اتفاقية عنتيبي حيز النفاذ، أمراً تحتمه الضرورة للحفاظ على الأمن المائي الذي يعد جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي المصري؛ وبناءً عليه قد تشرع مصر في استئناف بعض المشاريع المائية بينها وبين بعض دول حوض النيل وتوطيد العلاقات معها، والتي تشهد بالفعل زخماً واهتماماً بالغاً من الإدارة المصرية، ولعل الأحرى بالذكر في هذه الورقة هو مشروع نهر الكونغو وقناة جونجلي، على اعتبارهما الأقرب للواقع والتنفيذ، بالرغم من بعض المعوقات التي يمكن أن تعتريهما، إلا أن مصر بحسن إداراتها استطاعت على مدار السنوات الماضية أن تطوع العواقب والتحديات التي تجابهها على أصعدة عدة، وتحولها إلى نقاط قوة تمكنها من تحقيق أهدافها وتطلعاتها؛ ضماناً لمستقبل أفضل لشعبها.
مشروع نهر الكونغو:
بدأ التفكير في مشروع لربط نهر النيل بنهر الكونغو عبر قناة تصل الأخير بأحد روافد النيل في السودان عام ١٩٨٠؛ بهدف المحافظة على مسار المياه في مصر والسودان وجنوب السودان والكونغو، عبر استخدام هدر المياه المتدفقة من هذا النهر وإلقائها في المحيط الأطلنطي، حيث يتم تصريف أكثر من ألف مليار متر مكعب من مياهه في المحيط، ويندرج نهر الكونغو كثاني أطول نهر في القارة الأفريقية بعد نهر النيل، وثاني أطول نهر في العالم من حيث التدفق المائي بعد نهر الأمازون، كما أنه يتميز بتدفق المياه طوال العام، بخلاف الأنهار الأخرى المرتبطة بموسم الفيضان.
خريطة توضح القناة المقترحة لربط نهر النيل بنهر الكونغو
وترجع الأسباب الكامنة حول التفكير في هذا المشروع إلى عدة عوامل:
حل مشكلة الندرة المائية التي يمكن أن تتعرض لها مصر مستقبلاً، لا سيما بعد تعثر المسار الدبلوماسي في ملف السد الإثيوبي وعدم مراعاة الحكومة الإثيوبية حقوق مصر والسودان في مياه النيل، فضلاً عن اتفاقية عنتيبي، والتي إذا ما شهدت تنفيذاً فعلياً على أرض الواقع؛ ستسبب ضرراً بالغاً لمصر، وغيرها من الأسباب الطبيعية والتي يمكن أن تنجم عن عوامل البيئة والمناخ والكثافة السكانية في العالم ككل ليس في مصر فحسب، كل هذه الأمور تشكل ضغطاً على الدولة المصرية من كافة الجهات، وتتطلب ضرورة البحث عن مصادر جديدة للمياه والاستغلال الأمثل للموارد المائية؛ بهدف تحقيق الأمن المائي والغذائي.
الاستفادة من هدر المياه في نهر الكونغو واستخدامها لسد الفجوة التي يمكن أن تحدث في حصة مصر من مياه النيل، وتعويض ذلك في استغلال الموارد المائية الزائدة عن حاجة نهر الكونغو والتي يتم تصريفها في المحيط الأطلنطي وبكميات كبيرة، وبالتالي إذا تم استخدام هذه المياه بنقلها لنهر النيل عبر قناة اصطناعية، ذلك سيؤدي إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي والتنمية في مصر، ويساعد على استصلاح الأراضي الصحراوية بشكل أوسع، هذا بالإضافة إلى توليد الطاقة الكهربائية وقيام مصر بتقديم الخبراء والخبرات في مختلف القطاعات الكونغولية، بما سيسهم في تحقيق المنفعة المتبادلة للطرفين.
إن ما يحفز على هذا المشروع هو عدم معارضة القانون الدولي واتفاقيات دول حوض النيل تدشينه إلا في حالة معارضة أو رفض الكونغو ذاتها هذا المسار، وبما أن الأخيرة لم تعارض، إذن فلن يكون هناك ما يمنع التنفيذ سوى بعض العقبات التي هي بطبيعة الحال تواجه أي مسار تنموي هادف لإحداث الرخاء والتنمية، لا سيما في ظل وجود أطراف دولية من مصلحتها تقويض أسس التعاون والتقدم في البلدان الأفريقية، والاستحواذ على خيراتها ومواردها، ولكن الإدارة المصرية لم يسبق لها أن وقفت مكتوفة الأيدي أمام هذه المؤامرات، ومن ثم فتنفيذ مثل هذا المشروع لن يكون أمر بعيد المنال أمامها، ولكن قد يكون هناك بعض الاعتبارات والتحركات المتوازنة التي اعتادت عليها السياسة المصرية يتم اتخاذها قبل التحرك في أية ملف.
فرص وتحديات تنفيذ المشروع:
من المتعارف عليه أن الإقدام على عمل تنموي قد يواجه بعض المعوقات بالرغم من الفوائد التي ستنتج عنه، خاصة وإن كان مثل هذا النوع من هذه المشاريع تتم في إطار بيئة تعاني عدم الاستقرار والتكالب الدولي على مقدرات وموارد القارة السمراء:
الفرص:
من المفترض أن يوفر هذا المشروع لمصر حوالي ٩٥ مليار متر مكعب من المياه بشكل سنوي، ما يسهم في زراعة نحو ٨٠ مليون فدان، مع توقعات بزيادة هذه النسبة بعد ١٠ سنوات إلى ١١٢ مليار متر مكعب، ومن ثم توفير كميات هائلة من المياه تكفي لزراعة نصف مساحة الصحراء الغربية، أيضاً المساهمة في توليد طاقة كهربائية بقدرة حوالي ٣٠ جيجا، بما يعادل إنتاج ٣٠ محطة نووية، إضافة إلى إتاحة الفرصة أمام مصر والسودان والكونغو لاستصلاح حوالي ٣٢٠ مليون فدان صالحة للزراعة، في محصلة نهائية تكمن في معالجة أزمات نقص المياه والجفاف في المنطقة، بل ومناطق أخرى حول العالم، وبالتالي المساعدة في إحداث التنمية والتقدم والازدهار.
التحديات:
يشكل عدم الاستقرار الأمني في منطقة تعاني من الاضطرابات والتوترات ونشاط الإرهاب حجر عثرة أمام هذا المشروع، خاصة وأنه في ظل حالة التنافس على موارد أفريقيا قد تلجأ بعض الدول إلى تحريض مثل هذه الجماعات المتطرفة على اعتراض أعمال الحفر والتأسيس، فضلاً عن المنافسة من قبل الشركات الأجنبية ومتعددة الجنسيات التي تتواجد في المنطقة والتي قد تدفع نحو تقويض المشروع، ناهيك عن التكاليف المطلوبة لإنشاء القناة، التي يفترض أن تمر من خلال مناطق شديدة الوعورة، وتحتاج إلى أدوات وآلات لرفع المياه[1]، إلا أن مصر استطاعت قبل ذلك إقامة مشاريع لم تقل في صعوبتها عن ذلك المشروع.
وبالتالي يمكن اتخاذ بعض الخطوات اللازمة لتأمين مسار القناة حال العزم على تنفيذ عملية الربط بين النهرين:
توجيه الاستثمارات الأجنبية نحو الاستثمار في هذا المشروع والاستعانة بالخبراء والتكنولوجيا الحديثة لتسهيل عملية رفع المياه عبر القناة الناقلة بين نهري الكونغو والنيل، ما يسهم في تقليل التكاليف وفي الوقت ذاته تشجيع الاستثمار في هذه المشروعات التنموية طويلة الأجل، وفيما يتعلق بالتوترات الأمنية التي قد تحدث وتكون عائق أمام المشروع، قد يتم التعاون بين الدول التي سيمر بها القناة التي ستربط بين نهر الكونغو ونهر النيل، وخلق فرص عمل لمواطني هذه الدول في المشروع، بما سيجعلهم سلاح آمن يضمن أمن وسلامة العاملين على المشروع وعدم المساس به، إضافة إلى أن هذه الدول يفترض أن تستفيد من التنمية والكهرباء التي ستنجم عنه، بما يعني تعظيم الاستفادة أمام الجميع، ومن ثم عدم إتاحة الفرصة للشركات الأجنبية للوقيعة بين الدول الأفريقية وتحريضهم على إفشال مشروع نهر الكونغو.
قناة جونجلي:
في سبعينيات القرن المنصرم، شرعت مصر في تدشين مشروع قناة جونجلي بجنوب السودان، على النيل الأبيض الرافد الثاني لنهر النيل، وتم تنفيذ حوالي ٧٠٪ منه، وتوقف المشروع بسبب الحرب الأهلية التي نشبت عام ١٩٨٣ بين الحركة الشعبية في الجنوب بزعامة جون قرنق، وحكومة الخرطوم، وذلك بعد حفر نحو ٢٦٠ كم، وكان الهدف من هذه القناة تحويل مجرى النيل الأبيض بعيداً عن منطقة المستنقعات التي تشكل مصدراً هاماً للمياه بجنوب السودان، علاوة على توفير آلاف الأفدنة الصالحة للزراعة، وحال تنفيذ المشروع يمكن توفير نحو ١٠ مليار متر مكعب من المياه سنوياً[2].
قناة جونجلي
الثمار التي يمكن أن يجنيها المشروع:
بادئ ذي بدء قناة جونجلي أو أية مشروع يمكن أن تشرع فيه مصر لن يكون عوضاً عن حصتها المائية في نهر النيل، بل استراتيجية بديلة لتعزيز وزيادة مواردها من المياه، فمن المفترض أن توفر جونجلي نحو ٤ مليار متر مكعب من المياه في المرحلة الأولى فقط، وتوظيف ذلك في زيادة الرقعة الزراعية، وتعزيز أطر التعاون المصري السوداني على اعتبار أن الطرفين سينتفعوا من المشروع، ومن ثم تسهيل الربط بين مصر والسودان وجنوبها، وزيادة التبادل التجاري وتوفير فرص عمل للسكان المحليين، ولهذا فإن النفع لن يقتصر على المياه فحسب، بل يمتد إلى سبل أوسع، يصل مداها إلى تمكين مصر سياسياً كلاعب قوي في المنطقة يسعى لإحداث التنمية في القارة الأفريقية وتعويض البلدان الواقعة أسفل النهر عن نقص مياه النيل.
معوقات المشروع:
أُثيرت المخاوف بشأن تأثير التغييرات البيئية على القناة، حيث انخفاض معدل التبخر الناجم عن المستنقعات؛ ما يؤثر على النظام الهيدرولوجي والتقليل من سقوط الأمطار في غرب أفريقيا، وكذا التأثير على التنوع البيئي للطيور المستقرة والمهاجرة بمنطقة السد، بجانب تغيير هيكل المصايد والأراضي العشبية بما قد يدفع إلى التناحر والنزاع حول هذه الأراضي[3]، أيضاً التكلفة الإنشائية للمشروع قد زادت قطعاً عما كان مقدراً لها، ولكن بالرغم من ذلك ينبغي تحريك العمل في القناة عبر قيام مصر بعقد تفاهمات بين حكومتي الخرطوم وجوبا[4]، وتعزيز أطر التعاون المشترك بين الدول الثلاث؛ للتحرر من أية ضغوطات يمكن أن تسببها إثيوبيا في ملف السد الإثيوبي.
ناهيك عن اتفاقية عنتيبي، والتي قد تسبب أضراراً بالغة لدولتي المصب، حال قيام أية دولة بإقامة سدود أخرى على النيل من شأنها التأثير ثانية على حصة مصر المائية من نهر النيل، وبالتالي فقد يتغير مجرى الأحداث بعد قيام جنوب السودان بالتصديق على هذه الاتفاقية، وهو ما قد يجعل بمحال تنفيذ مثل هذا المشروع؛ نظراً لأن عنتيبي بطبيعة الحال ستؤثر على الموارد المائية المصرية، لا سيما وأنها تعطي الحق للدول المشاركة فيها بإقامة السدود عليها، فضلاً عن عدم الاعتراف بحصة مصر من مياه النيل، والتي هي في الأساس تعاني من فقر مائي، فماذا عن مشروعات أخرى تهدد هذه الحصة المائية؟.
مشروع بحر الغزال:
تعمل مصر على دعم جنوب السودان في منطقة بحر الغزال، في إزالة الحشائش وإنشاء تحويلتين لربط هذا البحر بالنيل الأبيض؛ وذلك يساعد على إمداد مصر ب٧ مليار متر مكعب من المياه تستفيد منها كلاً من مصر والسودان بالمناصفة، في إطار التعاون المشترك بين القاهرة ودول حوض النيل في العديد من المشاريع وتقديم الخبراء والخبرات المصرية للأشقاء الأفارقة.
قناة موشار:
تسعى مصر للاستفادة من مشروع قناة موشار الواقعة جنوب السودان في نهر السوباط بطول ٣٥٠ كيلو متر، ويعد هذا النهر أحد الروافد الرئيسية للنيل الأبيض، وتبرز مشكلة مستنقعات موشار، في أنها تعاني من عمليات التبخير والتسرب؛ وبالتالي يمكن حل هذه المعضلة بواسطة أعمال بسيطة كالحفر والردم والتعميق، وتمتلك مصر خبرات متعددة في هذا المجال، ومن ثم يمكن لعب دور محوري لتعزيز قدراتها المائية، ويفترض أن يوفر المشروع حوالي ٤ مليار متر مكعب من المياه [5]
توصيف المشكلة:
هناك بعض التحديات التي واجهت مصر فيما يتعلق بملف الأمن المائي، أولها السد الإثيوبي وتعثر المسار التفاوضي الذي سلكته مصر على مدار سنوات؛ مقابلةً تعنتاً إثيوبياً في كافة مراحله إلى أن وصل لحد الاكتمال بنسبة ١٠٠٪ وفق ما صرح آبي أحمد، هذا بالإضافة إلى اتفاقية عنتيبي التي زادت من تعقيد المشهد، والتي ستسبب عواقب وخيمة حال تنفيذها على أرض الواقع، هذا بخلاف العوامل الطبيعية وتقلبات المناخ والانفجار السكاني، كل هذه الأمور تشكل ضغطاً على مستقبل الأمن المائي المصري، ويمكن إجمال ذلك فيما يلي:
أولاً- ملف السد الإثيوبي:
في أواخر أكتوبر الماضي أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عن اكتمال أعمال البناء في السد الإثيوبي بنسبة ١٠٠٪، مع الإشارة إلى أنه سيتم تشغيل ٣ توربينات ديسمبر المقبل؛ ليصل إجمالي التوربينات ٧ توربين، إضافة إلى بدء العمل على حجز ٩٠٠ مليون متر مكعب من المياه يومياً[6]، وهو ما يشكل جرس إنذار لمصر بحتمية التحرك نحو البحث وإعادة إحياء المشاريع المائية التنموية مع الدول الأفريقية، وعدم إتاحة الفرصة لأديس أبابا بالضغط على مصر، والتحول من مسار الدبلوماسية التفاوضية، إلى دبلوماسية التنمية واستراتيجية الحلول البديلة لتأمين مستقبل مصر المائي ضد أي مخاطر محتملة أياً كان مصدرها.
ثانياً- اتفاقية عنتيبي:
في ١٣ أكتوبر المنصرم أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي دخول اتفاقية عنتيبي حيز النفاذ، وهو ما يشكل تهديداً جسيماً لمستقبل الأمن المائي المصري، وبالنظر إلى دول حوض النيل والتي صدقت بعضها على عنتيبي، يُلاحظ أن لديها ما يزيد عن استهلاكها، وبناءً على ذلك فإن استخدامها لمياه النيل استخدام هامشي، بخلاف مصر التي تعتمد اعتماداً كلياً عليه.
وفيما يلي استعراض المصادر المائية لبعض دول حوض النيل:
إثيوبيا:
تسير بيانات البنك الدولي إلى أن حجم المياه الداخلية في إثيوبيا يصل نحو ١٢٢ مليار متر مكعب، تستهلك منها ٥,٦ مليار متر مكعب فقط، كما أنها تمتلك كميات هائلة من المياه الجوفية بفضل الأمطار الموسمية الغزيرة التي تشهدها، إضافة إلى أن نهري جوبا وشبيلي اللذين ينبعان من إثيوبيا باتجاه الصومال تبلغ إيراداتهما المائية حوالي ٢٠ مليار متر مكعب لا يتم استغلالهما ويصبان في المحيط الهندي عند مقديشو، إذن فلماذا تحجُر أديس أبابا على مياه النيل التي تتدفق إلى مصر؟، والتي تشكل مصدر حياة البشر والحيوان والنبات، بحجج واهية تتمثل في التنمية وتوليد الكهرباء، وكلها أكاذيب للتضييق على مصر، والضغط عليها في ملفات عدة، وهو أمر لن تناله إثيوبيا مهما حدث.
أوغندا:
يبلغ حجم التدفقات المائية الداخلية إلى أوغندا ٣٩ مليار متر مكعب، ويصل متوسط نصيب الفرد نحو ١٢٠٥ متر مكعب، وتستخدم ٠,٣ مليار متر مكعب فقط من مواردها الداخلية، إضافة إلى أن هناك إيرادات مائية تأتي من خارج حدودها، كما أنها تعتمد على مياه الأمطار التي تسقط لمدة ٨ أشهر خلال العام في الزراعة، وتعتبر كمبالا موقعاً استراتيجياً لتنفيذ العديد من المشروعات للحفاظ على مياه النيل من التبخر والتسرب والتشرب في منطقة بحيرة ومستنقعات كيوجا، والتي تصل نحو ٢٠ مليار متر مكعب سنوياً.
تنزانيا:
إن موارد المياه الداخلية التي تصل إلى تنزانيا تتشكل في نحو ٨٤ مليار متر مكعب، ويبلغ متوسط نصيب الفرد من المياه ١٩٣٠ متر مكعب بشكل سنوي، إلا أنها تستهلك قرابة ٥,٢ مليار متر مكعب فقط من هذه الإيرادات الداخلية، وتسقط الأمطار عليها في فترة من ٦ إلى ٨ أشهر، إضافة إلى أنها لا تعتمد بشكل أساسي على نهر النيل؛ نظراً لأن مواردها من المياه الجوفية والسطحية يجعلها في غنى عن المطالبات المائية لدول الحوض.
كينيا:
تصل موارد كينيا الداخلية من المياه إلى ٢١ مليار متر مكعب، وكذا متوسط نصيب الفرد من المياه يبلغ حوالي ٥٢٥ متر مكعب سنوياً، وتستخدم نيروبي ما يقرب من ٢,٧ مليار متر مكعب فقط من مواردها الداخلية السطحية، كما أنها تمتلك مخزوناً كبيراً من المياه الجوفية المتجددة والتي تغذيها الأمطار بشكل مستمر، ناهيك عن أن لديها موارد داخلية غير مستغلة، وتعتبر مصدر هامشي لمياه النيل بما يجعلها بعيدة عن المطالبة بأية حصص من مياهه.
رواندا:
تبلغ الإيرادات المائية الداخلية لرواندا ١٠ مليار متر مكعب، ويصل متوسط نصيب الفرد من المياه إلى نحو ٩٢١ متر مكعب، كما أنها تعد مصدراً أقل أهمية نسبياً مقارنة ببعض دول الحوض الأخرى مثل أوغندا وتنزانيا الكونغو التي تعتبر مصدراً لتدفق الروافد الاستوائية لنهر النيل.
مصر:
تصنف مصر كأفقر بلدان العالم من حيث مصادر المياه، حيث تصل مواردها الداخلية من المياه نحو ٦٠ مليار متر مكعب سنوياً[7]، ومتوسط نصيب الفرد فيها من المياه يقترب من ٥٠٠ متر مكعب سنوياً في الوقت الذي عَرفت الأمم المتحدة الفقر المائي على أنه 1000 متر مكعب من المياه للفرد في السنة[8]، وتعتمد بشكل كلي على مياه نهر النيل بخلاف باقي دول الحوض التي تمتلك مصادر أخرى للمياه تجعلها مستقرة مائياً، وقد ارتفع معدل استهلاك مصر للمياه مطرداً مع تزايد عدد سكانها، والتوسع في الأنشطة الزراعية لتلبية احتياجاتهم.[9]
خلاصة القول في هذا الصدد أن دول حوض النيل تمتلك مصادر لا بأس بها من المياه تكفيها وتزيد عن حاجتها، وبالرغم من ذلك تنغمس في اتفاقات لتقاسم المياه بين دول الحوض وبعضها البعض، بالرغم من الدور الريادي والتاريخي لمصر مع أشقائها في أفريقيا وعلى وجه الخصوص حوض النيل.
مؤامرة تُحاك ضد مصر:
مما لاشك فيه أن التحركات الاستفزازية الإثيوبية ضد مصر لا تقف بمعزل عن الأطراف الخارجية التي تحاول بشكل أو بآخر المساس بأمن القومي المصري، -والتي لا تخفى هويتهم عن الجميع-؛ وهو ما يتضح في الدعم الذي يغدق على الجانب الإثيوبي سواء في مساعدات تدشين السد، أو الخُطى التي تتبعها أديس أبابا في المنطقة، حيث اتفاق أرض الصومال الذي أقدمت على عقده مع إقليم صومالي لاند بما يتيح لها إقامة قاعدة عسكرية بميناء بربرة؛ للنفاذ إلى البحر الأحمر وتطويق الجانب المصري، ومؤخراً إقدام جنوب السودان على التصديق على اتفاقية عنتيبي، ودخولها حيز التنفيذ، والتي لربما دعمته الحكومة الإثيوبية لتسريع هذه الخطوة، والتي جاءت مباشرة بعد الإعلان مايو المنصرم عن مشروع للربط البري بين البلدين، يتضمن بناء طريق عابر للحدود بطول ٢٢٠ كيلومتر بشكل مبدئي، بتكلفة ٧٣٨ مليون دولار، والذي ستموله إثيوبيا بموجب قرض يسدده جنوب السودان، وأشارت إلى أن الأهداف المرجوة من هذا المشروع تكمن في تعميق العلاقات الاقتصادية وتعزيز أسس التواصل بين البلدين[10].
ولكن في حقيقة الأمر هذه الخطوة نكاية في مصر، وموائمات بين حكومتي جنوب السودان وإثيوبيا، فربما قامت الأخيرة بإقناع الحكومة في جوبا بالتصديق على الاتفاق مقابل دعم هذا المشروع، بالرغم من العلاقات التاريخية الممتدة والفعالة بين مصر والدولة الجنوب سودانية، وعلى ما يبدو أنه قد يكون هناك أطراف أخرى سواء إقليمية أو دولية دفعت هذا التحرك، فضلاً عن أن أديس أبابا تسعى على قدم وساق بدعم من حلفائها لتسريع تصديق دول الحوض على الاتفاقية؛ لكي تتمكن من شرعنة سد النهضة لضرب الاعتراضات المصرية والسودانية على السد عرض الحائط، ومن ثم حشد الرأي العام العالمي الداعم لحق إثيوبيا في بناء السدود على النهر دون مراجعة الجانبين المصري والسوداني.
عوامل طبيعية:
تشكل الكثافة السكانية تحدياً كبيراً للموارد المائية في مصر، فوفق إحصائيات يتوقع أن يصل إجمالي السكان إلى أكثر من ١٧٥ مليون نسمة عام ٢٠٥٠، ما يشكل ضغطاً على موارد المياه، أيضاً تعد التغيرات المناخية سبباً محتملاً للتأثير على مصادر المياه، لا سيما في ظل الارتفاع المشهود لدرجات الحرارة، والظواهر الجوية المتقلبة التي تشهدها مصر، حيث الأمطار الشديدة التي تضرب بعض المناطق، فضلاً عن ارتفاع منسوب البحر وما يمكن أن يشكله من تأثيرات سلبية خطيرة على المدن والمناطق الساحلية.[11]
الخاتمة
قد يكون من الأحرى بمصر في ظل هذه التحديات الجِسام أن تقوم بمراجعة سياستها الخارجية ثانية، وتكثيف جهودها في إفريقيا عبر سياسة الاحتواء وتنويع مصادر المياه، وعدم الاعتماد على نهر النيل وحده، بل السعي نحو إيجاد سبل بديلة تحفظ الأمن المائي المصري حال نفاذ مخططات إثيوبيا وحلفائها، فيمكن في هذا الإطار السعي لاستكمال بعضٍ المشروعات التي لم تُسْتَكْمَلْ أو يُشرع فيها بعد مع دول حوض النيل، مثل مشروع ربْط نهر الكونغو بنهر النيل؛ للتحكُّم في الموارد المائية بالدول المستفيدة والمتضررة من مشروع السد الإثيوبي مثل “مصر، والسودان”، عبْر استغلال هدْر المياه بنهر الكونغو التي تصُبُّ في المحيط الأطلنطي دون أيِّ استفادةٍ ملموسةٍ منه، أيضاً ضرورة التفكير في إعادة البتِّ في مشروع قناة جونجلي إذا ما أُتيحت الفرصة لذلك.
التوصيات:
إعادة البت في مشروعي نهر الكونغو، وقناة جونجلي وذلك يمكن أن يتم عبر عدة مسارات:
تعزيز التعاون بين دول حوض النيل، وهو الأمر الذي عملت مصر عليه منذ فجر التاريخ؛ وذلك عبر الانخراط في اتفاقيات شراكة تضمن تأمين المشروع حال تنفيذه، وفي الوقت ذاته تحقيق التنمية وتوفير فرص عمل للدول التي ستمر بها القناة، وضمان حمايته من الأعمال المتطرفة المحتملة.
توجيه الاستثمارات الأجنبية نحو هذه المشروعات طويلة الأمد، فمن ناحية تساعد هذه الاستثمارات على تخفيف التكلفة المالية عن كاهل الحكومة المصرية، وفي الوقت ذاته استخدام التكنولوجيا الحديثة التي ستساهم في التغلب على المناطق الوعرة والتي يصعب معها التعامل البشري.
تأمين المناطق التي سيتم العمل فيها،- والتي يسهل على الجماعات المتطرفة الانغماس فيها-، عبر إرسال قوات أمنية، تساعد على توفير الحماية اللازمة للعاملين على المشروع، فقد يتم تشكيل قوة مشتركة بين مصر وبعض الدول الشريكة لإيجاد بيئة أمنية ملائمة تسمح للشركات الأجنبية أن تتحرك بحرية تامة دون أية تخوفات.
مساهمة الحكومة المصرية في إيجاد توافق بين حكومتي الخرطوم وجوبا، بما يخدم تحركات مصر في هذا الملف، ويساعدها على تحريك المياه الراكدة لمشروع قناة جونجلي.
البحث عن سبل جديدة يمكن من خلالها زيادة الموارد المائية لمصر، وذلك يمكن أن يحدث من خلال زيادة أطر التعاون المشترك بين القاهرة ودول الحوض، عبر دخول الشركات المصرية في بعض المشروعات التي تعود بالنفع على الجانبين المصري والأفريقي، وخاصة مشاريع السدود.
المصادر:
[1] مشروع ربط نهر الكونغو بنهر النيل.. واقع وتحديات، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، ٣٠ أغسطس ٢٠١٥، متاح على الرابط الآتي: https://rawabetcenter.com/archives/11721
[2] محمود سامي، قناة جونجلي.. هل تعوض مصر فواقد النيل الأزرق بالابيض، الجزيرة، مارس ٢٠٢٢، متاح على الرابط الآتي:
[3] رحمة حسن، قناة جونجلي بين الواقع والمأمول، المرصد المصري، أكتوبر ٢٠١٩، متاح على الرابط الآتي:
https://marsad.ecss.com.eg/10777/
[4] محمد الشاذلي يكتب: ما الذي يعطل قناة جونجلي الآن، بوابة الأهرام، أكتوبر ٢٠٢١، متاح على الرابط الآتي:
https://gate.ahram.org.eg/News/3080231.aspx
[5] يوسف مهاب، سبل مواجهة الفقر المائي.. التحديات والمعالجة، السياسة الدولية، مايو ٢٠٢٢، متاح على الرابط الآتي:
https://www.siyassa.org.eg/News/18294.aspx
[6] رئيس الوزراء الإثيوبي يعلن اكتمال سد النهضة بنسبة ١٠٠٪، العربية، أكتوبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط الآتي:
[7] أسماء نصار، تقرير لوزارة الري يكشف أهم التحديات المائية بمصر، اليوم السابع، سبتمبر ٢٠٢٣، متاح على الرابط الآتي:
[8] أسماء نصار، نصيب الفرد من المياه في مصر يقترب من ٥٠٠ متر مكعب سنوياً، مارس ٢٠٢٣، متاح على الرابط الآتي:
[9] أحمد النجار، نظرة للآخر.. الوضع المائي في دول حوض النيل، الأهرام، أبريل ٢٠١٤، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/9u6jwa
[10] طريق بري بين إثيوبيا وجنوب السودان يكلف ٧٣٨ مليون دولار، الجزيرة، ٢ يوليو ٢٠٢٤، متاح على الرابط الآتي:
[11] مصر وقضية المياه، الهيئة العامة للاستعلامات، يونيو ٢٠٢٢، متاح على الرابط الآتي: