مرَّت العلاقات «الأفريقية – الإسرائيلية» بفترات صعودٍ وهبوطٍ، ولكن في السنوات الأخيرة، جدَّدت إسرائيل اهتمامها بالقارة؛ نظرًا لما تحظى به من أهميةٍ كُبْرَى في السياسة الخارجية الإسرائيلية؛ حيث كانت ولا تزال قارَّةً حيويةً تسعى إسرائيل إلى تعزيز التعاون معها وبناء شراكات جديدة معها، وقد تبْذُلُ إسرائيل جهودًا حثيثةً، سواء سياسة أو دبلوماسية؛ لتوطيد علاقاتها مع الدول الأفريقية، لا سيما دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكُبْرى في مجموعةٍ متنوعةٍ من المجالات الرئيسية، من التجارة إلى الدفاع، وهو ما جاء في ظِلِّ سعْي إسرائيل لتوسيع شبكتها الدبلوماسية.
وظهرت الجهود الإسرائيلية لتعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية بشكلٍ ملحوظٍ تحت قيادة رئيس الوزراء “بنامين نتنياهو”؛ حيث كان أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور القارَّة الأفريقية عام 2016م، منذ 5 عقود، وعمل على إعادة تأسيس العلاقات مع الدول الأفريقية؛ ما أدَّى إلى مكاسب دبلوماسية واقتصادية للطرفيْن، وخلال قمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا وإسرائيل في ليبيريا عام 2017م، أعلن شعار “إسرائيل تعود إلى أفريقيا، وأفريقيا تعود إلى إسرائيل” لعدة أهدافٍ لعل أبرزها؛ الحصول على صفة “مراقب” في الاتحاد الأفريقي، وعمل أيضًا على عودة العلاقات مع الشُّرَكاء القُدَامى.
المحور الأول: الاهتمام الإسرائيلي بالقارَّة الأفريقية وأهدافه:
1- جذور تاريخية للعلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية»
بدأت العلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية» منذ بدْء دعوات إقامة وطنٍ قوميٍّ لليهود، فعندما انعقد أول مؤتمر صهيوني في 1897م؛ للبحث عن وطنٍ قوميٍّ، يجمع الشتات اليهودي من كل أنحاء العالم، تمَّ طرْح أوغندا لتكون الوطن الجديد لليهود، ثم عرضت بريطانيا على اليهود “كينيا” ولكن اليهود رفضوا، حتى تمَّ اختيار فلسطين في 1948م، وتجلَّى الاهتمام الإسرائيلي بأفريقيا عندما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي “ليفي أشكول” في عام 1955م، بجولةٍ في القارة الأفريقية؛ للحصول على اعترافات الدول الأفريقية بدولة إسرائيل، كما تعدَّدت زيارات المسؤولين الإسرائيليِّين للقارَّة بانتظامٍ، وشملت تلك الزيارات حتى الدول الأفريقية التي لم تحصل على الاستقلال؛ بهدف تعزيز العلاقات مع تلك الدول بعد الاستقلال.
ولقد قامت وزيرة الخارجية الإسرائيلية “جولدامائير” بزيارةٍ إلى القارَّة الأفريقية عام 1958م، وشملت عددًا من الدول “نيجيريا، ساحل العاج، غانا، ليبيريا، السنغال”، وتمكَّنت من الحصول على اعتراف العديد من الدول الأفريقية بإسرائيل، واستمرَّت الزيارات المتبادلة بين الطرفيْن، حتى تمَّ الاتفاق على أن تُقدِّمَ إسرائيل المساعدات للدول الأفريقية حديثة الاستقلال، وهو ما تجلَّى في إرسال إسرائيل العديد من الخبراء الإسرائيليِّين إلى الدول الأفريقية؛ لمساعدتها في رسْم السياسات الاقتصادية والعسكرية؛ إذ سعت إسرائيل إلى كسْب الشرعية، من خلال التغلغُل في القارَّة والحصول على الاعترافات منها، لاسيما أن لها دورًا في ترجيح الأصوات في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة.
وفي الفترة من 1948م إلى 1967م، أقامت إسرائيل علاقات بالدول الأفريقية على مستوييْن، علاقات ما قبْل الاستقلال وعلاقات مع الدول المستقلة، ويشير المستوى الأول إلى تمكُّن إسرائيل من خلال عضويتها في الاشتراكية الدولية والمنظمات الأفريقية من الدخول في دول القارَّة؛ ما مهَّد لها الطريق لإقامة علاقاتٍ بعد الاستقلال، وهو ما اتضح بعد الاستقلال؛ حيث تعترف إسرائيل بتلك الدول وتُقيم معها علاقات دبلوماسية، وتسعى لتقديم مساعدات لهم، وما يرتبط بها من زيارات تقوم بها الوفود الإسرائيلية، هذا بالإضافة إلى استغلالها للمؤتمرات الدولية؛ لتوطيد علاقاتها بالقارَّة الأفريقية، والتي دائمًا ما ينْتُجُ عنها اتفاقات تعاونية، كما أنشأت إسرائيل معهدًا آسيويًّا أفريقيًّا في إسرائيل؛ لتدريب القيادات العمالية، وعملت على تنظيم ندوات عُمَّالية، مثل ندوة التعاونيات عام 1958م.
وعلى الرَّغْم من تميُّز هذه الفترة من العلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية» وتمتُّعها بالتطوُّر والازدهار في كافَّة المجالات، إلَّا أنها تراجعت بعد حرب أكتوبر 1973م؛ ما أدَّى إلى قطْع العديد من الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل، حتى وصل عدد الدول التي تُقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في عام 1974م إلى خمس دول فقط؛ إذ أعلنت 29 دولةً أفريقيةً عن قطْع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، ولكن بدأت تعود العلاقات إلى سابق عهدها، بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، المعروفة بـ”كامب ديفيد” عام 1979م، وبدأت تُعيد الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل، وبالفعل بدأت إسرائيل بتنفيذ سياستها الخاصَّة، بالعودة إلى القارة الأفريقية دون اشتراط عودة العلاقات الدبلوماسية.
ومع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991م، شهدت العلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية» دفعةً قويةً؛ حيث استعادت إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأفريقية، وذلك بداية من أنجولا في عام 1992م، ومن ثمَّ نيجيريا وتوغو وجاميا، حتى تمكَّنت إسرائيل في استعادة علاقاتها الدبلوماسية مع 45 دولةً أفريقيةً على مختلف المستويات الدبلوماسية، وذلك حتى عام 2002م؛ فتُعتبر هذه الفترة، والتي شملت عملية السلام بين العرب والإسرائيليِّين مع بداية العقْد التاسع من القرن الماضي، بمثابة عصرٍ ذهبيٍّ في العلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية»؛ حيث شمل التعاون فيما بينهم كافَّة الأصعدة، هذا فضلًا عن دعْم مؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية في أفريقيا[1].
2- أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه أفريقيا
أهداف سياسية
سعت إسرائيل إلى كسْب تأييد الدول الأفريقية في المحافل الدولية؛ بهدف إضفاء الشرعية على ممارساتها وسياساته، لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وذلك في ظل الملاحقات القانونية التي تواجهها؛ بسبب أعمالها المرفوضة دوليًّا، وقد أدركت إسرائيل أهمية الدول الأفريقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ما دفعها إلى توسيع علاقاتها معها منذ تأسيسها، وفي هذا السياق، أشار وزير الخارجية الإسرائيلي “أفيغدور ليبرمان” في عام 2014م، خلال أول لقاءٍ عقده مع لوبي الكنيست؛ لتعزيز العلاقات مع أفريقيا، إلى أنه منذ تولِّيه منصبه، عمل على توسيع نطاق الدبلوماسية الإسرائيلية وتطوير توجُّهاتٍ جديدةٍ للسياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه القارَّة الأفريقية[2].
أهداف اقتصادية
تدرك إسرائيل ما تمتلكه القارَّة الأفريقية من فُرَصٍ هائلةٍ لتنمية اقتصادها؛ نظرًا لأنها موردٌ غنيٌّ بالثروات الطبيعية مثل اليورانيوم؛ ما يُوفِّرُ سوقًا ضخمةً يمكن لإسرائيل الاستفادة منها؛ لزيادة صادراتها واستثماراتها في القارَّة، وتتبع إسرائيل إستراتيجية للتغلغُل الاقتصادي في الأسواق الرئيسية للدول الأفريقية، لا سيما في منطقة حوض النيل، وتهدف إسرائيل من خلال إقامة علاقات اقتصادية مع دول القارة إلى كسْب الرأي العام الأفريقي لصالحها، وزيادة الاعتماد الاقتصادي لهذه الدول عليها، وهو ما يتمُّ عبْر تقديم مساعدات فنية وتكنولوجية للدول الأفريقية في عِدَّة مجالات، مثل الزراعة واستخراج المواد الأولية؛ في مقابل الحصول على المواد الأولية وفتْح أسواقٍ جديدةٍ للسِّلَع الإسرائيلية، وكذلك تسهيل حصول الدول الأفريقية على القروض من إسرائيل أو من المؤسسات الغربية[3].
أهداف أمنية
تعتبر إسرائيل القارَّة الأفريقية بمثابة الجدار الحديدي الذي يُحصِّنُ أمنها القومي، وتسعى للاستفادة من موارد القارَّة الإستراتيجية، وخاصَّةً نهر النيل الذي يُعدُّ شريان الحياة لمصر، وتسعى أيضًا إلى منْع تحويل البحر الأحمر إلى منطقة نفوذٍ عربيةٍ، ولقد حَظِيَتْ بعضُ الدول الأفريقية مثل إثيوبيا، باهتمامٍ خاصٍّ لدى صُنَّاع القرار في إسرائيل؛ حيث أجمع الخبراء الإسرائيليُّون على أن إثيوبيا تتمتع بمميزات جغرافية وسياسية وعسكرية وأمنية فريدة؛ ما يجعلها نقطة انطلاقٍ إستراتيجية للتغلغُل الإسرائيلي في القارة، وفي هذا السياق، عملت إسرائيل على بناء تعاونٍ استخباريٍّ مستمرٍ وواسعٍ مع الدول الأفريقية؛ بما يُمكِّنُها من الإطلال على تفاصيل القارَّة المترامية الأطراف والتأثير في حركاتها التحررية، وبالإضافة إلى ذلك، تسعى إلى توجيه هذه الحركات لخدمة أهدافها الخاصَّة، وكذلك الأجندة الأمريكية في أفريقيا.
أهداف أيديولوجية
استثمرت إسرائيل في كافَّة المجالات، التي من شأنها تعزيز مصالحها في القارة الأفريقية؛ بما في ذلك البُعْد الأيديولوجي بجوانبه الحقيقية والمصطنعة؛ إذ سعت إلى الحفاظ على تواصُلٍ مستمرٍ مع الجاليات اليهودية المنتشرة في أفريقيا؛ بهدف تهجير أكبر عددٍ منهم إلى إسرائي؛ بما يخدم مصالحها الديموغرافية، ويُعزِّز استقرارها الداخلي، كما دعمت صمود من تبقَّى من هذه الجاليات في القارَّة؛ لمنْع اندماجهم في المجتمعات المحلية، وفي السياق ذاته، بذلت القيادات الإسرائيلية جهودًا حثيثةً؛ لتحييد تأثير الدِّين الإسلامي في تعزيز التعاطُف الأفريقي مع الدول العربية، لا سيما أنَّ نِسْبةً كبيرةً من السكان في بعض الدول الأفريقية قد تكون مسلمةً؛ ما قد يضع إسرائيل أمام تحدياتٍ كبيرةٍ في صراعها مع العرب.
3- مُحدِّدات السياسة الإسرائيلية في أفريقيا
الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي»
يؤثر الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي» على السياسة الإسرائيلية في أفريقيا؛ حيث تحتلُّ القضية الفلسطينية مكانةً مركزيةً في العلاقات الدولية؛ بما في ذلك في أفريقيا، وعلى الرغم من محاولات إسرائيل لتعزيز علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع بعض الدول الأفريقية، إلَّا أن القضية الفلسطينية تظلُّ عقبةً أمام بناء تحالفاتٍ دائمةٍ، لا سيما مع المواقف الشعبية والرسمية التي تساند حقوق الفلسطينيِّين في معظم دول القارَّة؛ لذا تحاول إسرائيل تخفيف تأثير تلك القضية على علاقاتها مع دول القارَّة، من خلال إستراتيجيات متعددة.
المكانة الأفريقية في المنظومة الدولية
تتمتع القارة الأفريقية بمكانةٍ إستراتيجية بارزة في المنظومة الدولية؛ حيث تُشكِّلُ الكتلة الأفريقية 30% من إجمالي عدد الأصوات في الأمم المتحدة؛ ما يمنحها تأثيرًا كبيرًا في اتخاذ القرارات الدولية، ومن ثمَّ تسعى إسرائيل إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية؛ للاستفادة من وزنها السياسي في المنظمات الدولية، خاصَّةً في الأمم المتحدة؛ إذ إن كسْب دعْم الدول الأفريقية يساعد إسرائيل في تأمين مواقف مُؤَيِّدة لها في القضايا الإقليمية والدولية؛ بما في ذلك القضايا الخاصَّة بالصراع «العربي – الإسرائيلي».
الجاليات اليهودية في أفريقيا
تضُمُّ أفريقيا جاليات يهودية متنوعة؛ من حيث الحجم والقوة والتأثير، ففي شمال أفريقيا، تُوجد مجموعاتٌ من اليهود السفارديم، الذين هاجروا من إسبانيا والبرتغال في القرنيْن الخامس عشر والسادس عشر، هذا فضلًا عن اليهود الأشكناز، الذين جاؤوا من أوروبا الشرقية والشمالية في القرنيْن التاسع عشر والعشرين، وفي عام 2001م، بلغ عدد اليهود في أفريقيا حوالي 88 ألف، 90% منهم في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من أن الجاليات اليهودية في بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء تعتبر صغيرةً، إلا أن وضعها الاقتصادي في دولٍ مثل كينيا، يعتبر قويًّا وله تأثيرٌ ملموسٌ.
أما يهود الفلاشا في إثيوبيا، والذين تمَّ نقْلُ العديد منهم إلى إسرائيل، فهم يُعدُّون من أفقر الجاليات اليهودية في القارة، وعلى النقيض، تعتبر الجالية اليهودية في جنوب أفريقيا من أغنى الجاليات اليهودية على الصعيد العالمي، وتشير بعض التقارير إلى أن مساهمة يهود جنوب أفريقيا في خزينة إسرائيل تأتي في المرتبة الثانية، بعد مساهمة يهود الولايات المتحدة الأمريكية، وتجدر الإشارة إلى أن هناك دورًا مهمًّا للأفراد والجماعات اليهودية في أفريقيا في دعْم إسرائيل وتحقيق أهدافها.
المحور الثاني: أدوات توسُّع النفوذ الإسرائيلي في القارَّة الأفريقية
الأداة السياسية
سارعت إسرائيل إلى الاعتراف بالدول الأفريقية التي نالت استقلالها، وقامت بعلاقاتٍ مع بعضها، قبْل أن تحقق استقلالها، وبذلك وجدت الدول الأفريقية نفسها بعد الاستقلال في علاقاتٍ وثيقةٍ مع مؤسسات إسرائيلية؛ ما مهَّد الطريق لسياسة إسرائيل الخارجية في المنطقة، كما لجأت إسرائيل إلى أسلوب الاتصال المباشر ضِمْن أدواتها السياسية في أفريقيا، وذلك من خلال الزيارات والمقابلات السياسية، وكان يتمُّ الاتصال في وقتٍ مناسبٍ؛ حيث سبق الاستقلال في بعض الدول، ثمَّ تسارع بعده مباشرة، وتنوَّعت أساليب الاتصال؛ من حيث الجهات المُنَفِّذة لها، والمناسبات التي تمَّ استغلالها، والعروض المختلفة التي قُدِّمت من جانب الوفود الإسرائيلية في مجالات تخصُّصها، ولقد نجحت إسرائيل في كسْب تأييد الرأْي العام الأفريقي لصالح وجودها وأمنها، كما أسفرت هذه الجهود عن إقامة علاقاتٍ قويةٍ مع المؤسسات الرسمية الأفريقية؛ ما أثَّر بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ في اتخاذ القرارات السياسية في تلك الدول.
الأداة الاقتصادية
تسعى الدول الأفريقية إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، وهو التحدِّي الرئيس الذي يواجه اقتصاداتها، وهو ما أخذته إسرائيل بعيْن الاعتبار في سياساتها تجاه القارَّة؛ بهدف كسْب الرأْي العام الأفريقي وتعزيز اقتصادها في الوقت ذاته، وتضمَّنت العلاقة الاقتصادية بين الجانبيْن عِدَّة آليات، أهمها زيادة صادرات إسرائيل إلى الدول الأفريقية؛ حيث تصدَّرت غانا قائمة الدول المستوردة من إسرائيل، تلتها ساحل العاج والجابون وجنوب أفريقيا، كما أدَّت البعثات والاتفاقيات الاقتصادية دورًا كبيرًا في تعزيز التبادُل التجاري والتعاون الاقتصادي، فضلًا عن منْح القروض التي كانت تُشكِّلُ جزءًا من هذا التعاون.
وقدَّمت إسرائيل أيضًا المعونات الفنية إلى الدول الأفريقية، إمَّا من خلال التعاون الثنائي أو عبْر المنظمات الدولية، ولقد شملت مشاريع تطوير الاتصالات وخدمات النقل وتدريب المهنيِّين، ولقد نجحت إسرائيل من خلال الوسائل الاقتصادية التي استخدمتها في تحقيق أهداف سياستها الخارجية في أفريقيا؛ إذ تمكَّنَتْ من كسْب دعْم الرأي العام الأفريقي في قضاياها، عبْر وسائل غير مباشرة؛ فالتجارة الإسرائيلية مع الدول الأفريقية وتقديم القروض وإبرام اتفاقيات التعاون الفني وتنفيذ المشروعات الاقتصادية وتدريب العمالة؛ ساعدت في بناء علاقاتٍ وثيقةٍ بين الجانبيْن؛ ما عزَّز نفوذها السياسي.
الأداة الاجتماعية والثقافية
عملت إسرائيل على توثيق علاقاتها بالمؤسسات المختلفة في أفريقيا وتعزيز اتصالاتها بالجاليات اليهودية هناك؛ للاستفادة من تبرُّعاتها ومن دورها في دعْم سياساتها الخارجية، وعملت أيضًا على تعزيز علاقاتها بالمؤسسات النقابية في الدول الأفريقية؛ ما ساهم في إنشاء معهد “الأفرو آسيوي” في تل أبيب والمعهد النقابي في كمبالا، الذي أسَّسه الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة، وهو ما كان له دورٌ كبيرٌ في دعْم المصالح الإسرائيلية، من خلال التأثير في اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الأفريقية، كما أبرمت إسرائيل عِدَّة اتفاقيات مع الدول الأفريقية؛ لتنشيط التبادُل الثقافي في مجالاتٍ متعددةٍ، إضافةً إلى تعزيز السياحة بين الدول.
المحور الثالث: العودة الإسرائيلية إلى القارَّة الأفريقية ومظاهرها
1- مناطق التركيز الإسرائيلي في أفريقيا
تعزيز العلاقات مع دول حوض النيل
ينْبُعُ نهر النيل من إثيوبيا وبحيرة فيكتوريا، ويمُرُّ بتسع دولٍ أفريقيةٍ، وتسعى إثيوبيا لإقامة مشروعاتٍ تنمويةٍ كُبْرَى، مثلما قامت بتشييد سدِّ النهضة، وتقاطعت أهدافها مع إسرائيل، التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في القرن الأفريقي ومنطقة البحيرات الكُبْرَى، وتعود المطامع الإسرائيلية في مياه النيل إلى بدايات القرن العشرين؛ حيث عملت على تنسيق التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال التكنولوجيا المائية؛ ما يُعدُّ استكمالًا للدعم السياسي والعسكري الأمريكي لإسرائيل، ووفقًا لمصادر البحوث الإسرائيلية؛ فإنها ترى أن نهر النيل هو المصدر المائي الذي يُمْكِنُه حلُّ أزمة المياه مستقبلًا في إسرائيل.
ومنذ استقلال دول حوض النيل، وهناك مطالب بإعادة النظر في الاتفاقيات القديمة، باعتبار أنها مُبْرَمَةٌ من جانب الاحتلال وليس الحكومات القومية، كما أن هناك بعض الدول بحاجةٍ إلى موارد مائية متزايدة، وتزامنت المطالبة بتغيير الحِصَص المائية مع تزايُد التقارُب الإسرائيلي من هذه الدول، كما أدَّى اندلاع الثورات العربية عام 2011م، إلى تعزيز النفوذ الإسرائيلي، وخاصَّةً في دول حوض النيل، وقدَّمت إسرائيل نفسها كحليفٍ دوليٍّ ذي خِبْرةٍ في مكافحة الإرهاب والتطرُّف، فعلى سبيل المثال، ساعدت كينيا في مكافحة حركة الشباب المجاهدين، وبالإضافة إلى ذلك، تمكَّنت إسرائيل من تعزيز علاقاتها الاستخباراتية والأمنية مع بعض الدول، وخاصَّةً كينيا وإثيوبيا.
ويُشكِّلُ التغلغُل الإسرائيلي في القارَّة وإقامة علاقات وطيدة مع دول حوض النيل، مثل إثيوبيا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية – والتي تُعدُّ دولَ منبعٍ لنهر النيل – تهديدًا للمصالح المصرية، وتمثَّلَ ذلك، في قيام إسرائيل بدعْم إقامة العديد من السدود ومشاريع الرَّيِّ في كُلٍّ من “إريتريا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان وإثيوبيا”، ومن ثمَّ تعتبر إسرائيل النيل أداةً للضغط على مصر، وذلك عبْر دعْم مشاريع دول الحوض، التي تؤثر على حِصَّة مصر المائية وتطبيع العلاقات معها، ولذلك أيضًا عملت إسرائيل على دعْم إثيوبيا في بناء السَّدِّ الإثيوبي؛ للإضرار بالمصالح المصرية[4].
محاولات التواجُد في القرن الأفريقي عن طريق “صومالي لاند”
يُشكِّلُ الموقع الجيوسياسي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب أهميةً كُبْرَى على الصعيديْن “الإقليمي، والعالمي”؛ لذا عملت إسرائيل على الوصول إلى البحر الأحمر؛ نظرًا لأنه يربط قارَّة أفريقيا بقارة آسيا، وتُعتبر سياسة إسرائيل في القرن الأفريقي امتدادًا لسياستها في البحر الأحمر؛ بهدف إنشاء عُمْق إستراتيجي لها في تلك المنطقة؛ بما يضمن تحقيق مصالحها، كما سعت إسرائيل إلى تعزيز علاقاتها بدول حوض النيل، وخاصَّةً إثيوبيا؛ حيث دعمتها في سيطرتها على إريتريا في عام 1952م، ولقد استندت الإستراتيجية الإسرائيلية في السيطرة على البحر الأحمر، من خلال القرن الأفريقي إلى استغلال جُزُر البحر الأحمر ودعْم قواتها المسلحة، إضافةً إلى تعزيز العلاقات مع إثيوبيا.
ولا تتوقف الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر على كوْنه ممرًّا مِلَاحيًّا مهمًّا فقط، بل إنه معبرٌ لتصدير نفط الخليج إلى السوق العالمي ومنفذ بحري جنوبي لإسرائيل، فضلًا عن أنه الرابط الأساسي بين حركة التجارة التي تسعى للوصول إلى البحر المتوسط والمحيط الهندي وكذلك بحر العرب؛ لذا حرصت القُوَى الكُبْرَى على أن يكون لها موطئ قدمٍ فيه، كما اتضحت أهمية البحر الأحمر قبْل الحروب والأزمات، مثلما حدث في حرب أكتوبر 1973م؛ حيث قامت اليمن بالتعاون مع مصر، بإغلاق مضيق باب المندب أمام المِلَاحة الإسرائيلية.
وهناك احتماليةٌ لإنشاء تحالُف بين إسرائيل وإقليم أرض الصومال؛ حيث تسعى إسرائيل لإنشاءِ قاعدةٍ عسكريةٍ في الإقليم؛ نظرًا لقيام إيران بتوظيف عملية “طوفان الأقصى”؛ لتهديد المصالح الإسرائيلية، وذلك من خلال جماعة الحوثيِّين؛ لذا تعمل إسرائيل على بناء تحالُفات مع دول المنطقة، خاصَّةً المُطِلَّة على الممرَّات البحرية؛ بهدف القضاء على قدرات الحوثيِّين وإضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، وقد يكون لهذه القاعدة بعض التداعيات، مثل إنشاء تحالُف بين كُلٍّ من “أرض الصومال وإثيوبيا وإسرائيل”؛ نظرًا لمذكرة التفاهم المُبْرَمَة بين إثيوبيا وأرض الصومال، والتي ستتمَكَّنُ إثيوبيا عن طريقها من الوصول إلى البحر الأحمر؛ ما قد يُؤَثِّرُ على المصالح المصرية في القارَّة؛ إذ يُعدُّ هذا التحالُف مضادًّا للتحالف بين “مصر وإريتريا والصومال”، والذي تمَّ إنشاؤُه لمواجهة التحرُّكات الإثيوبية في المنطقة؛ لذا ستشهدُ منطقة القرن الأفريقي تحوُّلات جيوسياسية في الفترة المقبلة[5].
2- عودة إسرائيل إلى أفريقيا
في عام 2016م، قام رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” بزيارةٍ تاريخيةٍ إلى القارة، شملت عِدَّة دول “أوغندا، كينيا، رواندا، إثيوبيا”؛ ما جعله أوَّلَ رئيس وزراء إسرائيلي يقوم بذلك منذ عقود، وخلال هذه الجولة، أعلن أن “إسرائيل تعود إلى أفريقيا، وأفريقيا تعود إلى إسرائيل”، وتمَّ اتخاذ هذا الشِّعَار كإستراتيجية للتحرُّك نحو القارَّة؛ حيث تمتلك إسرائيل علاقات دبلوماسية مع 46 دولةً أفريقيةً، وافتتحت 13 سفارةً جديدةً لها، إضافةً إلى 15 قنصليةً في تل أبيب، ومن ثمَّ جاءت دعوة توجو لإسرائيل للمشاركة في القمة «الإسرائيلية – الأفريقية»، وزيارة نتنياهو إلى كينيا، وحضور اجتماع الإيكواس في ليبيريا عام 2017م، إضافةً إلى زيارة نتنياهو لأوغندا في عام 2020م.
وفي عام 2019م، تمَّت استعادة العلاقات الدبلوماسية مع تشاد، من خلال زيارة رسمية لنتنياهو؛ بهدف كسْر العُزْلة الدبلوماسية[6]، وفي عام 2020، تمَّ التصديق على اتفاقات إبراهام؛ ما أدَّى إلى إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية مع “الإمارات العربية المتحدة وقطر والمغرب”، وفي عام 2023م، استضافت جنوب أفريقيا أول حوارٍ زراعيٍّ بين أفريقيا وإسرائيل[7]، وتهدف إسرائيل من محاولة تكثيف نشاطها الدبلوماسي في أفريقيا إلى محاولة تغيير الكتلة التصويتية للدول الأفريقية في الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وغيرهما من المحافل الدولية، وتعزيز العلاقات التجارية بين إسرائيل والدول الأفريقية، إضافةً إلى الحدِّ من النُّفُوذ الإيراني في أفريقيا[8].
وفي عام 2017م، وقَّع مسؤولون إسرائيليُّون مذكرة تفاهم لاستثمار مليار دولار بقدوم عام 2021م؛ بهدف تعزيز مشاريع الطاقة الخضراء والطاقة، وذلك عبْر أعضاء الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، ويتجاوز الاستثمار الإسرائيلي في أفريقيا القطاع العام؛ إذ شملت مشاركات القطاع الخاص مشاريع زراعية، تعمل على توفير بذور موفرة للمياه، ولقد استفادت شركات التكنولوجيا من التكنولوجيا الإسرائيلية لإنتاج أنظمة ضخِّ المياه وتنقيتها؛ بهدف الوصول إلى المياه النظيفة في المناطق المُعرَّضَة للخطر[9].
ولقد ازدهر التعاون الدفاعي بين إسرائيل ودول القارة الأفريقية، ففي عام 2021م، شكَّلت أفريقيا 3% من صادرات الدفاع الإسرائيلية، وهو أمرٌ بالغ الأهمية لإسرائيل؛ نظرًا لسعيها للبحْث عن أسواقٍ لأسلحتها وشراكاتها الأمنية وتعاونها في صناعة الدفاع، وفي أواخر عام 2021م، وقَّعت إسرائيل والمغرب مذكرة تفاهُم؛ لإضفاء الطابع الرسمي على التدريبات المشتركة وتبادُل المعلومات الاستخباراتية ومبيعات الأسلحة والتعاون الصناعي الدفاعي، كما عملت كينيا وأوغندا على إعادة تنشيط العلاقات الدفاعية مع إسرائيل في عام 2022م، من خلال توقيع مذكرة تفاهم[10].
3- العودة إلى صفة “مراقب” في الاتحاد الأفريقي
في عام 1975م، عملت منظمة الوحدة الأفريقية على قطْع علاقاتها مع إسرائيل، وتمَّ إلغاء صفة المراقب التي كانت تتمتع بها إسرائيل في الاتحاد الأفريقي عام 2002م، وذلك حينما تمَّ منْح فلسطين مقعد مراقبٍ بدلًا من ذلك، ولكن بذل نتنياهو جهودًا كبيرةً لاستعادة صفة المراقب، وتمَّ حشد الدَّعم لتحقيق هذا الهدف ضمن أجندة الجوْلات التي قام بها المسؤولون الإسرائيليُّون في دول القارَّة؛ إذ سعت إسرائيل أن يكون تحوُّلها إلى مراقبٍ مدخلًا للتأثير على الكتلة التصويتية لدول القارة، كما يُعدُّ الحصول على هذه الصفة بمثابة فُرْصة للسياسة الإسرائيلية؛ بهدف تحييد مناهضيها داخل المنظمة الأفريقية فيما يتعلق بمواقفها من القضية الفلسطينية، وبالإضافة إلى ذلك، تُمَكِّنُ صفة المراقب إسرائيلَ من تعزيز علاقاتها مع دول المنظمة والاشتراك في المشاريع والمبادرات التي يطلقها الاتحاد في عِدَّة مجالات، والتي تمتلك إسرائيل خِبْرَةً فيها[11].
وفي عام 2021م، حصلت إسرائيل رسميًّا على صفة عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، ولقد جاء ذلك في سياق الجهود الحثيثة لإسرائيل لتطبيع علاقاتها مع دول القارة؛ بهدف الاعتراف بها؛ ما قُوبل باحتجاج دول أعضاء، من بينها جنوب أفريقيا، ولكن في عام 2023م، قرَّر الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية إسرائيل لديه؛ حيث طرد وفدًا إسرائيليًّا من قِمَّتِه السنوية المنعقدة في إثيوبيا؛ نظرًا لعدم توجيه دعوةٍ إلى مسؤولين إسرائيليِّين، وتمَّ تعليق النقاش حول ما إذا كان سيتمُّ سحْب الصفة، وشُكِّلَتْ لجنةٌ لرؤساء الدول؛ لمعالجة تلك القضية، وفي فبراير 2024م، وضعت الحرب على قطاع غزة حدًّا لهذا الملف، وسَحَبَ الاتحاد الأفريقي تلك الصفة من إسرائيل بشكلٍ نهائيٍّ[12].
المحور الرابع: انعكاسات “طوفان الأقصى” على النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا
تفاعلت شعوب الدول الأفريقية مع أحداث “طوفان الأقصى” التي شهدتها غزة؛ حيث خرجت تظاهراتٌ واسعةٌ في العديد من الدول، لا سيما في غرب أفريقيا، التي كانت الأكثر تأثُّرًا بهذه الأحداث، وكانت كينيا من أبرز الدول التي أظهرت موقفًا قويًّا؛ بسبب تجربتها الخاصَّة مع الاحتلال، كما كان لمنطقة القرن الأفريقي وباب المندب تأثيرات كبيرة من الأحداث في غزة، خاصَّةً على الصعيديْن “الاقتصادي، والأمني”؛ حيث تعتمد العديد من دول هذه المنطقة على الاستيراد، وتُعاني من الحروب الداخلية والضعف الاقتصادي؛ ما يجعلها عُرْضةً للتأثُّر المباشر من تداعيات هذه الأحداث، سواء على مستوى الاستقرار الداخلي أو في علاقاتها الدولية، ومن ثمَّ سنتطرق إلى تداعيات حرب غزة على العلاقات «الأفريقية – الإسرائيلية» بشكلٍ عامٍ، والتداعيات الاقتصادية للحرب على أفريقيا جنوب الصحراء بشكلٍ خاصٍ، كما يلي:
1- تداعيات الحرب على العلاقات «الأفريقية – الإسرائيلية»
على الرغم مما حَظِيَتْ به إسرائيل من دعْمٍ دوليٍّ واسعٍ، عقب الهجوم الذي شنَّتْه حركة حماس في أكتوبر 2023م، إلَّا أن العديد من الدول الأفريقية سُرْعان ما عبَّرت عن انتقادات شديدة لها مع تضخُّم عدد الضحايا الفلسطينيِّين، وفي ديسمبر 2023م، رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية؛ ما جعلها واحدةً من أكبر منتقدي إسرائيل على السَّاحة الدولية، كما أدان رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “موسى فكي” إسرائيل علنًا في قمة الاتحاد الأفريقي في فبراير 2024م، ووصف الهجوم على غزة بـ”أكبر انتهاك لحقوق الإنسان”.
وتبنَّى رئيس جزر القمر “غزالي عثماني” موقفًا أكثر تطرُّفًا؛ إذ اتهم إسرائيل بارتكاب إبادةٍ جماعيةٍ في فلسطين، وفي تصويتٍ للأمم المتحدة، أيَّدت 38 دولةً أفريقيةً قرارًا يدعو إلى وقْفٍ فوريٍّ لإطلاق النار في غزة، وعلى الرغم من تلك المواقف العلنية المنتقدة إلَّا أن الدول الأفريقية لم تتخذْ خطواتٍ دبلوماسيةً جِذْرِيَّةً ضد إسرائيل، ففي حرب أكتوبر عام 1973م، والانتفاضة الثانية عام 2000م، وحرب غزة الأولى عام 2009م، قام العديد من الدول الأفريقية بقطْع أو تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، ولكن في ظل حرب غزة الأخيرة، تجنَّبَ العديد من الدول الأفريقية اتخاذ إجراءات دبلوماسية شديدة ضد إسرائيل.
وهناك دولٌ ذات أغلبيةٍ مسلمةٍ، مثل”المغرب وتشاد والسودان”، اكتفت بالإدانة العلنية للحرب في غزة دون اتخاذ خطواتٍ ملموسةٍ ضد إسرائيل، أمَّا دول جنوب الصحراء الكبرى، مثل توغو والرأس الأخضر والكاميرون وجنوب السودان؛ فقد امتنعت عن التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة بشأن وقْف إطلاق النار، وعلى الجانب الآخر، أظهرت بعض الدول الأفريقية مثل “كينيا وملاوي” مواقف أكثر مرونةً تجاه إسرائيل؛ حيث وافقت على إرسال عُمَّالٍ إلى إسرائيل، بعد أن توقفت القدس عن إصدار تصاريح العمل للفسلطينيِّين، والجدير بالذكر، أن القاضية الأوغندية “جوليا سيبوتيندي” كانت الوحيدة في محكمة لاهاي التي اعترضت على كُلِّ التُّهَم المُوجَّهة إلى إسرائيل في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها[13].
2- التداعيات الاقتصادية للحرب على أفريقيا جنوب الصحراء
تسبَّبت الحرب في غزة في تداعياتٍ اقتصاديةٍ سلبيةٍ على الاقتصادات الأفريقية التي لا تزال تُعاني من تداعيات الأزمات المتعددة، مثل أزمات المناخ والحرب «الروسية – الأوكرانية»، كما أن اعتماد هذه الاقتصادات على السِّلَع الأساسية التي قد تتعرض إلى تقلُّباتٍ حادَّةٍ يزيد من تعقيد الموقف؛ ما يؤثر بشكلٍ مباشرٍ على ميزان المدفوعات، ولقد جاء هذا في وقتٍ يتهدد فيه استقرار تدفُّقات الطاقة العالمية وتواجه فيه المِلَاحة في البحر الأحمر تهديدات خطيرة، هذا فضلًا عن تحذيرات البنك الدولي، من أن الصراع قد يؤدي إلى صَدْمةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ، ولقد أثَّرت الحرب في غزة على أفريقيا جنوب الصحراء اقتصاديًّا من عِدَّة جوانب، يمكن تناولهما كما يلي:
التأثير على حركة التجارة الخارجية
تأثَّرت تجارة السلع في أفريقيا بشكلٍ واضحٍ نتيجة حرب غزة؛ إذ شهدت التجارة انخفاضًا ملحوظًا في نموّها، بعد أن سجَّلت نموًّا بنسبة 15.93% عام 2022م بما يُقدر بـ1.4 تريليون دولار، ولكنها انكمشت بنسبة 6.3% عام 2023م؛ لتصل إلى 1.3 تريليون دولار، ويعود انخفاض مُعدَّل نموِّ تجارة السِّلَع في أفريقيا إلى التوتُّرات الجيوسياسية المتصاعدة، والتي أدَّت إلى المزيد من حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية، وساهمت في استمرار ارتفاع أسعار الفائدة؛ ما أثَّر بالسَّلْب على الاستثمارات، وأدَّى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في بعض الاقتصادات الكُبْرَى، كما أدَّت الزيادة الكُبْرَى في فاتورة الواردات؛ نتيجةً لارتفاع أسعار الوقود، إلى زيادة الضغط على اقتصادات القارة، والتي تعتمد بنسبة 87% من دولها على استيراد النفط، ولقد ساهمت هذه العوامل مجتمعةً في تقييد أداء التجارة الأفريقية.
الضغوط الناجمة عن التضخُّم
أدَّى تفاقُم الأزمات في سلاسل التوريد وزيادة الضغوط على أسعار الطاقة إلى إضعاف الدَّخْل الفِعْليّ للأفراد وتقليل الاستهلاك الخاص؛ بما أثَّر بالسَّلْب على النموِّ الاقتصادي في العديد من الدول الأفريقية، وبالإضافة إلى ذلك، ساهم ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة في زيادة فاتورة الواردات الحكومية؛ ما عمل على الحدِّ من قدرتها على تخصيص الموارد للاستثمار في دعْم النمو، وقد أدَّت زيادة التضخُّم أيضًا إلى ارتفاع أسعار الفائدة؛ بما يعيق قدرة القطاع الخاص على الوصول إلى الائتمان ويُقلِّل من حجم الاستثمارات.
التأثير على الذَّهَب والطاقة
لقد أدَّى ارتفاع الأسعار إلى زيادة أرباح الدول المنتجة، مثل جنوب أفريقيا وتنزانيا وغانا؛ ما عزَّز مواردها من العملات الأجنبية، ومن ناحيةٍ أُخْرَى، شكَّل ارتفاع الأسعار عِبئًا اقتصاديًّا على الدول الأفريقية المستوردة للنفط، مثل “كينيا وموزمبيق”، التي تُعاني من تراجُع قيمة عملاتها المحلية وشُحِّ احتياطاتها من النقد الأجنبي، ومن ثمَّ عانت اقتصادات منطقة شرق أفريقيا التي تُعدُّ الأسرع نموًّا في القارَّة، طبقًا لتوقُّعات البنك الأفريقي للتنمية، من تكاليف الطاقة المرتفعة بما قد يعرقل النموّ المتوقع، وقد تشمل التداعيات غير المباشرة انخفاض تدفُّق الأموال من الولايات المتحدة إلى العالم العربي؛ ما يُؤثِّرُ بالسَّلْب على دول القرن الأفريقي، التي تعتمد على دعْم هذه الدول[14].
المحور الخامس: مستقبل الدور الإسرائيلي في القارة الأفريقية
قد تُشكِّلُ الحرب في قطاع غزة مسارًا جديدًا لعلاقات إسرائيل مع القارة الأفريقية؛ ما يضيف المزيد من التعقيد على مساعيها لتوسيع نطاق التطبيع وتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني، وعلى الرغم من تبايُن مواقف دول القارة إزاء الحرب؛ فقد برز الصوت الأفريقي في دعْم القضية الفلسطينية بشكلٍ لافتٍ مؤخرًا؛ نظرًا لارتباطها تاريخيًّا بنضال القارَّة ضد الاستعمار والاحتلال، ولكن قبْل التطرُّق إلى مستقبل إسرائيل في القارَّة في ضوء حرب غزة، يمكن تناوُل أبرز العوامل التي ساهمت في التغلغُل والتمدُّد الإسرائيلي، على النحو التالي:
1- عوامل نجاح الدبلوماسية الإسرائيلية في أفريقيا
شهدت العلاقات بين إسرائيل والدول الأفريقية تطوُّرًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة؛ ما مَنَحَ إسرائيل مجالًا أوسع للتحرُّك والتعاون مع العديد من الدول الأفريقية في مجالاتٍ متعددة، ولقد ركَّزت إسرائيل بشكلٍ خاصٍّ على تعزيز علاقاتها مع المغرب؛ بهدف ضمان تحجيم تحرُّكات الجزائر، والتي تُعدُّ العدو التقليدي لإسرائيل في المنطقة، ففي عام 2018م، برزت المغرب كإحدى الدول العربية القادرة على توقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل، وذلك في إطار خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المتبعة خلال ولايته السابقة، والتي تمَّ إطلاقها في عام 2020م؛ بهدف استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبيْن، وتُعدُّ هذه الخطوة بمثابة جزءٍ من الانفتاح الإسرائيلي على الدول الأفريقية.
وعملت إسرائيل على توطيد علاقاتها مع الدول الأفريقية، التي كانت تتبع سياسات داعمة للقضية الفلسطينية في السابق، ومع تزايُد التقارُب بين إسرائيل وهذه الدول، بدأت هذه الأخيرة، في إعادة تقييم مواقفها وأولوياتها؛ حيث سعت إلى تحقيق مصالحها؛ استنادًا إلى الصورة التي رسمتها إسرائيل عن نفسها في السَّاحة الدولية، لا سيما فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، كما قدَّمت إسرائيل نفسها كنموذجٍ يُحْتَذَى به في مجال محاربة التنظيمات الإرهابية؛ ما جعل بعض الدول الأفريقية ترى في التعاوُن مع إسرائيل فُرْصةً لتعزيز أمنها الداخلي.
وللولايات المتحدة الأمريكية دورٌ رئيسيٌّ في دعْم مصالح إسرائيل في القارَّة الأفريقية؛ حيث سعت إسرائيل إلى تحقيق أهدافها الإستراتيجية، التي تشمل تعزيز التواجُد الإسرائيلي، عبْر التنسيق الوثيق مع واشنطن؛ نظرًا لما لها من نفوذٍ في العديد من المنظمات الدولية والإقليمية؛ إذ كانت داعمًا أساسيًّا لمواقف هذه الدول تجاه القضية الفلسطينية، هذا فضلًا عن معاونة إسرائيل في تعزيز الاعتراف الدولي بها كدولةٍ شرعيةٍ ذات مكانةٍ قانونيةٍ.
2- رُؤْية مستقبلية للعلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية» في ضوء حرب غزة
يُعدُّ التصعيد الإسرائيلي في غزة أحد أخطر الأزمات التي تواجه حكومة بنيامين نتنياهو؛ إذ تفاقمت التداعيات نتيجةً لآثار الحرب المدمرة، ولقد أدَّت الأفعال الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل، والتي تجسَّدت في القتْل الممنهج للمدنيِّين، إلى تراجُع علاقاتها مع الدول الأفريقية، وأصبح التقارُب مع إسرائيل في ظِلِّ هذا الموقف عِبْئًا سياسيًّا وأمنيًّا على العديد من الدول الأفريقية؛ ما قد يدفع العديد منها إلى إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل، ومع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق المدنيِّين الفلسطينيِّين، أصبح من المرجح أن تواجه إسرائيل صعوبةً كبيرةً في الحفاظ على علاقاتها مع بعض الدول الأفريقية بعد الحرب على غزة.
ولقد جاءت هذه التطوُّرات في وقتٍ يشهد فيه الموقف الأفريقي تجاه القضية الفلسطينية تحوُّلًا ملحوظًا؛ إذ أثرت الرُّدود الشعبية في مختلف أنحاء القارة على السياسات الحكومية؛ فلم يعُدْ الالتزام بمبدأ الحِيَادِ مُجْدِيًا لبعض الدول الأفريقية، لا سيما مع السَّخَط الشعبي الواسع؛ نظرًا للانتهاكات الإسرائيلية، ونجد أن الموقف الشعبي الذي تجسَّد في مظاهر دعْم المقاومة الفلسطينية، عبْر المسيرات والمواقف الإعلامية، أخذ حيِّزًا كبيرًا في القارة؛ ما يعكس تحوُّلًا في الموقف العام؛ بما قد يؤثر في المستقبل على التواجُد الإسرائيلي في أفريقيا.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التراجُع النِّسْبي في النفوذ الأمريكي في بعض مناطق القارة الأفريقية، في ظِلِّ التنافُس المتزايد من جانب “الصين وروسيا”، قد أدَّى إلى تقليص فُرَص إسرائيل في تعزيز علاقاتها مع بعض الدول الأفريقية، كما أن تراجُع سياسة المساعدات الإسرائيلية المُوجَّهة إلى الدول الأفريقية؛ بسبب الخسائر التي تكبَّدتها في غزة؛ ساهم في تزايُد نفوذ الصين التي أصبحت تلعب دورًا مِحْوَرِيًّا، من خلال الاستثمارات والمساعدات، ومن ثمَّ بدأت تظهر توجُّهات الدول الأفريقية نحْو القُوَى الدولية، التي تُقدِّمُ الفائدة دون الطموحات الاستعمارية أو السياسية[15].
ختامًا:
يشيرُ تعهُّد نتنياهو بـ”عودة إسرائيل إلى أفريقيا” إلى العلاقات المزدهرة في الستينيات، كما تُوفِّرُ القارة الأفريقية – التي تضُمُّ 54 دولةً معترفًا بها دوليًّا – لإسرائيل مشهدًا إستراتيجيًا مهمًا لدعم أجندتها الداخلية والخارجية، ووفقًا لنتنياهو، فإن أحد أبرز أهداف تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية، هو تغيير أنماط التصويت بشأن الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي»، ولكن تضرَّرت مكانة إسرائيل على الصعيد العالمي منذ “طوفان الأقصى”، الذي شنَّتْه حماس في 7 أكتوبر 2023م، ومع الهجوم المضاد الذي شنَّتْه قوات الدفاع الإسرائيلية ضد حماس، وارتفاع عدد القتلى في غزة، أصبحت إسرائيل موضع انتقاداتٍ دوليةٍ؛ إذ أثَّرت تلك الحرب على مواقف الدول الأفريقية تجاه إسرائيل، وهو ما اتضح في موقف جنوب أفريقيا التي قدَّمت دعوى قضائية ضدها أمام محكمة العدل الدولية، وبالتالي لهذه الحرب أثرٌ كبيرٌ على مستقبل العلاقات «الإسرائيلية – الأفريقية».
المصادر:
[1] علي محمد ديهوم، العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية وتأثيرها على المصالح العربية، مجلة العلوم الاقتصادية والسياسية، كلية الاقتصاد والتجارة، الجامعة الأسمرية الإسلامية، (ع 3)، 2014م، ص 468: 476.
[2] صادق الشيخ عيد، السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا – جنوب الصحراء، رؤية تركية، (ع 4)، 01 ديسمبر 2015.
[3] ضفاف كامل كافظم، التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا وأثره في العلاقات العربية – الأفريقية، دراسات دولية، (ع 82)، العراق، 2020، ص 299، 300.
[4] عادل مختار حسن، تأثير العلاقات الإسرائيلية الأفريقية على الأمن القومي المائي المصري: دراسة حالة العلاقات الإسرائيلية مع أثيوبيا، مجلة كلية السياسة والاقتصاد، (ع 17)، يناير 2023، ص 38.
[5] أسماء عادل، توسيع النفوذ: التحالف المُحتمل بين إسرائيل وإقليم “أرض الصومال”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 04/11/2024.
