إن التنافُس بين الصين والهند – وكلاهما عضوٌ في مجموعة البريكس – يمتدُّ إلى مساعيهما لقيادة الجنوب العالمي، ومع تراجُع الهيْمنة الغربية، تعمل كُلٌّ من بكين ونيودلهي، على تعزيز أجندات متميزة، ولكنها مؤثرة عالميًّا؛ حيث تستفيدُ كُلُّ منهما من نقاط قوةٍ فريدةٍ، تُشكِّلُ التحالفات والمؤسسات العالمية، بالنسبة للدول الأفريقية؛ حيث التنمية والسيادة في صُنْع القرار أمران أساسيَّان، فإن الاختيار بين الصين والهند كزعيمتيْن للجنوب العالمي له أهمية كبيرة؛ فكُلٌّ منهما تُقدِّمُ مزايا وتحديات لها آثارها على مستقبل أفريقيا، ورغم أن أيًّا منهما لم تعلن رسميًّا عن سعيها إلى تولِّي هذه القيادة؛ فإن أفعالهما وتصريحاتهما تشير إلى نواياهما.
وفي هذا المقال الذي صدر تحت عنوان ” India and China vie for leadership of the global south” للكاتب ” Ronak Gopaldas ” على موقع معهد الدراسات الأمنية الأفريقي في 5 نوفمبر 2024م، وهو مؤسسة أكاديمية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، أنشأها الكونجرس الأمريكي في عام 1999م؛ لدراسة القضايا الأمنية المتعلقة بأفريقيا، ويعمل كمنتدى للبحث الثنائي والمتعدد الأطراف والاتصالات والتدريب وتبادُل الأفكار التي تنطوي على مشاركين عسكريِّين ومدنيِّين، يتناول الكاتب التنافُس «الهندي – الصيني» على زعامة الجنوب العالمي.
التعريف بالكاتب
روناك جوبالداس هو خبيرٌ اقتصاديٌّ سياسيٌّ وأكاديميٌّ وكاتبٌ ومتحدثٌ يُركِّزُ عمله على تقاطُع السياسة والاقتصاد والأعمال في أفريقيا، ويشغل حاليًا منصب مدير في Signal Risk، وزميل في GIBS والمؤسس المشارك لـ Mindflux Training وهو صوتٌ بارزٌ في الصحافة المطبوعة والإذاعية والتلفزيونية في وسائل الإعلام المحلية والدولية، ظهر بشكلٍ متكررٍ على شبكات CNN وBBC والجزيرة وCNBC Africa، وينشر بانتظامٍ مقالات رأْي وتحليل، بالإضافة إلى تقديم المشورة للحكومات الدولية، بشأن سياساتها وإستراتيجياتها في أفريقيا، تحدث أيضًا في العديد من أفضل الجامعات في العالم وفي المؤتمرات السياسية والتجارية الرائدة، التي تُركِّزُ على أفريقيا كمُحاورٍ ومشاركٍ ومتحدثٍ رئيسيٍّ وخريج المنتدى الآسيوي للحوكمة العالمية، بالإضافة إلى مبادرة القيادة الأفريقية الشَّابة.
وقد حصل روناك على درجة البكالوريوس في الفلسفة والسياسة والاقتصاد مع اللغة الفرنسية للأعمال، بالإضافة إلى درجة البكالوريوس في التحليل المالي وإدارة المحافظ من جامعة كيب تاون، كما حصل على درجة الماجستير في التمويل من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن.
أبرز محاور المقال
1- أيٌّ من الدولتيْن أفضل في دعْم تطلُّعات أفريقيا التنموية؟
إن الدور الذي تلعبه الهند في الدَّفْع نحْو التعاون بين بلدان الجنوب في منتديات، مثل مجموعة العشرين، والدعوة إلى تمثيلٍ أكثرَ عدالةً في الحوْكمة العالمية، يتماشى مع رؤيتها القيادية، كما تُسلِّطُ الدبلوماسية الحازمة للصين، وخاصَّةً من خلال مبادرة الحزام والطريق، واستثماراتها المتزايدة في مشاريع البِنْية الأساسية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، الضَّوْء على مطالبتها بالزعامة المتجذرة في النفوذ الاقتصادي.
وتُؤجِّجُ المنافسة السَّرْديَّات في مجتمع السياسة الخارجية ومراكز الفكر في كُلٍّ من البلديْن، والتي ترى في الانحياز الديمقراطي للهند والنجاح التنموي للصين نموذجيْن متنافسيْن للجنوب العالمي وعلى المستوى الرسمي، يؤكد البلدان على تضامنهما مع الدول النامية، لكنهما يتجنَّبان التصريحات العلنيَّة عن المنافسة، ويضعان بدلًا من ذلك نهجيْهما كحلولٍ لاحتياجات البلدان النامية.
كما أن الهند باعتبارها أكبرَ دولةٍ ديمقراطيةٍ في العالم، لها صدىً قويٌّ في أفريقيا؛ حيث ينظر إلى الحُكْم الديمقراطي في كثيرٍ من الأحيان، باعتباره طريقًا إلى الاستقرار والنمو، ويتوافق التزام الهند بالقِيَمِ الديمقراطية، وسياستها القائمة على عدم التدخُّل بشكلٍ جيِّدٍ، مع تأكيد أفريقيا على السيادة السياسية والتنوُّع، وتشترك العديدُ من الدول الأفريقية أيضًا في روابط تاريخية مع الهند، والتي تنْبُعُ من حركة عدم الانحياز والتضامُن ضد الاستعمار؛ ما يُعزِّزُ جاذبية الهند كشريكٍ موثوقٍ، ويُعزِّزُ هذا الدور المؤثر الذي تلعبه الجالية الهندية في أفريقيا[1].
2- إمكانية استفادة البلدان الأفريقية من تجربة الهند التنموية
إن النَّهْج التنموي الذي تنتهجه الهند، يُركِّزُ على رأس المال البشري ونقل التكنولوجيا، وغالبًا من خلال مبادرات القطاع الخاص، وهذا النموذج الذي يُركِّزُ على بناء المهارات، يُلبِّي احتياجات أفريقيا إلى حلولٍ مستدامةٍ وقابلةٍ للتكيُّف محليًّا، كما أن الخبرات التي اكتسبتها الهند في التعامُل مع سكانها المتنوِّعين، تُمكِّنُها من الاستجابة بفعالية للاحتياجات المتنوعة في أفريقيا، ومن خلال الشراكات بين القطاعيْن “العام، والخاص”، حقَّقت الهند تقدُّمًا في الرعاية الصحية والتعليم والوصول الرقمي؛ ما قد يوفر نماذج قابلة للتطوير للدول الأفريقية التي تواجه تحديات مماثلة.
وعلى السَّاحة العالمية، لَعِبَتْ الهند دورًا رائدًا في التجمُّعات الصغيرة والمتعددة الأطراف، مثل الرباعية ومجموعة العشرين، ومن خلال تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا ودول مجموعة البريكس، وقد ثبت أن دورَ الهند كجسرٍ بين الشمال والجنوب العالمي مفيدٌ، كما يتضح من جهودها لإدراج الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين، وعلى الجانب الآخر، للهندِ دورٌ حازمٌ بشأن قضايا، مثل الصراع في أوكرانيا، صدى أيضًا لدى الدول الأفريقية، التي تسعى إلى الحصول على صوتٍ عالميٍّ مستقلٍ، وقد عزَّز هذا السياق مكانة الهند في الجنوب العالمي؛ حيث أصبحت الدول الأفريقية تنظر إلى الهند على نحْوٍ متزايدٍ، باعتبارها تُمثِّلُ مصالحها الجماعية، وتحْظَى قدرة الهند على موازنة العلاقات مع القوى الغربية وغير الغربية باهتمام الدول الأفريقية، التي تُبْحِرُ في أجواء جيوسياسية مُعقَّدة مماثلة.
ومع ذلك، فإن الموارد المالية المحدودة للهند مقارنةً بالصين، تُشكِّلُ تحديات في توسيع نفوذها عبْر أفريقيا، وقد تؤدي القضايا المحلية، مثل التخفيف من حِدَّة الفقر وتطوير البِنْية الأساسية، إلى الحدِّ من قُدْرة الهند على إعطاء الأولوية لأفريقيا بشكلٍ متسقٍ، كما يُثير غياب قمة منتدى الهند وأفريقيا منذ عام 2015، تساؤلاتٍ حول التزام الهند على المدى الطويل.
3- القوة الاقتصادية للصين تجعلها قائدًا عالميًّا للجنوب العالمي
إن القوة الاقتصادية التي تتمتع بها الصين تجعلها قائدًا عالميًّا قويًّا في الجنوب، وخاصَّةً من خلال مشاريع البِنْية الأساسية التي تُلبِّي الاحتياجات العاجلة، كما أن العجز الهائل في البِنْية الأساسية في أفريقيا في مجالات النقل والطاقة والاتصالات يجدُ شريكًا حريصًا في مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي أحدثت تأثيرًا واضحًا في مختلف أنحاء القارة، وتساعد مشاريع مبادرة الحزام والطريق الاقتصادات الأفريقية على التكامُل مع طرق التجارة العالمية، وتعزيز إمكانات التصدير، وتعزيز الروابط الإقليمية.
وفي السياق ذاته، فإن الإنجازات التي حقَّقتها الصين في مجال الحدِّ من الفقر، والتي ينظر إليها العديد من البلدان الأفريقية، باعتبارها نموذجًا للتحوُّل الاقتصادي تُضافُ إلى جاذبيتها، والواقع أن موقف الصين من عدم التدخُّل يتماشى مع تفضيل الزعماء الأفارقة للسيادة، وكثيرًا ما تجِدُ البلدان الأفريقية التي تتحفظ على الشروط الغربية في نهْج الصين نهْجًا مُنْعِشًا.
وعلاوةً على ذلك، فإن إنشاء الصين لمؤسساتٍ عالميةٍ بديلةٍ، مثل مبادرة التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي، يُقدِّمُ للدول الأفريقية خياراتٍ تتجاوز الأُطُر التي يقودها الغرب؛ ما يجذب أولئك الذين يسعون إلى إقامة شراكات متنوعة، كما أن البراعة التكنولوجية التي تتمتع بها الصين، وخاصَّةً في مجال شبكات الجيل الخامس والمدفوعات الرقمية والذكاء الاصطناعي، تُوفِّرُ إمكاناتٍ تحويليةً للاقتصادات الأفريقية، كما أن مشاركة البلاد في مجال الاتصالات، تُوفِّرُ البِنْية الأساسية الرَّقَمِيَّة بأسعارٍ معقولةٍ لازمةٍ للتنمية الاقتصادية.
4- إمكانية بناء الدول الأفريقية نهْج تنموي متنوِّع يقلل من الاعتماد على شريكٍ واحدٍ
بالنسبة لأفريقيا، فإن الاختيار بين الصين والهند كزعيمتيْن للعالم الجنوبي، يعتمد على أولويات القارة وقِيَمِها، إن أوراق اعتماد الهند الديمقراطية ونموذج التنمية والشراكات القائمة على الثِّقَة جذَّابة، وكذلك دورها المتنامِي كجهةٍ لبناء الجسور بين الشمال والجنوب، وخاصَّةً بين البلدان الأفريقية، التي تسعى إلى السيادة في شراكاتها، وعلى النقيض من ذلك، فإن القوة المالية التي تتمتع بها الصين، وتطوُّر البِنْية الأساسية السريع، ونهْج عدم التدخُّل؛ يجعل منها شريكًا حيويًّا، خاصَّةً بالنسبة للدول التي تواجه احتياجات التنمية الفوريَّة، ومع ذلك، فإن المخاوف بشأن استدامة الدُّيُون والنَّهْج الاستبدادي، الذي تنتهجه الصين تحدُّ من جاذبيتها كزعيمةٍ طويلة الأجل، وفي نهاية المطاف، لا ينبغي أن يكون الاختيار بين أحدهما؛ فكلاهما يُوفِّرُ أدوارًا تكامليةً، يمكن للدول الأفريقية الاستفادة منها إستراتيجيًّا.
وفي السياق ذاته، فإن قوة الصين في البِنْية الأساسية الضخمة والاستثمار المالي، تُوفِّرُ الدَّعْمَ الفوريَّ والتحوُّليَّ، وفي الوقت نفسه، يُوفِّرُ تركيز الهند على بناء القدرات ونقل التكنولوجيا والحُكْم الديمقراطي، مسارًا للنمو المُسْتدام، القابل للتكيُّف محليًّا في الأَمَدِ البعيد، كما أن التقارُب الأخير بين رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الصيني شي جين بينج، على هامش قمة مجموعة البريكس، قد يكون علامةً إيجابيةً، وإن كان المحللون ما زالوا متشككين في ضوْء التوتُّرات الجوهريَّة، ومن الممكن أن تسمح علاقة أكثر تعاونًا لمجموعة البريكس بدعْم أفريقيا باستمرار، ومعالجة البِنْية الأساسية وتنمية رأس المال البشري، مع تعزيز الجنوب العالمي الأكثر تماسُكا.
ومن خلال التعاون مع الصين والهند، تستطيع أفريقيا أن تبنِي نهْجًا متوازنًا ومتنوِّعًا للتنمية، يُقلِّلُ من الاعتماد على شريكٍ واحدٍ، ويتيح هذا التعاون المزدوج للدول الأفريقية، الاستفادة من موارد الصين؛ لتلبية احتياجات البِنْية الأساسية العاجلة، في حين تستفيد من المبادرات الهندية، التي تُركِّزُ على الناس، وتُعزِّزُ المهارات والاستقلال، ومن خلال القيام بذلك، تستطيع أفريقيا تأكيد فعاليتها على السَّاحة العالمية، باستخدام نقاط القوة في كلا الجانبيْن؛ لتعزيز مصالحها.
ختامًا:
أصبح من الواضح، أن التنافُس «الصيني – الهندي» على قيادة الجنوب العالمي مرشحٌ للتصاعُد بقوةٍ، خلال السنوات المقبلة، وستكون أبعاد التنافُس بينهما في العديد من المجالات؛ التمويل والدعم الاقتصادي ومشاريع البِنْية التحتيَّة، وإصلاح المؤسسات التعدُّدية، ومن المرجح أن تختار الدول الأفريقية تحالُفاتها مع الصين والهند على أساس أهدافها المحددة، فعلى سبيل المثال، سوف تحرص الدول الأفريقية على تطوير فُرَص التجارة والاستثمار في التقرُّب من الصين، التي تتمتع ببصمةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ أكبر كثيرًا من بصمة الهند، وعلاوةً على ذلك، سوف تجِدُ البلدان ذات المُيُول القوية المناهضة للاستعمار، المزيدَ من التقارُب مع الصين، وقد تتعاون البلدان الأفريقية مع الهند، بشأن التنمية وبناء القدرات ونقْل التكنولوجيا، وبالتالي تستطيع أفريقيا أن تبْنِي نهْجًا متوازنًا ومتنوِّعًا للتنمية يُقلِّلُ من الاعتماد على شريكٍ واحدٍ، ويتيحُ هذا التعاون المزدوج للدول الأفريقية، الاستفادة من موارد الصين؛ لتلبية احتياجات البِنْية الأساسية، في حين تستفيد من المبادرات الهندية، التي تُركِّزُ على الناس، وتُعزِّزُ المهارات والاستقلال.
