توصَّل الاتحاد الأوروبي، في السادس من ديسمبر الجاري ، إلى التوافُق حول صيغةٍ نهائيةٍ مع دول ميركوسور (الأرجنتين، البرازيل، أوروجواي، باراجواي)؛ من أجل إنشاء منطقةٍ تجارةٍ حُرَّة بين الجانبين، وذلك بعْد العديد من المفاوضات التي بدأت منذ العام 1999، ووصفت رئيسية المفوضية الأوروبية هذه الخطوة، بأنها “علامة فارقة وتاريخية من شأنها بناء جسورٍ تجاريةٍ في وقتٍ تهُبُّ فيه رياحٌ قويةٌ في الاتجاه المعاكس نحول العُزْلة”.
وتهدف الاتفاقية إلى إلغاء مُعْظم الرُّسوم الجمركية بينهما؛ لتعزيز التبادلات التجارية لكلا الجانبيْن، الذي يشكل إجمالي الناتج المحلي لهما ما يقارب 21 تريليون دولار، فضْلًا عن تشكيلهما رُبْع الاقتصاد العالمي تقريبًا، بالإضافة إلى عدد سكانٍ يزيد عن 700 مليون نسمةٍ؛ ما يعكس حجم السُّوق الكبيرة المرتقبة.
وبالرغم من ذلك، تواجه اتفاقية التجارة الحُرَّة العديد من الاعتراضات لدى بعض الدول الأوروبية على كافَّة المستويات الرسمية والشعبية؛ ما قد يهدد فُرْصة الاتحاد في اعتماد هذه الاتفاقية، والتي ربما أصبحت أكثر إلحاحًا في الوقت الراهن الذي يشهد قُرْب تولِّي إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب السلطة، في العشرين من يناير القادم، الذي كثيرًا ما تحدَّث عن سياسات حمائية قادمة وزيادات في الرسوم الجمركية على الواردات، لا سيما الأوروبية منها.
طريق طويل من المفاوضات
لم يكن من اليسير التوصُّل إلى اتفاقٍ بين الاتحاد الأوروبي وميركوسور على مدار السنوات الماضية، بالرغم من توافر الإرادة لدى الجانبيْن على إبرام اتفاقٍ من هذا النوع، يساهم في تعزيز القطاعات الاقتصادية لكليهما، وفتح أسواق جديدة أمام حركة التجارة، وأمام التحديات الكُبْرى التي واجهت المفاوضات، مثل الخلافات حول السياسات البيئية، قضايا حقوق الإنسان، والمصالح الاقتصادية المتباينة، استغرق الأمر فترةً طويلةً من الزمن؛ حيث تمَّ التوصُّل إلى اتفاقٍ مبدئيٍّ في 2019 [1]؛ أيْ بعد عشرين عامًا من بدْء المفاوضات ، ومع ذلك، لم يكن من الممكن البناء عليه؛ إذ قُوبل هذا الاتفاق بالعديد من الاعتراضات من دول الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا والنمسا، وفي ظل غياب الإجماع بين الدول الأعضاء، تعذَّر التصويت عليه داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ ما أدَّى إلى توقُّفِهِ ودخوله في مرحلة من الجمود.
واستمر هذا الجمود بسبب عِدَّة عوامل، أبرزها المُعوِّقات السياسية التي ظهرت نتيجةً للتباين بين دول الاتحاد في قضايا، مثل الحماية البيئية وآليات الرقابة على إزالة الغابات في الأمازون، فضلًا عن المخاوف بشأن تأثير الاتفاق على الاقتصاد الزراعي الأوروبي، وفي ظل المتغيِّرات الدولية وعودة الحديث عن الأفكار الحمائية، استُؤنفت المفاوضات مع ميركوسور؛ ما أسفر عن الإعلان عن اتفاقٍ جديدٍ مؤخرًا[2]، والذي أخذ في اعتباره بعض التعديلات البيئية والاقتصادية التي كانت محلَّ اعتراضاتٍ في السابق.
تعديلات لضمان تمرير الاتفاقية
تمركزت أبرز التعديلات التي تمَّ إدخالها على الاتفاقية الجديدة حول بُعْدين يمكن الإشارة إليهما في السياق التالي:-
١-البُعْد البيئي
حرص الاتحاد الأوروبي على تضمين الاتفاقية إجراءات أكثر صرامة بشأن حماية الغابات في دول ميركوسور وحماية البيئة بشكلٍ عامٍ، وضمان ألا يؤدي فتْح الأسواق الأوروبية أمام الصادرات الزراعية إلى انتهاك القوانين المتعلقة بالمناخ؛ نظرًا لأهمية البُعْد البيئي واعتباره مبعث قلقٍ كبيرٍ، وخصوصًا لدى المنظمات الأوروبية العاملة في المجال البيئي.
٢-البعد الزراعي
كانت دائمًا ما تخرج الاحتجاجات الرافضة للاتفاقية في بعض دول أوروبا من العاملين بالقطاع الزراعي على وجه التحديد؛ حيث سعت التعديلات إلى إيجاد ضمانات حول الممارسات التجارية العادلة في القطاع الزراعي، بشكلٍ يضمن الحفاظ على مصالح المنتجين الزراعيِّين في أوروبا، ويُهدِّئ من وطْأَة الاحتجاجات العمالية والنقابية المستمرة حتى هذه اللحظة.
وبشكلٍ عامٍ، فإن هذه التعديلات كانت ضروريةً لتحقيق التوافُق اللازم بين الدول الأعضاء في الاتحاد، والتي كانت تتراوح مواقفها بين تأييد الاتفاقية ورفضها بشكلٍ قاطعٍ، وعلى الرغم من سعْي الاتحاد الأوروبي إلى إرضاء بعض الدول المعترضة على الاتفاقية، بشكلٍ يسمح لهذه الاتفاقية إلى إتمام التصديق عليها، فإن الطريق لا يزال صعبًا، فحتى بعد هذه التعديلات، ما زالت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتبنَّى موقفًا رافضًا للاتفاقية[3]، وخاصَّةً من ناحية تأثيرها المحتمل على القطاعات الزراعية المحلية وعلى معايير البيئة. في هذا السياق، يواجه الاتحاد الأوروبي تحدِّيًا كبيرًا في تحقيق توافُق بين الدول الأعضاء المختلفة التي تتباين مصالحها الاقتصادية والاجتماعية.
عقبات تحُول دون إتمام الاتفاقية
إن ثمَّةَ العديد من العقبات تبقى حاضرةً، على الرغم من إعلان المفوضية الأوروبية، أنها أتمَّت المفاوضات مع دول ميركوسور، بشأن توقيع اتفاقية تجارةٍ حُرَّةٍ، ولعل عودة الحديث مؤخرًا عن اتفاقيةٍ كهذه، أعاد هذه العقبات إلى الواجهة مرَّةً أُخرى، وهو ما يعتبر بمثابة دلالةٍ واضحةٍ على أن الأجواء ليست مهيئةً بالكامل بين دول الاتحاد الأوروبي لإتمام هذه الاتفاقية، في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أبرزها:-
١-تحديات بيئية
تعتقد بعض دول الاتحاد الأوروبي، أن فتْح الباب على مصراعيه أمام اتفاقية تجارةٍ حُرَّةٍ مع ميركوسور، من شأنه أن يساهم في تفاقُم الأزمات المناخية؛ حيث ليس بمقدور دول ميركوسور أن تُصدِّرَ لأوروبا المتقدمة في الصناعة منتجات صناعية، لكن بإمكان هذه الدول بما تمتلكه من الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة أن تغمر أوروبا بمنتجاتها الزراعية، وهذا من شأنه أن يتحقق على حساب أراضي الغابات، عن طريق عملية إزالتها وتحويلها إلى أراضٍ زراعية، باعتبار هذه العملية منخفضةً التَّكْلفة للحصول على أراضٍ صالحةٍ للزراعة، وبالتالي فإن الأثر السلبي هنا سيعود على المناخ.
٢-ضغوط مزارعي أوروبا
يُعدُّ هذا هو العقبة الأبرز؛ حيث تُثَار بين الحين والآخر، العديد من الاحتجاجات في بعض الدول الأوروبية يتزعمها المزارعون[4]؛ إذ إن بإمكان انتشار المنتجات الزراعية لدول ميركوسور في السوق الأوروبية، أن يؤثر بالسلب على أحوال المزارعين الأوروبيِّين الاقتصادية؛ نظرًا لما سيتسبَّبُ فيه ذلك من انخفاضٍ كبيرٍ في أسعار منتجتاتهم، وتجسَّدت هذه الاحتجاجات في الآونة الأخيرة التي شهدت نشاطًا من قِبَلِ الاتحاد الأوروبي لإتمام المفاوضات مع ميركوسور، ولعل أبرزها ما شهدته فرنسا مؤخرًا من احتجاجاتٍ سعى من خلالها المزارعون إلى الضغط على الحكومة الفرنسية لرفض هذه الاتفاقية، وهو ما تجاوبت معه الإدارة الفرنسية؛ حيث تمثَّلَ ذلك في تصريحاتٍ عِدَّة للرئيس الفرنسي في أكثر من مناسبةٍ أعرب فيها رفضه للاتفاقية.
٣-تفاوت تشريعي وحقوقي
تُوجد حالةٌ من التفاوت الملحوظ في التشريعات وحقوق العمال بين الجانب الأوروبي ودول ميركوسور، ويتمثَّلُ ذلك في جانبيْن، الأول يتعلق باستغلال العمالة الزراعية في ظروف عملٍ قاسيةٍ وغير ملائمةٍ، وبالتحديد في القطاعات التصديرية من الزراعة، والثاني يتعلق بضعْف القوانين والتشريعات التي تضمن للعمالة حقوقهم الواجبة، ونتيجةً لهذا الوضع، تُحذِّرُ العديد من المنظمات الحقوقية والنقابات العمالية الأوروبية من أن الاتفاقية قد تؤدي إلى منافسةٍ غير عادلة؛ نتيجةً لاستيراد سِلَعٍ من دول لا تلتزم بالمعايير العمالية نفسها، فضلًا عن مطالبة البعض الآخر، بضرورة أن تتضمن الاتفاقية شروطًا تتعلق بضرورة تحسين ظروف العمل؛ لأنه من شأن تطبيق هذه الاتفاقية هو تحفيز دول ميركوسور على زيادة إنتاجها الزراعي؛ ما قد ينعكس بالسلب على العمالة، من خلال العمل لساعات أطول، بدلًا من أن يؤدي ذلك إلى تحسين أوضاعهم.
٤-التصويت كآلية حاسمة
يبقى الأمر مرهونًا بالتصويت على الاتفاقية داخل مؤسسات الاتحاد، ويبدأ الأمر من المجلس الأوروبي؛ حيث يشترط أن تحظى الاتفاقية بتأييد 55% من الدول الأعضاء، على أن تُمثِّلَ هذه الدول 65% من إجمالي سكان الاتحاد لتنتقل الاتفاقية إلى المرحلة الثانية وهي البرلمان الأوروبي؛ حيث يتطلب الأمرُ تأييد الأغلبية البسيطة[5] (أي أكثر من نصف الأعضاء)، لكن هذا ليس كافيًا لاعتماد الاتفاقية؛ حيث إنه سيتمُّ إحالة الأمر – بعد المرور بمرحلة المجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي- إلى البرلمانات الوطنية للتصديق عليها، وهي مرحلةٌ حاسمةٌ قد تُشكِّلُ العقبة الأخيرة في مسار اعتماد الاتفاقية؛ إذ إنه في حال رفضت أيُّ دولة الاتفاقية، يمكن تعطيلها على الرغم من تصويت مؤسسات الاتحاد الأوروبي لصالحها، وهو ما يعكس التحديات التي تواجه الاتفاقيات التجارية الكُبْرَى؛ لذلك، يصبح التوصُّل إلى توافُقٍ بين الدول الأعضاء قبْل التصويت على الاتفاقية هو الخيار الأمثل والضروري؛ من أجل الوصول إلى مرحلة الاعتماد.
٥-انقسام بين دول الاتحاد
في الوقت الذي ترفض فيه بعض الدول هذه الاتفاقية نتيجةً لعوامل بيئية واقتصادية وضغوط من النقابات العمالية والحقوقية، يظهر على الجانب الآخر تأييد للاتفاقية؛ ما يعكس تعقيدات هذه المسألة واختلاف المواقف تَبَعًا لأولويات كل دولة على حِدَة؛ فنظرًا لإعطاء بعض الدول الأولوية للقطاع الصناعي ومن أبرزهم ألمانيا؛ إذ يتربع قطاعها الصناعي على صدارة الصناعات الأوروبية، مما سيجعل اتفاق كهذا فرصة لتعظيم صادراتها، نجد أن الموقف الألماني داعمًا للاتفاقية، كما أنه نظرًا لأهمية القطاع الزراعي في بعض الدول ووجود جماعات ضغطٍ مؤثرةٍ ورافضةٍ لهذا الأمر، ومن أبرزهم فرنسا، نجد أن الموقف الفرنسي يأتي على النقيض من الموقف الألماني؛ لذا يمكن القول: إنه في الوقت الذي يرى فيه البعض أن في ذلك فُرْصةً لتعزيز الصناعة في أوروبا، يرى البعض الآخر، أن ذلك بمثابة تهديدٍ كبيرٍ للقطاع الزراعي.
فوز ترامب واتفاقية التجارة الحرة
تتصدر العلاقة التجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًّا، فوفقًا لبعض التقديرات، تُمثِّلُ هذه العلاقة ما يصل إلى 30% من حجم التجارة العالمية في السلع والخدمات، فضلًا عن امتلاك الجانبين – الأوروبي والأمريكي- 43% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، بالإضافة إلى ما سبق، يُقدَّر حجم الاستثمارات المتبادلة ما يقارب خمسة تريليونات دولار[6]، هذه الشراكة الوثيقة جعلت الولايات المتحدة بالنسبة لأوروبا هي الشريك الاقتصادي الأهم، وهو ما يحاول الأوروبيون الحفاظ عليه.
وعلى الرغم من أن الرغبة الأوروبية في إنشاء اتفاقيةٍ حُرَّةٍ بينها وبين دول ميركوسور، حاضرة منذ تسعينيات القرن الماضي في مساعٍ تهدف إلى تعزيز الشراكات الاقتصادية، بصورةٍ تجعلها أكثر تنوُّعًا، وهو ما سيعود عليها بالإيجاب، إلَّا أن هذه الرغبة أصبحت الآن أكثر إلحاحًا، وذلك في ضوْء ترقُّب مجيء إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، وبالوضع في الاعتبار الفترة الرئاسية الأولى لترامب وما انتهجه فيها من سياساتٍ حمائيةٍ، رافعًا شعار “أمريكا أولًا”؛ أدَّى إلى تغيُّر سلوك واشنطن تجاه بعض الملفات كانسحابها من الاتفاقيات متعددة الأطراف، مثل اتفاقية باريس للمناخ، وزيادة الرُّسوم الجمركية على الشركاء التجاريِّين؛ بما في ذلك الشركاء الأوروبيون، فإن ذلك نتج عنه فراغٌ نِسْبيٌّ في القيادة الدولية للتجارة الحرة.
وفي ظلِّ تأكيد ترامب عزْمه على تنفيذ السياسات الحمائية نفسها، التي طبقها في ولايته الأولى؛ بما تشمله من رفْع الرسوم التجارية، فإن هذا قد دفع – بشكلٍ أو بآخر – الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز دوره كمدافعٍ عن التعدُّدية والتجارة الحرة، وإلى التعجيل في استنئاف التفاوض بشأن اتفاقية تجارة الحرة مع دول ميركوسور طالت فترة الوصول إليها، وهو سينتج عنه أمران، الأول يتعلق بامتصاص دول الاتحاد الأوروبي لأيِّ صدمات مستقبلية قد تطرأ نتيجةً لقرارت مُتوقَّعة من الإدارة الجمهورية القادمة، بزيادة الرسوم على الواردات الأوروبية إليها؛ نتيجةً لوجود أسواق أُخرى سيلجأ إليها الأوروبيون لتسويق صادراتهم كسوقٍ دول ميركوسور، وهو ما سيُقَلِّصُ الخسائر المتوقعة، والثاني هو توسيع الشبكة التجارية لدى الاتحاد الأوروبي وتحقيق مكاسب اقتصادية،؛ ما قد يؤدي مستقبلًا إلى التوسُّع في اتفاقيات تجارةٍ حُرَّةٍ مماثلةٍ.
ختامًا:
فإنه بالرغم من سعْي الاتحاد الأوروبي إلى تمرير هذه الاتفاقية، فإنه لا يلُوح بالأفق، بأن هذا المسعى سوف سيتحقق في القريب العاجل. فمما لا شكَّ فيه، أنه بإمكان اعتماد هذه الاتفاقية أن تعوض أوروبا قدرا من خسائرها المتوقعة إزاء سياسة التضييق التي قد تمارسها الإدارة الجمهورية الجديدة، إلَّا أن المسألة امتدت لما هو أبعد من دوائر صنع القرار الرسمية داخل بعض الدول الأوروبية لتصل إلى احتجاجاتٍ شعبيةٍ وعماليةٍ رافضةٍ؛ ما يُصعِّبُ من احتمالية تمرير الاتفاقية؛ ما سيجعل أوروبا بين مطرقة السياسات الأمريكية المرتقبة وسندان تعثُّر وصولها لاتفاقيات تجارةٍ حُرَّةٍ أُخرى، بعيدًا عن السُّوق الأمريكية.
المصادر:
[1] ،٢٨/٦/٢٠١٩DW اتفاق تجاري تاريخي بين أوروبا وتجمع دول في أمريكا الجنوبية،
