لم تسلم أفغانستان فى عهد الرئيس الأمريكى (جو بايدن) من انتقادات الرئيس المنتخب (دونالد ترامب) الذى وقع خلال ولايته الأولى اتفاق سلام مع حركة طالبان من أجل الخروج من دائرة الحرب التى طالت كلا الطرفين، فى مقابل إلزام الحركة بشروط وتعهدات تضمن الاستقرار الأمنى لكابول وواشنطن، ولكن لم ينفك ذلك التعهد ونفذت الاتفاقية بصورة مغايرة عن الاتفاق المعهود وانسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان بطريقة وصفها البعض بالانسحاب “الفوضوى” الذى حمل فى طياته بعض التبعات الكارثية، أو كما وصفها ترامب بأنه “اللحظة الأكثر إحراجاً فى البلاد”[1]، ومع عودة الأخير مرة أخرى إلى السلطة فى يناير المقبل أُعيد التساؤل حول الكيفية التى سيتعامل بها ترامب تجاه القضية الأفغانية، التى كانت حاضرة بقوة فى المناظرات الرئاسية مع منافسته (كاميلا هاريس)، ناهيك عن انعكاس ذلك الفوز على حركة طالبان الساعية فى الحصول على مكاسب لصالح شرعنة وجودها فى السلطة.
رؤى أفغانية مأمولة:
خرجت حركة طالبان عن صمتها فور انتهاء الانتخابات الأمريكية لتنوه فى بيان عن رغبتها فى “تبنى الإدارة الأمريكية المقبلة نهجاً عملياً لضمان التقدم الملموس في العلاقات الثنائية، مما يسمح لكلا البلدين بفتح فصل جديد من العلاقات القائمة على المشاركة المتبادلة” طبقاً لما صرح به (عبد القهار بلخي) المتحدث باسم وزارة الخارجية فى طالبان[2]، فى إشارة إلى التأييد الواضح على العودة السياسية لترامب ورغبة طالبان فى التفاوض مع الإدارة الأمريكية من أجل مناقشة مستقبل أفغانستان على جميع المستويات لاسيما فيما يخص مسألة الاعتراف الرسمى بحكومة طالبان الغير معترف بها فى أى دولة وفى مقدمتهم الولايات المتحدة، بجانب رفع التجميد عن احتياطات البنك المركزى الأفغانى التى جمدتها الادارة السابقة منذ عام 2021، ناهيك عن الرغبة فى انتهاج الإدراة الجديدة نهج يصب فى مصلحة البلدين كما سلف الحال فى الولاية الأولى الذى سعى للحوار مع الحركة حتى تم التوصل إلى ما عرف باتفاق الدوحة الذى نتج عنه انسحاب القوات الأمريكية وإنهاء الحرب الأمريكية على أفغانستان[3].
ملفات مطروحة:
المساعدات الاقتصادية:
واجهت أفغانستان أزمة من الوضع الاقتصادي منذ حكم طالبان وعلى الرغم من سعى الحركة فى تحقيق بعض التغييرات والانجازات إلا أنه لم يصاحبها تحسن فى عدد من مؤشرات الاقتصاد الكلى وينعكس بشكل واضح على المواطن الأفغانى ويرجع ذلك إلى جملة من الأسباب يقع فى مقدمتها القيود المفروضة على القطاع المصرفى حيث أمر بايدن فى أغسطس عام 2021 بتجميد أكثر من 7 مليار دولار من احتياطات الحكومة الأفغانية وتبعه فى القرار مجموعة من الدول الأوروبية، وعلى الرغم من إنشاء صندوق خاص فى العام التالى فى جنيف تحت إدارة “بنك التسويات الدولية” من أجل الإفراج عن الأموال المحتجزة إلى البنك المركزى الأفغانى إلا أن عملية فك الحصار الجزئى لتلك الأصول ينتابها قدر من عدم الوضوح[4].
ناهيك عن توقف المساعدات الأجنبية فى بعض الدول وانخفاضها فى دول أخرى، وبالتركيز على الولايات المتحدة فإنها تعتبر على حد وصف التقارير الرسمية أنها “أكبر المانحين لأفغانستان” حيث تساهم فى ضخ حوالى “40 مليون دولار” شهرياً من خلال مؤسسات تابعة للأمم المتحدة لمجابهة تدهور الاقتصاد الأفغانى وتخصص لتمويل مشاريع إنسانية وإغاثية[5]. ولكن شهدت مساعدتها فى حقبة بايدن تراجع ولا تساهم بالقدر الكافة فى المساعدات الإنسانية أو فى إنقاذ ملايين الأفغان من الفقر والمجاعة، ونظراً إلى انتهاج ترامب سياسة “أمريكا أولاً” وتأكيده على تحجيم الانفاق الدولى للمخاوف الاقتصادية والأمنية، يبدو مسألة ارتفاع المساعدات فى الأجل القريب أمر غير واضح الأفق خاصة مع ارتباط المساعدات الأمريكية بشروط معينة على حكومة طالبان قد تنعكس بالسلب على المجتمع الأفغانى[6].
الوضع الجيوسياسى:
يحذو ترامب حذو سياسة أوباما القائمة على “الانعطاف نحو آسيا” وتقع أفغانستان فى مرمى تلك السياسة نظراً لموقعها الجغرافى ومواردها الطبيعية التى يجعلها نقطة إلتقاء لعدد من المشاريع الهامة ومصالح الدول التنافسية مع الولايات المتحدة التى استغلت الانسحاب الإمريكى فى محاولة لسد هذا الفراغ الاستراتيجى وعلى رأسهم الصين لذلك انتقد ترامب الاسنحاب من قاعدة باغرام الجوية القريبة من مناطق نفوذ صينية فى إشارة إلى خسارة الموازنة ضد نفوذ بكين المتصاعد فى المنطقة، التى تسعى على صعيد أخر فرض سيطرتها الاقتصادية على الموارد المعدنية الثمينة وفى مقدمتها “الليثيوم” حيث قامت شركات صينية فى أواخر عام 2021 بعمليات تنقيب عن هذا المعدن، وعليه عقدت حكومة طالبان فى أبريل العام الماضى صفقة مع شركة “Gochin” الصينية تضكن استثمار حوالى 10 مليار دولار للتعدين ناهيك عن بناء مصنع لمعالجة خام مورد الليثيوم[7]، نظراً لكونه عنصر رئيسى فى الصناعات الحديثة والمستقبلية مثل السيارات الكهربائية وتخزين الطاقة المتجددة وغيرها وفق ما أشارت بعض الدراسات. ويفرض هذا الوضع تأثيراً على الأمن الإقليمى لأمريكا يحفزها نحو التحرك لإدارة هذا الوضع مع طالبان على المستوى الاقتصادى والاستراتيجى للحد من النفوذ الاقتصادى لمنافسيها مثل الصين وروسيا فى أفغانستان وجوراها[8][9].
مكافحة الإرهاب “داعش خرسان”:
فى السابق شنت أمريكا الحرب على أفغانستان من أجل مواجهة الإرهاب المتمثل فى تنظيم القاعدة بعد أحداث 11 سبتمبر، واليوم تواجه عدو أكثر تشدداً وعنفاً يجعل تلك الحرب جزءاً رئيسيا من الأمن القومى الأمريكى وكان شرطاً فى اتفاق الدوحة الموقع عام 2020، وربما وجود طالبان فى السلطة شجع من تنامى بعض الجماعات الإرهابية والمسلحة للعودة واتخاذ أفغانستان بيئة آمنة لها، ومن أجل ثبيت أواصر شرعيتها فى البلاد سعت طالبان إلى تحقيق تحسن نسبى على المستوى الأمنى ومكافحة تنظيم “داعش ولاية خرسان” العدو المشترك بينها وبين الولايات المتحدة للحفاظ على المصالح الأمريكية وضمان أمن الداخل الأفغانى وكذلك جوارها الجغرافى، وعلى الرعم من النجاح النسبى لطالبان فى التعامل مع تهديد التنظيم إلا أنه تم السيطرة على على المستوى العملياتى فقط فلا زال تهديد التنظيم قائم لحكومة طالبان وامتد لدول الجوار وأجزاء من أوروبا، وقد برز هذا التهديد بعد إعلان فوز ترامب حيث تناولت صحيفة النبأ الأسبوعية،إحدى أدوات التنظيم الإعلامية، فى عددها رقم 469 موضوع “الانتخابات الأمريكية وصعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم” واصفة إياه ب “الطاغوت” وواصفة ولايته الأولى بالفشل وكثرة الأكاذيب التى لا تعد ولا تحصى، ومنتقدة ردود الفعل الإيجابية لدى بعض الساسة والدول المؤيدة لفوز ترامب، ومتوعدة بمزيد من العمليات الإرهابية التى لا تتوقف عبر فروعها المختلفة[10].
الرغبة فى إحياء العمل باتفاقية الدوحة:
بعد عدد من المحادثات لحل الصراع فى أفغانستان والتى جمعت بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، الحركة الأكثر قوة فى البلاد، فى عهد الرئيس الأمريكى (دونالد ترامب) حينذاك والتى وقعت تحت رعاية قطرية توصل الطرفان إلى اتفاق سلام فى العاصمة القطرية “الدوحة” يوم 29 فبراير 2020 وصوغ فى بيان أمريكى أفغانى مشترك مفاده قيام الولايات المتحدة بسحب قواتها من أفغانستان فى مدة قدرها 14 شهراً وإطلاق سراح حوالى 5000 فرد من مقاتلى الحركة من السجون، فى مقابل قيام حركة طالبان بتقديم ضمانات أمنية واتخاذ إجراءات فى سبيل منه أى جماعات إرهابية ومتطرفة من استخدام الأراضى الأفغانية لتهديد الولايات المتحدة وحلفائها، بجانب قيامها بمحادثات مع الحكومة الأفغانية لتحديد مستقبل تقاسم السلطة فى البلاد[11].
ولكن مع قدوم الرئيس (جو بايدن) اختلف التنفيذ عن ما هو مخطط له فعليا حيث لم يكتب لهذا الاتفاق أن يتحقق بشكل كامل سواء فى طريقة الانسحاب أو إيفاء طالبان بمعظم وعودها التى قطتعها مع البيت الأبيض، وخلف الانسحاب تداعيات سلبية نالت كلا الطرفين حتى الآن وكانت عرضة للانتقادات من ترامب ومؤيديه وقضية برزت فى السباق الرئاسى حيث علق ترامب قائلاً “كان اتفاق جيد والسبب فى ذلك أننا كنا سنخرج أسرع منهم لكننا لم نكن لنخسر الجنود، و لم نكن لنترك وراءنا العديد من الأميريكين، ومعدات عسكرية جديدة بقيمة 85 مليار دولار…لقد نسفوا الاتفاق ولم يفعلوا ما كان المفترض أن يفعلوه وقاموا بأسوأ انسحاب”[12]. لذلك دعت حركة طالبان عبر وزارة الخارجية الأفغانية إلى استكمال مسار المباحثات وإعادة إحياء اتفاق الدوحة التى بدأت فى عهد ترامب بشكل كامل وإعادة النظر فى سياسات الادارة الأمريكية تجاه طالبان[13].
معضلة الاعتراف الدولى بطالبان:
تقع حكومة طالبان أسيرة العزلة الدبلوماسية وعدم الاعتراف الدولى وتسعى جاهدة إلى الاعتراف الأمريكى بها وإعادة فتح السفارة الأمريكية فى كابول، لما يعزز هذا الأمر من تسهيل إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى على المستوى الإقليمى والدولى نظراً للثقل الأمريكى على مستوى العالم، ولكن يبدو هناك بعض العراقيل التى تضعف من فرصة هذا الاعتراف بشرعية حكومة طالبان ويجعل المجتمع الدولى يستخدم تلك القضية كورقة ضغط فى اتجاه سياسياتها وفرض العقوبات الدولية عليها والتى تتمثل فى قضايا حقوق الإنسان، ومسألة تنامى التنظيمات الإرهابية فى البلاد، والاخفاق فى حل الأزمة السياسية وتشكيل حكومة شاملة تجمع مختلف الأطياف والفصائل. وبينما تهتم بعض الدول بالاتجاه الإنسانى والمجتمعى والقيود المشددة على بعض فئات المجتمع الأفعانى لاسيما تضييق الخناق على المرأة فإن الادراة الأمريكية الجديدة تهتم بالقضايا الأمنية والجيواستراتيجية والمصالح الأمريكية فى أفغانستان وتعتبر الفيصل فى التفاوض مع الحركة وربما اللقاءات السياسية والأمنية التى تجمع بين الطرفين فى الدوحة دليل على تيسير عملية تطبيع العلاقات فى الطرفين فى ضوء تغيير طالبان من استراتيجيتها بما يتسق مع مصالح واشنطن[14].
سيناريوهات مستقبلية :
السيناريو الأول:
يرجح الاحتمال الأول الضغط السياسى لإدارة ترامب على طالبان والتعامل بحزم من أجل تقديم بعض التنازلات الموقعة فى اتفاق الدوحة والتى تنص على تشكيل حكومة شاملة تضمن التيارات السياسية السابقة وتحمى المصالح الأمريكية فى منطقة آسيا، ويؤيد تلك السياسة المرشح لمنصب وزير الخارجية (ماركو روبيو) المعروف بأراءه ومواقفه الصرامة حول طالبان التى تشكل فى رأيه تهديداً لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة وشركائها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
السيناريو الثانى:
بينما يطرح الاحتمال الثانى وهو الأكثر ترجيحاً استمرارية المباحثات التى نجح فيها ترامب فى ولايته الأولى من أجل ضمان وفاء طالبان بتعهداتها المدرجة فى اتفاق الدوحة أو العمل على طرح اتفاق جديد بما يتناسب مع مصحلة كلا من واشنطن وطالبان ولا يهدد مصالح الأولى، ويعمل على إجراء الحركة لمحادثات مع الأطراف الأفغانية السابقة لتشكيل حكومة توافقية بدلا من حكومة تصريف الأعمال القائمة، ناهيك عن استخدام الأدوات الاقتصادية فى تلك المباحثات من أجل تحرك الحركة وإلزامها بوعودها.
السيناريو الثالث:
فى حين يحمل السيناريو الثالثة احتمال تبنى الإدارة الجديدة موقف الحياد تجاه طالبان مع تأجيل النظر إلى الوضع الحالى فى أفغانستان والانخراط به وإعطاء الأولوية لملفات جارية على الصعيد الدولى والإقليمى، ولكن فى ذات الوقت لا تستطيع واشنطن انتهاج تلك السياسة طويلاً لما يطرحه الملف الأفغانى من مستجدا ستيوجب على الادارة الأمريكية التعامل معها لما له تأثير على الأمن الأقليمى ويوثر بدوره على البيت الأبيض.
مما سبق؛ يحمل الملف الأفغانى فى طياته العديد من التعقيدات لاسيما منذ الانسحاب الأمريكى وتولى طالبان مقاليد السلطة الواقع الحتمى الذى لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه، بل فرض التعامل معه لمحورية أفغانستان للعديد من الدول وبالتركيز على واشنطن والمستجدات التى تحملها مع تغير الإدراة الأمريكية وتغير توجهاتها التى تتمحور حول حماية المصالح الأمريكية الاقتصادية والأمنية، وكيفية إدارة علاقاتها مع منافسيها فى آسيا، وعليه تبدو فرص التفاوض والحوار السلمى مع حركة طالبان بالتزامن مع بعض الضغوط الاقتصادية لدعم شرعيتها السيناريو الأكثر احتمالاً ولكنه مرهون باتجاهين الأول أولوية السياسة الخارجية الأمريكية تجاه كلا من الحرب فى غزة والأزمة الأوكرانية بينما يتمثل الثانى فى عدم القدرة على تنبأ تصرفات ترامب مع الأخذ فى الاعتبار احتمال تغيير سياساته وفقاً لمصالحه تجاه بعض القضايا.
المصادر:
[1] Peter Bergen, “How different a commander in chief will Trump be?”, CNN, 17 November 2024, available on:
[4] Lily Sarah Rashes, “2024: A New Era or Status Quo? What is Trump’s foreign policy?”, The International Centre for Defence and Security (ICDS), 31 October 2024, available on:
[10] Islamic State (ISIS) Editorial: President Trump Returns To Power With ‘Legacy Of Failure And Lies’, The Middle East Media Research Institute, 7 November 2024, available on:
[11] “اتفاق تاريخي بين واشنطن وطالبان تنسحب القوات الأمريكية بموجبه من أفغانستان خلال 14 شهراً “، موقع BBC NEWS عربى، 29 فبراير 2020، متاح على الرابط أدناه:
[13] “ماذا يعني فوز ترامب في الانتخابات بالنسبة لأفغانستان؟”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 17 نوفمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
[14] أحمد نادى، “أول تعليق من «طالبان» على فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية 2024.. ماذا قالت؟” ، موقع المصرى اليوم، 7 نوفمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
