في إطار تعزيز الأُطُر الدبلوماسية وتوطيد العلاقات الإستراتيجية بين جمهورية مصر العربية وجمهورية الجابون، جاءت زيارة الرئيس الغابوني “بريس أوليغي نغيما” إلى القاهرة كخطوةٍ مهمةٍ تعكس عُمْق الروابط السياسية والاقتصادية بين البلديْن، وتعكس هذه الزيارة الحِرْص المتبادل على فتْح آفاق جديدة للتعاون الثنائي بين البلديْن؛ وهو ما يعزز الاستقرار الإقليمي، وتُمثِّلُ هذه الزيارة فُرْصةً سانحةً لتبادُل الرُّؤَى حول القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، لا سيما في ضوْء المتغيِّرات العالمية المتسارعة والتحديات التي تواجه دول القارة، كما سعت الزيارة إلى تحقيق تقدُّمٍ ملموسٍ في الملفات الاقتصادية والاستثمارية، مع التركيز على القطاعات الحيوية، مثل الطاقة الزراعة والبِنْية التحتِيَّة، وتأتي هذه الخطوة في سياق الدور المحوري الذي تضطلع به مصر على السَّاحة الأفريقية، والدور المتنامي للغابون كدولةٍ فاعلةٍ في القضايا المتعلقة بالأمن والاستقرار الإقليمي.
العلاقات “المصرية – الجابونية”
تُمثِّلُ العلاقات بين مصر والغابون نموذجًا للتعاون الثنائي المتوازن الذي يعكس التفاهم السياسي والمصالح المشتركة بين البلديْن؛ حيث تتميز بعُمْقها وارتكازها على أُسُسٍ من التضامُن الأفريقي والعمل المشترك لدعم قضايا القارة منذ استقلال الغابون في عام 1960، فكانت مصر من الدول الداعمة لحركات التحرُّر الوطني في أفريقيا؛ ما خلق أساسًا متينًا للتعاون مع الدول الأفريقية ومنها الجابون الذي كان التعاون بينهما يشمل كافَّة النواحي:
أ- من الناحية السياسية:كانت مصر من أوائل الدول التي دعمت حركات التحرُّر الوطني في أفريقيا بما في ذلك الجابون؛ استنادًا إلى الرُّؤْية القومية المصرية التي تبنَّاها الرئيس الراحل جمال عبد الناص؛ لتعزيز استقلال الدول الأفريقية والتخلُّص من الاستعمار، هذا الدَّعْم عزَّزَ من مكانة مصر كقوةٍ دافعةٍ للقضايا الأفريقية؛ ما جعل الغابون شريكًا إستراتيجيًّا في جهود التضامن الأفريقي والعمل الجماعي الإقليمي، منذ ذلك الحين تطوَّرت العلاقات الثنائية بين البلديْن، عبْر التنسيق السياسي المشترك في المحافل الدولية، مثل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، وتشترك مصر والغابون في دعْم الاستقرار الإقليمي، من خلال المبادرات التي تهدف إلى إنهاء النزاعات المسلحة في القارة، مع التركيز على تعزيز الدبلوماسية الوقائية وآليات حلِّ النزاعات السِّلْمِيَّة.
ب- من الناحية الاقتصادية: تُمثِّلُ العلاقات الاقتصادية بين مصر والجابون محورًا رئيسيًّا للتعاون الثنائي، خاصَّةً في مجالات البِنْية التحتِيَّة والطاقة، وباعتبار مصر دولةً رائدةً في أفريقيا ساهمت في تقديم خبراتها الفنية للجابون، من خلال تنفيذ مشروعات في قطاعات الزراعة والتعدين والطاقة المتجددة، على سبيل المثال، لعبت مصر دورًا محوريًّا في دعْم خُطط الجابون؛ لتعزيز أمنها الغذائي، من خلال تبنِّي مشروعات زراعية مشتركة، تعتمد على التكنولوجيا المصرية المتقدمة، إضافةً إلى الشركات المصرية العاملة في الجابون، مثل شركات المقاولات الكُبْرَى التي ساهمت في تطوير البِنْية التحتِيَّة بما يشمل الطرق والجسور والموانئ فضلاً عن اتفاقيات التعاون التجاري الأخيرة، التي عزَّزت من التجارة بين البلديْن، مع التركيز على الصادرات الزراعية والمنتجات البتروكيماوية.
ت- من الناحية الأمنية:يُعدُّ التعاون الأمني ركيزةً أساسيةً للعلاقات “المصرية – الجابونية”؛ حيث يعمل كلا البلديْن على مكافحة الإرهاب والتطرُّف معًا في مناطق غرب ووسط أفريقيا، كما أن مصر بخبراتها في مواجهة التهديدات الأمنية، تُقدِّمُ للغابون دعمًا تقنيًّا وتدريبات في مجالات الأمن السيبراني وحماية الحدود ومكافحة الجريمة المنظمة، ومن ناحيةٍ أُخرى، يتعاون الجانبان في تعزيز الأمن البحري في خليج غينيا، والذي يُعدُّ محورًا إستراتيجيًّا للتجارة الأفريقية والدولية، مع التركيز على التصدِّي للقرصنة وتأمين خطوط المِلَاحة البحرية.
فالتاريخ العميق للعلاقات بين مصر والجابون هو انعكاسٌ لرُؤْيةٍ مشتركةٍ، تُركِّزُ على الشراكة الإستراتيجية والتضامن الأفريقي والعمل الجماعي لتحقيق التقدُّم والازدهار، ولا تعتبر هذه العلاقات مجرَّد تعاونٍ ثنائيٍّ، بل تُمثِّلُ نموذجًا لتعزيز الدبلوماسية المتعددة الأطراف؛ بما يخدم تطلُّعات الشعبيْن، ويسهم في بناء قارة أفريقية أكثر أمانًا واستقرارًا.[1]
سياق الزيارة
في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين الجابون ومصر، قام الرئيس الغابوني “بريس أوليغي نغيما” بزيارةٍ رسميةٍ إلى القاهرة، ٣٠ نوفمبر الماضي؛ حيث كان في استقباله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتأتي هذه الزيارة في سياق ترسيخ أواصر التعاون السياسي والاقتصادي بين البلديْن، مع التركيز على قضايا التنمية المستدامة، وتعزيز الشراكات الإستراتيجية، وأكَّد الجانبان خلال المباحثات، على أهمية التنسيق المشترك في القضايا الإقليمية والدولية، لا سيما فيما يتعلق بملفات الأمن والاستقرار في القارة الأفريقية، كما تمَّ التطرُّق إلى تفعيل أُطُر التعاون الاقتصادي في مجالات الطاقة والزراعة والتعدين؛ بما يعكس الأولويات التنموية لكلتا الدولتيْن.
وعبَّر “السيسي” عن دعْمه للجهود الجابونية في تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز الحوكمة الرشيدة، فيما أشاد الرئيس الجابوني بالدور المصري في تعزيز التضامُن الأفريقي والعمل على تحقيق التنمية المشتركة، عبر مبادرات إقليمية متعددة الأطراف، شهدت الزيارة توقيع عددٍ من مذكرات التفاهم؛ ما يعكس التوجُّه نحْو شراكةٍ إستراتيجية شاملة بين القاهرة وليبرفيل، في ظلِّ التحديات التي تواجه القارة الأفريقية على صعيد التغيُّر المناخي والأمن الغذائي والتكامُل الاقتصادي.[2]
دلالات هامة
تحمل زيارة الرئيس الجابوني “بريس أوليغي نغيما” عِدَّة دلالات سياسية واقتصادية وإستراتيجية؛ إذ إنها تعكس التحوُّلات في العلاقات الثنائية بين البلديْن، وكذلك التغيُّرات في المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وفيما يلي أبرز هذه الدلالات:
1- تعزيز الشراكة الأفريقية وتعميق التعاون بين البلديْن
تؤكد الزيارة حِرْص مصر والجابون على تعزيز التعاون الأفريقي لمواجهة التحديات المشتركة، مثْل التغيُّر المناخي والأمن الغذائي والاستقرار الإقليمي، كما أنها تعكس التزام رئيسيْ الدولتيْن بتفعيل آليات العمل المشترك، في إطار الاتحاد الأفريقي؛ بما يُسْهِمُ في تحقيق التكامل الإقليمي والتنمية المستدامة.
2- دعم الاستقرار السياسي في الغابون
تأتي الزيارة بعد الانقلاب الأخير في الجابون وتولِّي نغيما السلطة؛ ما يشير إلى سعْي مصر لدعم الانتقال السياسي السِّلْمي في الغابون، كما تعكس دعم القاهرة للنهج الذي يتبنَّاه الرئيس الغابوني لتعزيز الشرعية السياسية والاستقرار في بلاده؛ بما يتماشى مع السياسات المصرية لتعزيز الأمن والسِّلْم في القارة الأفريقية.
3- التعاون الأمني ومواجهة التحديات الإقليمية
تعكس زيارة الرئيس الجابوني أهمية التعاون الأمني بين البلديْن، خاصَّةً في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في وسط وغرب أفريقيا؛ حيث تُعدُّ الجابون لاعبًا مهمًا في المنطقة، وتعزِّزُ مصر من خلال هذه الزيارة تعاونها مع الجابون؛ لضمان استقرار منطقة خليج غينيا وحماية الأمن الإقليمي.[3]
في الختام:
تُجسِّدُ زيارة الرئيس الجابوني بريس أوليغي نغيما إلى القاهرة خطوةً محوريةً في مسار الدبلوماسية الأفريقية، وتعكس التقارُب الإستراتيجي بين جمهورية مصر العربية وجمهورية الغابون، وتحمل بين طيَّاتها رسالةً واضحةً، مفادها، أن الشراكة بين البلديْن تستند إلى رُؤَىً مشتركةٍ لتحقيق التنمية الشاملة وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، ولم تكن تلك الزيارة مناسبة لتوطيد أواصر الصداقة والتعاون بين مصر والغابون فقط، بل شكَّلت أيضًا نموذجًا عمليًّا لتعزيز الدبلوماسية الفاعلة القائمة على الاحترام المتبادل والشراكة البنَّاءة؛ من أجل بناء قارة أفريقية أكثر قوةً وتأثيرًا على السَّاحة الدولية.
المصادر:
[1] Smith, Stephen. “Africa’s Post-Colonial State: Egypt’s Role in Sub-Saharan Politics.” Journal of African Studies, vol. 34, no. 3 (2018): 212–220.
African Union Strategic Reports on Bilateral Relations between Member States, 2020.
مصر والجابون، الهيئة العامة للاستعلامات، ٤ ديسمبر ٢٠١٣، https://t.ly/C70aR ، ٢ ديسمبر ٢٠٢٤.
[2] كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الانتقالي للجمهورية الجابونية، الموقع الرسمي لرئاسة جمهورية مصر العربية، ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/te63b ، ٢ ديسمبر ٢٠٢٤.
محمد الجالي، الرئيس السيسى فى مؤتمر صحفى مشترك مع الرئيس الجابونى الانتقالى: نثمن علاقاتنا التاريخية مع الجابون..، اليوم السابع ، 30 نوفمبر 2024، https://t.ly/IGmDe ، ٢ ديسمبر ٢٠٢٤.
