سقوطُ نظامِ بشار الأسد في ديسمبر 2024 يُعدُ بمثابة نهايةِ حقبةٍ طويلةٍ لنظام غير ديموقراطي في سوريا، فقد جاء سقوط النظام بعد تقدم قوات المعارضة ونجاحها في السيطرة على العاصمة السورية دمشق، نتيجة عوامل مثل الضغط العسكري المستمر والانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية مما جعلَ النظامَ السوريَ عاجزاً عن مواجهة التحركات المسلحة لفصائل المعارضة، والتي يَدينُ قسمٌ كبيرٌ منها بالولاء لأنقرة.[1]
ومثلت هذه التحولات في المشهد السوري حافزًا كبيرًا لتركيا، حيث ترتبطُ مصالحها الأمنية والسياسية ارتباطاً وثيقاً بتطورات الأوضاع في سوريا لعوامل عدةٍ، ولذا في هذا التقرير نعرضُ ارتباطَ تركيا بتطورات الأوضاع في سوريا والمكاسب المحتمل تحقيقها.
دَورُ إدارةِ العمليات العسكرية:
بدأَ الهجومُ الذي نجح في إسقاط نظام الأسد في السابع والعشرين من نوفمبر السابق، حيث أطلقتْ الفصائلُ العسكريةُ التابعة لغرفة عمليات “الفتح المبين” عملية “ردع العدوان”، وشُكّلت “إدارة العمليات العسكرية” لهذا الغرض، التي ضمّتْ العديد من الفصائل أبرزُها هيئةِ تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا).
وشهدتْ غرفةُ عمليات الفتح المبين، منذ تأسيسها في عام 2019، تطوراتٍ هيكليةً وتنظيميةً، انعكستْ بشكلٍ مباشرٍ على المشهد العسكري في شمال سوريا، حيث بدأتْ كمنصةٍ لتنسيق العمليات العسكرية بين فصائل المعارضة، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى قوةٍ عسكريةٍ موحدةٍ ذات نفوذ كبير.
وفي سبيل تعزيز هذا النفوذ، سعتْ الغرفةُ إلى توحيد الجهد العسكري تحت قيادتها مما قلل من التشتتِ بين الفصائل ورفْعِ من كفاءتها القتالية، كما عملت على تطوير هيكلها التنظيمي ووضْعِ خططٍ عسكريةٍ شاملة، مما ساهم في تحقيق توازنٍ للقوى في المنطقة، وجاء التغير الأخير في شكلها التنظيمي لـــــــ “إدارة العمليات العسكرية” التي ضمت الفصائل نفسها التابعة سابقاً للفتح المبين[2] لتقود عملية “ردع العدوان” التي نجحت في إسقاط نظام الأسد.
وتصدرت هيئةُ تحرير الشام المشهدَ، هذه الهيئة، التي كانت تُعرفُ سابقًا باسم جبهة النُصرة، وهي جماعةٌ إسلاميةٌ مسلحةٌ ذات نفوذ كبير في المنطقة، وإلى جانبها شاركت فصائل أخرى مثل أحرار الشام والجبهة الوطنية للتحرير بالإضافة إلى عددٍ من الفصائل الأصغر حجماً، وهذه الفصائل تعملُ بشكلٍ منسّقٍ تحت قيادة غرفة عمليات مشتركة، وتستفيد من الدعم اللوجستي والعسكري الذي تقدمه لها بعض الدول الإقليمية[3].
هيئةُ تحريرِ الشام وعلاقاتها مع تركيا
إتجهت هيئةُ التحرير الشام وبعد مجموعةٍ من التحولات الاستراتيجية لتجنّبِ المواجهةِ مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وحاولت التقاربَ لتركيا، فقدمت نفسها كحركةٍ جهاديةٍ معتدلة، وفي عام 2016، أعلن زعميها “الجولاني” إلغاء العمل باسم جبهةِ النُصرةِ لفكِّ الارتباط بتنظيم القاعدة، واستكملت نشاطها باسم “جبهة فتح الشام”، ولاحقًا تغيرت إلى هيئة تحرير الشام في يناير 2017، عقِبَ انقساماتٍ عميقةٍ داخل المعارضة السورية وتحدياتٍ متزايدةٍ على الساحة الدولية والإقليمية.
ونشأت الهيئة ككيانٍ اندماجيٍ ضمَّ عدةَ فصائل جهاديةٍ بارزة وبعضَ الفصائل الصغيرة الأخرى (أهمها: جبهة فتح الشام، كتائب نور الدين الزنكي، جبهة أنصار الدين، وغيرها) بهدفِ تعزيز وحدة الصف الجهادي وخلْقِ قوةٍ جديدةٍ تواجه النظام السوري، مع الابتعاد عن ارتباطاتها السابقة بتنظيم القاعدة، حيث رغبت في تعزيز شرعيتها أمام الأطراف الإقليمية والدولية، خاصة مع انطلاق مفاوضات أستانا، حيث سعتْ لإعادة تنظيم جهود المعارضة المسلحة وتوسيع سيطرتها الميدانية في مناطق الشمال السوري[4].
إتسمت العلاقة بين تركيا وهيئة تحرير الشام بالتعاون، حيث اعتمدت أنقرة على الهيئة وزعيمها أبو محمد الجولاني لضبطِ فصائل المعارضة السورية الموالية لها، في مقابل تقديم بعض الدعم لها، حيث توفرُ لها الدعمَ اللوجستيَ من خلال سيطرتها على طرق التجارة والمساعدات الإنسانية الممتدة بين تركيا ومناطق سيطرة الهيئة في إدلب، ويرى خبراء أن الدعم التركي كان حاسمًا في تمكين الهيئة من بسْطٍ نفوذها على الواقع السوري وحتى الآن تُعتبرُ تركيا الداعمَ الإقليمي الرئيسي لهيئة تحرير الشام.
في حين تعتمدُ على عدة مصادر لتمويل أنشطتها، أبرزُها إيراداتُ المعابر التي تسيطر عليها، مثل معبر “باب الهوى” على الحدود مع تركيا، الذي تستخدمه الأمم المتحدة لإدخالِ المساعدات إلى شمال سوريا، ومعبر “الغزاوية” الذي يربطُ بين ريفِ عفرين وريفِ حلب الغربي، بالإضافة إلى ذلك، تحتكرُ الهيئةُ قطاعاتٍ اقتصاديةً محددةً، أبرزها المحروقات، كما تعتمد على التبرعات كجزءٍ من مواردها المالية. هذه المصادر تُتيح للهيئة تمويلَ عملياتها وضمانَ نفوذها في المناطق التي تسيطر عليها.
موقفُ الجيشِ الوطني السوري
يُعتبرُ الجيشُ الوطنيُ السوري أكثر فصائل المقاومة ولاءً لتركيا وعلى الرغم من تصريحات تركيا التي تنفي كونها محركاً للمعارضة في التحركات الأخيرة، فهو لا ينفي كونَ دعمها المستمر للجيش الوطني السوري أسهم بالطبع في رسْمٍ الأحداث الحالية بالشكل الحالي وهناك تحليلاتٌ تشير إلي أن الجيش الوطني السوري قد أعطى بالفعل موافقةً ضمنيةً لهيئة تحرير الشام قبل بدءٍ الهجوم الأخير، وفي ظل الأوضاع الحالية نجدُ تحركَ الجيش الوطني السوري بما يخدمُ المصالح التركية حيث سيطر بشكلٍ شبه كليٍ على منبج بشمال سوريا[5] والتي كانت تحت سيطرة الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية) وهو ما يخدمُ ما تريده تركيا من منع أي توسعٍ لنفوذ الأكراد في ظل التوترات الحالية، وفي اعتقادي سيكون الجيش الوطني السوري هو من أكثرِ فصائل المعارضة تمسكًا بالتعاون مع الجانب التركي في رسْمِ مستقبلٍ جديدٍ لسوريا.
ارتباطُ تركيا بالصراع في سوريا
الثورةُ السورية التي انطلقت في عام 2011 كانت تعبيرًا عن رغبةٍ شعبيةٍ عارمةٍ في التخلص من نظام سلطوي، إلا أن هذه الثورة التي انطلقت بشعارات الحرية والكرامة سرعان ما تحولت إلى مأساةٍ إنسانيةٍ معقّدةٍ، حيث وجد الشعب السوري نفسه محاصرًا بين نيران الصراع الداخلي وتدخلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، أدتْ هذه الديناميات إلى تهجير الملايين من السوريين، الذين لجأ معظمهم إلى تركيا وأوروبا ودول أخرى في المنطقة، وكانت تركيا هي الحاضنَ الأكبر لهؤلاء اللاجئين، لكنها في الوقت نفسه تحملت التبعاتِ الاجتماعيةً والسياسيةَ لهذا التهجير، بما في ذلك ارتفاع العنصرية وزيادة الاستقطاب الداخلي.
في هذا السياق، تتقاطعُ مصالح المعارضة السورية مع المصالح التركية، خاصةً فيما يتعلق بعودة المهجّرين إلى مدنهم، من جهةٍ أخرى، فإن الكلفة الباهظة التي تحملتها تركيا نتيجة احتضانها للسوريين، دون أن تَفيَ العديدُ من الدول بتعهداتها لدعمها، تدفعها بالضرورة إلى تبنّيِ سياسة تجعل السياقات الحالية تصب في صالحها.
ويمكن القول إن انشغالَ حلفاء النظام السوري السابق بنقاط اشتباكٍ أخرى كشف عن هشاشة قوات النظام، وهو ما وفر لتركيا فرصةً لتعزيز دورها في الشمال السوري، مدفوعةً بأهدافٍ ترتبط بأمنها القومي، نظرًا للتداخل الجغرافي والديموغرافي مع تلك المناطق[6].
موقفُ تركيا من المرحلة الجديدة في سوريا
تحاول تركيا موازنةَ ضمان أمن حدودها ومصالحها الإقليمية في ظل تحدياتٍ معقدةٍ، مثل الضغوط الداخلية والدولية المرتبطة بملف اللاجئين وتأمين حدودها، كما تواجه ضغوطًا من القوى الدولية، خاصة روسيا وإيران، في ظلِّ تغيرِ الوضع بعد سقوط نظام الأسد، ما يهددُ مصالحها ويقرّبُ من نهاية نفوذ تلك القوى في المنطقة.
وعلى الرغم من الاتهامات الموجهة لها، رفضت تركيا – فى البداية – تفسير الأسباب وراء الهجوم باعتبارها نتاجاً للتدخل الخارجي سواء من الجانب التركي نفسه أو الولايات المتحدة أو إسرائيل وأكدت أن السببَ الأساسي هو عدمُ قدرة الحكومة على الوصول لتسويةٍ في الداخل، وأكد أردوغان على عدم تجاهلها التطورات في بلدٍ ترتبط به حدودها بشكلٍ وثيقٍ وأنه لن يسمحَ لحزب العمال الكردستاني بأن يستغلَ الفرصةَ في سوريا لمصلحته ولن تسمحَ بتعريض أمنها القومي للخطر، وأكد على وجود واقعٍ سياسيٍ ودبلوماسيٍ جديدٍ في سوريا يملكه السوريون فقط.
تلا ذلك، نفىُ حزب العدالة والتنمية الادعاءات بأن تركيا تقفُ وراءَ التحرك الأخير من المعارضة، ولم تقدمْ دعماً كبيراً أو يُذكر للمعارضة السورية في الهجوم الأخير ولكن أكد وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” أنه بالطبع قد تمَّ التمهيد للوضع بأن المفاوضات من القوى الدولية الهامة في المنطقة تمهدُ لحلِ الوضع بطريقةٍ غير دمويةٍ وهو ما حدث بالفعل، ما تريد إظهاره تركيا هو أن الأوضاعَ في تركيا وصلت لهذا الشكل نتيجة لديناميكياتٍ داخليةٍ تم التمهيد لها فقط من خلال مفاوضاتٍ خارجيةٍ للمساعدة على تخطّي الوضع بأقل الخسائر، كما تسعى أنقرة إلى تجنّبِ استغلال الفوضى من قِبلِ الجماعات الإرهابية، مشددةً على أهمية التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ تضمن جميع الطوائف السورية عملاً على إقرار الاستقرار[7]
مكاسبُ تركيا من سقوطِ نظام بشار الأسد: (سيناريوهات متوقعة)
لا شك أن سقوطَ نظام بشار الأسد يمثلُ فرصةً للمصالح التركية كونها كانت الداعمَ الأول للمعارضة السورية طوال سنوات، ولكن يمكن القول أن هذه المكاسب ستكون مرتبطةً بقدرة فصائل المقاومة على رسْمِ مستقبلٍ حقيقيٍ إيجابيٍ لسوريا، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لدعم تركيا لفصائل المقاومة ستكتسب تركيا نفوذاً هائلاً في سوريا ليس باعتبار فصائل المقاومة أداةً تحت النفوذ التركي ولكن باعتبار تركيا هي الداعم والحليف المستمر لقوى المعارضة على مدار سنوات، ولكن لتشكيل مستقبلٍ لسوريا بشكلٍ يضمن جميع طوائف الشعب السوري، سيكون لتركيا تخوفٌ من توسّعِ النفوذ الكردي السوري.
في حالةِ نجاح قوى المعارضة على التوافق فيما بينها لتشكيل حكومةٍ جديدةٍ تمثلُ طوائفَ الشعب السوري، ستحققُ تركيا مكاسبَ على الصعيد الداخلي في إمكانية التعاون للعودة الطوعية المنظمة للاجئين السوريين مما سينعكس بالإيجاب على الأوضاع الداخلية بتخفيف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، كذلك ستكسب تركيا في إطار علاقاتها مع قوى المعارضة نفوذاً سياسياً، بل واقتصادياً في سوريا وستكون مصالحها ضمن الاعتبار في تشكيل مستقبلٍ سوريٍ جديد، وبالطبع ستكون مساهماً أولَ في عملية إعادة الإعمار، أي في حال نجاح حكومة البشير المؤقتة في إدارة الفترة الانتقالية حيث تم تكليف محمد البشير لمدة شهرين ونصف بموافقة إدارة العمليات العسكرية.
أما في حالة وقوع فصائل المعارضة في هاوية التنافس، ناهيك عن الآثارِ السلبيةِ على الجانب السوري، سُتهدد المكاسب التركية المتوقعة، بل ربما ستواجهُ موجاتِ تدفقٍ جديدةٍ من اللاجئين، وتهديد لحدودها المرتبطة، وستقع تركيا مرةً أخرى تحت مطرقة الاختيار بين فصائل المعارضة التي ستقدم لها الدعم، لذا يمكن القول إن المشهدَ في سوريا ملئٌ بالاحتمالات وإن الأوضاع الحالية لا تحسمُ أي مؤشرات لمستقبل سوريا ولكن من الضروري أن تعمل فصائل المعارضة فيما بينها بشكلٍ يضمنُ التوافقَ وأن تأخذ العبرة من الخبرات الدولية حتى لا تنجرَّ لهاويةٍ لا نهاية لها.
ختامًا:
إن سقوطَ نظام الأسد يُعتبرُ حدثاً يعيد تشكيل التوازنات الإقليمية ويضعُ تحدياتٍ وفرصًا أمام الفصائل السورية والدول الفاعلة، تركيا، باعتبارها أحد أبرز اللاعبين في المشهد السوري، تجد نفسها أمام فرصٍ لتعزيز نفوذها عبر دعم المعارضة وإعادة تشكيل علاقاتها الإقليمية، إلا أن هذا النفوذَ مرهونٌ بقدرة المعارضة على التوحّدِ وتحقيق استقرار حقيقي.
في المقابل، هناك مخاوفُ من تداعياتٍ سلبيةٍ إذا ما انزلقت المعارضة في صراعاتٍ داخليةٍ، مما قد يخلقُ فراغًا أمنيًا خطيرًا ويهدد الحدود التركية بتدفق لاجئين جدد وتصاعد التهديدات المسلحة، هذا الوضع يتطلب توازنًا دقيقًا بين الدعم التركي وضرورة الوصول إلى تسويةٍ شاملة تعكسُ تطلعاتِ الشعب السوري بكافة مكوناته.
أخيرًا، فإن مستقبلَ سوريا يعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على قدرة الفصائل السورية والداعمين الدوليين على صياغة رؤيةٍ متكاملةٍ ومتماسكة تعيد بناء الدولة على أسسٍ عادلة ومستدامة، مما قد يمثل بدايةً جديدةً تعكسُ دروس الماضي، أو تنذر باستمرار حالة الفوضى إذا لم تتحققْ تلك الرؤية.
