فى ظلِّ حالةِ الفوضى التى انتابتْ الداخلَ السوري بعد أسبوعين من الاشتباكات بين فصائل المعارضة السورية وقوات النظام السوري والتى انتهت بسيطرة المعارضة على مساحاتٍ واسعةٍ من الأراضى السورية ودخولها للعاصمة “دمشق” وسقوط نظام (بشار الأسد)، تجددَ طرْحُ احتمالِ عودة نشاط تنظيم داعش وترتيبِ صفوفه من جديد فى تلك البيئة الخصبة لانتعاشه، وإثباتِ تواجدهِ فى مناطق نفوذه فى كلٍ من البادية السورية ومحافظات حماة وحمص ودير الزور والرقة، وعليه تخلقُ تلك التطوراتُ السريعةُ والمتصاعدةُ تساؤلاتٍ بشأن ماهية مستقبل التنظيم فى سوريا؟ وهل يستطيعُ الاستفادةَ من الوضعِ الراهن لإعادة بناء نفسه مستغلاً عدداً من المحفزات المحيطة؟
دلالاتُ احتماليةِ العودة:
الاستفادةُ من الأحداث المتتالية:
يحاولُ تنظيمُ داعش منذ الهزيمة العسكرية فى سوريا والعراق لملمةَ صفوفه، مستغلاً العديدَ من الأحداث ومتبعاً استراتيجية “باقية وتتمدد” سواء فى القاعدة المركزية أو الولايات التابعة له من أجل إثبات وجوده، وبالرجوعِ إلى العام المنصرم وتحديداً فى شهر أكتوبر إبانَ هجومِ تنظيمِ “هيئة تحرير الشام” على حفلِ تَخرجِ إحدى الكليات العسكرية التابعة لقوات النظام فى مدينة “حمص” استغلَ تنظيمُ داعش هذا الهجومَ الذي استدعى سحْبَ قواتِ النظام من محافظة دير الزور للتركيز على ضرْبِ قاعدة هيئة تحرير الشام فى شمال غرب سوريا، مما أتاحَ الفرصةَ أمام داعش لمساحةٍ أكبر للنشاط، ولعل ما تلاه من هجوم السابع من أكتوبر من نفس العام وانشغال القوات الأجنبية فى سوريا بحالة الحرب فى غزة أو أزمات داخلية لتلك الدول، ساهمَ فى تلك الفرصة واستعادة نشاطه فى منطقة البادية لتنفيذ عملياته ضد قوات النظام، وبالرجوعِ إلى الحدْثِ الجاريِ وتخلّىِ القواتِ السورية عن مواقعها المجاورة للمواقع التى تُديرها قوات سوريا الديمقراطية مثل انسحابها المفاجئ نهاية الأسبوع الماضى من مدينة “دير الزور”وما تبعهُ من تراجعِ الجيش السورى وسقوطِ النظام أجّجَ من فرصة القدرة على التمدد.
مكاسبُ ميدانية:
يواصلُ تنظيمُ داعش شنَّ الهجماتِ المسلحة ونصْبَ الكمائن و الاستهدافات والتفجيرات في مناطقَ واسعةٍ من الأراضي السورية، وفقاً للمرصد السورى لحقوق الإنسان، الذى نوَّه مديره (رامى عبد الرحمن) عن خطر التنظيم قائلاً “إن سوريا أمامَ خطرِ تَمددِ داعش من ناحية البادية، حيث يستفيدُ التنظيمُ من التصعيد الواقع في سوريا هذه الأيام”. هذا بالتزامن مع سيطرته على بعض المناطق فى البادية السورية وتحركاته الكثيفة التى تمَّ رصدُها فى محيطِ تَدمر والسخنة وباديةِ حمص، وجنوب وغرب دير الزور، ناهيك عن ريف الرقّةِ تحديداً محيط جبل البشرى ، ومناطق آثريا والرهجان المتصلة بريفِ حماة الشرقي.
ويؤكدُ (فرهاد شامى) مديرُ المركزِ الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية خروجَ التنظيمِ عن السيطرةِ بعد انسحاب قوات النظام مع سيطرته على الطُرقاتِ الموجودةِ فى المناطق السابقة قائلاً “إنهم فرضوا على النظام خلال الفترة الأخيرة دفْعَ مبالغَ ماليةٍ في سبيل أن لا يهاجموا حركةَ النقل على الطرق العامة هناك” [1]. وهذا الصعود فى ضوء زيادة هجماته فى الأشهر الأخيرة الموجهة لكلٍ من مناطقِ سيطرةِ الحكومة ومناطق سيطرة قوات “قسد”، وسبق أن أعلنت “القيادة المركزية للقوات العسكرية الأميركية” فى تقريرٍ صادرٍ فى شهر يوليو الماضى أن عددَ العمليات التى نفّذها داعش فى سوريا والعراق فى النصفِ الأول من العام الجارى تُعادلُ ضِعْفَ ما قامَ به التنظيمُ خلال العام المنصرم.
تحذيرٌ أممىٌ:
بعد عمليةِ “ردع العدوان” حذّرَ (غير بيدرسون) مبعوثُ الأممِ المتحدة الخاص إلى سوريا من خطورةِ الوضع فى سوريا بعد تحقيقِ “هيئة تحرير الشام” وغيرها من الفصائل المسلحة تقدمٍ ملحوظٍ، واحتمالات أن يؤدىَ ذلك الوضع إلى عودة ظهور تنظيم داعش وتوسّعِ دائرةِ العنفِ مع ارتفاع عمليات النزوح على نطاقٍ واسعٍ، فيما أكدَ “البنتاجون” بعد ذلك التصريح إلى استمراريةِ احتفاظِ داعش بقدراتٍ تجعله قادراً على مواصلة تنفيذ الهجمات فى الداخل السورى[2]، وسبق أن قدمَ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (فلاديمير فورونكوف) فى الربع الأول من العام الجارى تقريراً أمام مجلس الأمن الدولي استعرضَ فيه الخطرَ والتهديدَ المتزايدَ الذى يشكّلهُ تنظيمُ داعش للسلام والأمن الدولي وخاصة فى سوريا والعراق مع محاولات عودته بعد هزيمته العسكرية وتولّى زعيمٍ جديدٍ للتنظيم واتباع استراتيجيةِ البقاء رغم الأزمات المالية التي عصفتْ به، وفى هذا السياق قال (فورونكوف) “على الرغم من التقدمِ المطّرد الذي أحرزتهُ الدولُ الأعضاءُ في الحدِّ من القدرات العملياتية لتنظيم داعش، لا يزالُ لدى التنظيم القدرةُ على شنِّ هجماتٍ تُسفرُ عن خسائرَ كبيرةٍ في صفوف المدنيين وعن معاناة إنسانية”.
آفاقُ التحركِ الداعشى:
استغلالُ الفجواتِ الأمنية:
أنتجتْ الحربُ الأهليةُ فى سوريا خريطةً للأراضى السورية مقسّمةٍ إلى مناطق جغرافية محصورة لصالح القوات الأجنبية فلا تُوجدُ سلطةٌ حاكمةٌ واحدة تسيطر على البلاد بالكامل، وقبل التصعيد الأخير كان التقسيم كالتالى الإدارة الذاتية التى يديرها الأكراد فى شمال وشرق سوريا متمثلةً فى قواتِ “قسد” وتنشب نزاعات طائلة بينها وبين القوات التركية، وهناكَ النزاعُ بين النظام السوري بدعمٍ من قوات روسيا وإيران فى مقابل فصائل معارضة وهناك حكومةُ الإنقاذِ السورية التى تديرُها هيئةُ تحريرِ الشام، ناهيك عن قوات التحالف الدولى برعاية القوات الأمريكية الذى يدعم الإدارة الذاتية ويحارب داعش ، وفى إطار هذا التقسيم تحاولُ داعش استغلالَ محاولة بعض الأطراف لتقويض أمن خصومها فى مناطق تواجدهم فى ظل تلك المنافسة بين مختلف الجهات الفاعلة فى الصراع السورى، وربما الأحداث الراهنة وانشغال تلك القوات بمعارك داخل بلدانهم مثل الانشغال الروسى بالحربِ الروسيةِ الأوكرانية وانشغالِ إيران وحزبِ الله بالحرب فى غزة والتصعيد مع إسرائيل، واستمرارية المعارضة التركية للأكراد فى الشمال، فضلاً عن تركيزِ المعارضة المسلحة بالمكاسب التى حققوها ضد قوات النظام تزيدُ من شأنِ عدمِ قدرة بعض الأطراف لشنِّ هجماتٍ مؤثرةٍ تجاه تنظيم داعش كسابق عهدها.
السجونُ فى شمال شرق سوريا:
تمثلُ معتقلاتُ داعش، التابعة لإدارة قسد، أهدافاً لشنِّ هجماتٍ من قِبلِ التنظيم الراغب فى تحرير عناصره من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى رغبة هؤلاء المعتقلين فى الهروب من تلك السجون واستغلال أىّ فرصةٍ متاحةٍ للحاق بالخلايا النائمة للتنظيم فى المناطق الصحراوية، وتحتوى مدينة “الحسكة” على أكبرِ مجمّعِ سجون فى منطقة شمال شرق سوريا مثل سجن “الصناعة/ غويران” وسجن “سينا” والسجون الواقعة فى مدينة “رأس العين”، وسبق أن حذرَ العديدُ من الخبراء منها لسببين رئيسينأولهما مُعضلةُ تأمين تلك السجون وحذرتْ إدارة قسد كثيراً أنها لا تملكُ القدرةَ على احتجاز الآلاف من مقاتلي داعش الذين تمَّ أسرُهم خلال السنوات الماضية، هذا إلى جانب تحدى إدارة مخيمات النازحين مثل “الهول/ وروج” التى تحوى على الآلاف من عوائل التنظيم.
وثانيهماإمكانيةُ شنِّ التنظيم هجماتٍ عنيفةٍ لاقتحام تلك السجون وإطلاقِ عناصره مستغلاً التوترات المتصاعدة كما حاول فى السنوات السابقة مثل الهجوم على سجن “غويران” فى يناير لعام 2022 وسيطرة التنظيم عليه لمدة 5 أيام وسقوطِ أكثر من 200 عنصر من قوات “قسد” بعد نشوب اشتباكات مع إرهابيي التنظيم، ولكن تمكنتْ “قسد” من إعادة السيطرة على السجن مرةً أخرى، ما تلاهُ بعام حيث شهدَ سجنُ “راجو” الذى يضم حوالى 1300 شخصا يُشتبهُ فى انتمائهم للتنظيم، حالة من العصيان مستغلين الزلزال الذى تعرضت له سوريا وتركيا، واستطاع 20 شخصاً منهم الفرار بفعْلِ التصدعات التى حدثت فى عددٍ من السجون، ناهيك عن الهجوم الذى شنّهُ التنظيمُ فى شهر أغسطس العام الماضى على سجن “غويران” لمساعدة عناصره على الهرب والذى أدى إلى اندلاع اشتباكاتٍ بين قوات سوريا الديمقراطية وعناصر التنظيم المهاجمين أسفرت عن فرار العديد من العناصر المعتقلين الذين قدروا بنحو 800 عنصرا، وخسارة التنظيم لحوالى 374 من الأفراد المهاجمين والهاربين على حدٍ سواء، وعليه فرضت قوات “قسد” حظْرَ تجوالٍ فى الحسكة لمحاولة الحصول على العناصر الهاربة من التنظيم، فضلاً عن وصول أنباء عن التحضير لمحاولة هروبٍ جماعيٍ من جانب العناصر المحتجزة[3].
التعبئةُ اللوجيستيةُ والبشريةُ:
يحاولُ تنظيمُ داعش الحفاظ على استمرارية تواجده وإعادة بناءه عن طريق عددْ من الآليات، أبرزها توفير العنصر البشرى لتعزيز صفوفه وتعويض العناصر الذى فقدها بعد الهزيمة العسكرية اللاحقة به فى سوريا عام 2019، وهو ماجعله منصباً على تجنيدِ العديدِ من الشباب مستغلاً الأوضاعَ الاقتصاديةَ والاجتماعية الهشة، وَيعمدُ على تدريبهم فى البادية السورية، وعلى صعيدٍ آخر يحاولُ التنظيمُ تأمين حصوله على الأسلحة والمعدات اللوجيستية لزيادة قدراته العسكرية، مع تعقيدِ معاملاتهِ المالية واعتمادهِ على التحويلات المالية والعملاتِ المشفرةِ ومكاتبه المالية فى أفريقيا التابعة ل”المديرية العامة لإدارةِ الولايات”، ولا يستبعدُ احتماليةُ هجومهِ على مخازن الأسلحة التابعة لقوات النظام بعد انحسارها من مواقع تضمُ قواعدَ عسكريةَ هائلةَ مثل بادية دير الزور وبادية حمص[4].
رؤى مستقبلية:
يظلُ مستقبلُ التنظيم فى سوريا مرهوناً بعددٍ من الجهات الفاعلة فى الصراع السورى ويأتى فى مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والمرتبطةِ تحركاتها بالإدارة القادمة فى يناير القادم، ووفقاً لتوجهات الرئيس المنتخب (دونالد ترامب) فإنه حريصٌ بعدمِ تدخل الولايات المتحدة بشكلٍ مباشرٍ فى الصراع الدائر مع بقاء القوات الأمريكية فى المرحلة الراهنة وزيادة أعدادٓ قوات التحالف ضماناً لعدمِ استغلالِ التنظيم للوضع الحالي وعودة ظهوره وفقاُ لتصريح البيت الأبيض[5]، وعليه قامت “القيادة المركزية الأميركية” بتنفيذِ عشراتِ الغاراتِ الجوية على أهدافٍ ما بين معسكرات وعناصر لتنظيم داعش في وسط سوريا يوم الأحد المنصرم بعد سقوط النظام[6].
أما فيما يخصُ قوات سوريا الديمقراطية “قسد”يتوقعُ الحفاظ على التنسيق بين قسد وقوات التحالف الدولى لشنِّ عملياتٍ أمنيةٍ لاعتقال عناصر داعش المنتشرين فى مختلفِ مناطق شمال شرق سوريا، بجانب استمراريةِ العملياتِ الوقائية للكثير من المناطق التى عانت من فراغٍ أمنيٍ كإجراءٍ وقائيٍ لمكافحة التنظيم لاسيما باتجاه “دير الزور” وبادية “الرقة”، ولكن مواصلةَ قوات قسد لتلك العمليات مرهونٌ بما سوف تؤولُ إليه الأوضاعُ فى سوريا وتعدد جبهات القتال لتلك القوات مع انهيار سيطرة الجيش السورى لاسيما الجبهة التركية[7].
فى حين يبدو موقفُ الفصائل المسلحة وفى مقدمتهم هيئة تحرير الشام تركيزها فى الفترة الحالية على جبهة أخرى مرتبطة بكيفية المعالجة بينها وبين الفصائل المعارضة الأخرى لتحريكِ المشهد السياسى والعسكرى فى سوريا، والتى قد يشوبها الكثير من التحديات مثل ضعفِ التوافقِ بين تلك الفصائل، والقبول بهيئة تحرير الشام المصنّفةِ على قوائم الكيانات الإرهابيةـ، بالرغم من انشقاقها عن تنظيم القاعدة وتميّزِ نفسها عن الإرهاب وإعلان نفسها فاعلاً سياسيا غير متجه إلى الجهاد العالمى.
مما سبق؛ يبدو المشهدُ السورىُ آسيرَ العديد من التحولات التى تمثلُ سياقاً محفّزاً لتنظيم داعش الإرهابى، الذى ظهر مسبقاً بقوة فى أعقاب اندلاع الحرب الأهلية السورية، وعلى الرغم من هزيمته عسكرياً وسقوط خلافتهِ المزعومةِ إلا أن ايدولوجيتَه قائمةٌ حين تتوافر الظروف التي يستغلها للنهوض من جديد فى سبيل إعادة تحركاته واستقطابِ عناصر جديدة، ولكن تظلُ عودتهُ كسابق عهده أمراً مستبعداً ولعل تجربةَ التحالف الدولي لمحاربة داعش السابقة بقيادة الولايات المتحدة سينصبُ دورُها نحو تحجيم التواجد بشكلٍ يخدمُ المصلحةَ الأمريكيةَ من بقاء داعش دون توغلها، حتى لا يتنافى سبب البقاء الأمريكى فى سوريا لمحاربة التنظيم وتأمينِ مصالحها ومصالحِ الحلفاء ومقومات أمنها.
المصادر:
[1] “تطورات ميدانية متسارعة.. هل سيتقوى تنظيم داعش في سوريا؟ “، موقع الحرة، 6 ديسمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
