بعد عقودٍ من الهيمنة العسكرية والسياسية في لبنان والمنطقة، يواجه حزب الله واقعًا جديدًا يُشكِّلُ تهديدًا لاستمرار وجوده وتأثيره، فالضربات التي تلقَّاها نتيجة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان؛ أدَّت إلى تآكل قدراته العسكرية، فيما شكَّلَ سقوط نظام بشار الأسد، الذي كان حليفه الإستراتيجي والداعم اللوجستي الرئيسي له، ضربةً إضافيةً زعزعت استقرار نفوذه الإقليمي، في ظلِّ هذه التطوُّرات الجديدة، يتعرض الحزب لضغوط متزايدة على الصعيديْن الداخلي والخارجي، مع تراجُع شعبيته السياسية وتكثيف الدعوات لنزع سلاحه.
يجدر بالذكر أن هذا الوضع كان له تداعيات واضحة على الداخل اللبناني؛ حيث شهدت البلاد احتفالات واسعة وردود فعل سياسية مؤيدة لسقوط الأسد، وعزَّز هذا الحدث قوة المعارضة اللبنانية ضد الحزب وحلفائه، ممن تولوا الحكم بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، وتعتبر مصادر من قُوَى المعارضة أن التغيُّرات الأخيرة للحزب تتطلب منه إعادة تقييم موقفه وإعادة تحجيم نفسه بما يتناسب مع المرحلة القادمة؛ كما يُطالب بشكلٍ مُلِحٍّ بتسليم سلاحه للسلطة الشرعية وتفكيك هيكله العسكري والانخراط في العمل السياسي، كما تفعل باقي الأحزاب، والتخلِّي عن مشاريعه الإقليمية وطموحه للهيمنة على لبنان، على الجانب الآخر، كان لسقوط بشار الأسد تداعيات سلبية جسيمة على حزب الله.
في هذا الإطار، يتناول التقرير رؤيةً شاملةً حول مستقبل حزب الله في ظلِّ التغيرات الاقليمية الجديدة، مستعرضًا تداعيات ضعفه العسكري والسياسي وفُرَص بقائه في بيئةٍ تشهد إعادة تشكيل موازين القوى.
خسائر حزب الله في 2024:
خسائر بشرية: تعرَّض حزب الله لخسائر فادحة في صفوف مقاتليه، وقد أعلنت الجماعة عن مقتل حوالي 500 من أعضائها حتى وقت الهجوم الذي شنَّته إسرائيل في سبتمبر، ومع ذلك، توقَّفت عن إصدار مثل تلك البيانات بعد ذلك، لكن معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، المرتبط بالمؤسسة العسكرية، أفاد بأن الحزب فقد ما مجموعه 2450 فردًا خلال النزاع، بما فيهم قادة بارزون من المستوييْن الأول والثاني، وقد أثَّرت هذه الخسائر سلبًا على الهيكل التنظيمي للحزب وقدرته على إدارة العمليات الميدانية.[1]
وفي حادثةٍ غير مسبوقة، نفَّذت إسرائيل اختراقًا أمنيًّا، عبْر أجهزة البيجر التي يستخدمها عناصر من حزب الله في انفجار متزامن؛ أسفر عنه مقتل 9 أشخاص، وأُصيب ما يقرب من 3 آلاف آخرين.
استهداف القيادة: شكَّلت عمليات اغتيال قيادات بالحزب، وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصر الله و”صفي الدين هاشم” المرشح لخلافته، ضربةً قويةً للحزب؛ حيث فقد قادته المتمرسين في إدارة الأزمات وبناء التحالفات، وهذا الأمر أدّى إلى حالةٍ من الفوضى والانقسامات الداخلية حول القيادة البديلة، وبالتالي أضعف المركز السياسي للحزب ومكانته ضمن الساحة اللبنانية، وقد نتج عن هذه التطورات فراغٌ قياديٌّ يصْعُبُ التغلُّب عليه؛ بسبب نقص الشخصيات الكاريزمية والخبرة المتاحة للقيادة الحالية؛ حيث لم يتمكن الحزب بعْدُ، من تعيين أمينٍ جديدٍ له حتى الآن، ومن هنا نشأت ضعف فعالية التنسيق بين الحزب وحلفائه، وزادت احتمالات الانقسامات والصراعات للسيطرة داخله، ومع غياب شخصية نصر الله المؤثرة، بات الحزب تحت ضغطٍ متزايدٍ من القُوَى السياسية اللبنانية، التي ترى فُرْصةً للحدِّ من نفوذه ونزْع سلاحه وتقليل دورها السياسي بشكلٍ عامٍ.
تدمير البنية التحتِيَّة العسكرية:قامت إسرائيل باستهداف مواقع تخزين الأسلحة والمقرات الأساسية للحزب، بالإضافة إلى شبكة الأنفاق التي استخدمها لنقل الذخائر والجنود، ووفقًا لمختبر المدن في بيروت التابع للجامعة الأميركية، فقد تسبَّبت الغارات الجوية الإسرائيلية في تدمير ما لا يقل عن 262 مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الرئيسي لـ”حزب الله”، كما تكبَّد الجيش الإسرائيلي أضرارًا كبيرةً في القُرَى والبلدات الواقعة بسهل البقاع وجنوب لبنان اللتين تقعان تحت سيطرة الحزب؛ ما أدى إلى خسارة جزءٍ كبيرٍ من ترسانته العسكرية وتراجُع قدراته اللوجستية.[2]
تراجُع الدعم الشعبي: أثّرت الحرب الإسرائيلية بشكلٍ ملحوظٍ على الوضع الداخلي في لبنان؛ حيث واجه “حزب الله” انتقادات متزايدة سواء شعبيًّا أو سياسيًّا؛ بسبب تحميله المسؤولية عن الدمار والخسائر التي تعرَّضت لها البلاد نتيجة لسياساته المختلفة، هذا الانخفاض في التأييد الشعبي أثَّر سلبًا على موقع الحزب السياسي داخل البلاد.
التحديات اللوجستية وتأثيرها على التحالفات: زادت صعوبة وضع الحزب؛ بسبب انقطاع خطوط الإمداد القادمة من إيران، عبر سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد، وبات الحزب يواجه الآن تحديات حقيقية، حيال إعادة بناء قوته العسكرية؛ نتيجةً لهذه العزلة المتزايدة، وأيضًا نقْص القدرة على دعم حلفائه الإقليميِّين، مثل حماس والجماعات المرتبطة به بسوريا واليمن؛ ما أثَّرَ سلبًا على دوره كعنصرٍ رئيسيٍّ ضمن محور المقاومة.[3]
ومن ثمَّ، شكَّلت الحرب الإسرائيلية ضربةً قاصمة لحزب الله بجميع الجوانب؛ ما وضعه أمام تحديات جسيمة لاستعادة نفوذه هيكلًا عسكريًّا وسياسيًّا وسط تغيرات محلية وإقليمية معقدة.
تداعيات سقوط نظام بشار الأسد على حزب الله:
يمثل انهيار نظام بشار الأسد تحدِّيًا وجوديًّا لـ”حزب الله”، الذي فقد شريكًا إستراتيجيًّا ووسيلة حيوية للإمدادات، يحمل هذا التطور مفاهيم عميقة، خاصَّةً أن الحزب اعتمد على العلاقة مع النظام السوري كجسرٍ بالغ الأهمية يربطه بإيران وبقية فصائل “محور المقاومة”، وبات من الصعب على إيران نقْل الأسلحة إليه عبْر الأراضي السورية؛ مما يجعل الحزب في موقف انفرادي ضمن الساحة اللبنانية، وهو ما يمكن أن يؤثر سلبًّا على قوته داخليًّا وإقليميًّا، كما تتعلق التأثيرات بجوانب مالية أيضًا؛ حيث تشير التقارير إلى أن “حزب الله” استخدم الأراضي السورية مسارًا لتهريب البضائع والمخدرات، مقدمًا بذلك مصادر تمويل ضرورية له، ما يَعْنِي بوضوحٍ أن هناك انقطاعًا كاملًا للجسر الإيراني الممتد من العراق إلى سوريا ثم إلى لبنان؛ ما يؤدي أيضًا إلى فصْل “حزب الله” عن الداخل السوري ومنْع المعابر البرية التي كانت تُستخدم بكثرة لتبادل الدعم مع الحكومة بالمقاتلين والأسلحة والذخائر وأنواع متنوعة من الإمدادات.
من جانبٍ آخر؛ كانت معركة حمص نقطة تحوُّلٍ مهمة في الصراع السوري؛ إذ تتمتع المدينة بأهمية إستراتيجية؛ بسبب قربها من الحدود اللبنانية، واعتبر “حزب الله” هذه المنطقة ممرّ إمدادٍ رئيسيٍّ له، وجزءًا لا يتجزأ من المشروع الذي أطلقه بشار الأسد في 2016 والمعروف بـ “سوريا المفيدة”، وقد أرسل الحزب نحو 1200 مقاتل لحماية المدينة، بينما كان الأمين العام لـ”حزب الله”، نعيم قاسم، قد صرَّح في خطابه الأخير، بأن الحزب لن يسمح مرةً أُخرى بسقوط سوريا بيد الجماعات المسلحة، وأنه مستعدٌّ لدعم ذلك، وبالنظر إلى نتائج المعركة، فقد تبيَّن أن “حزب الله” يُعدُّ واحدًا من أبرز الخاسرين فيها؛ حيث فَقَدَ نفوذه في الأراضي السورية وتراجع على حدود لبنان؛ ما أثَّر على قدراته العسكرية والسياسية سلبًا، وتشير المعلومات الأمنية إلى أنه بعد تقدُّم قوات المعارضة باتجاه دمشق وحمص، قام الحزب بسحْب معظم عناصره مع بقاء عددٍ محدودٍ بالقرب من الحدود اللبنانية، مثل القصير والقلمون الشرقي، وتزايدت التوقُّعات حول أن انسحاب الحزب قد ينعش النقاش، بشأن ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، بموجب القرار الدولي 1680؛ ما سيؤدي بدوره لجدل داخليٍّ بشأن السيادة والمعابر التي يسيطر عليها الحزب.[4]
حزب الله ومعادلة السيطرة على الاستحقاق في لبنان:
منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، تمكَّن “حزب الله” من السيطرة على قرار الانتخابات الرئاسية، عبر ترسيخ معادلة “إمَّا الرئيس الذي أختاره أو الفراغ”؛ ما أدى إلى تعطيل الانتخابات لفترات طويلة، كما حدث قبيل انتخاب ميشال سليمان، بعد أحداث السابع من مايو 2008، وميشال عون بعد انقطاع دام عاميْن ونصف، ومع تغيُّر الظروف الإقليمية والمحلية، مثل تأثير الحرب الإسرائيلية وانهيار تحالفاته كالنظام السوري وتزايُد الضغوط الدولية، تضاءل دور “حزب الله” وحلفائه لرؤية، أن التعطيل البرلماني لم يعُدْ سهلًا عليهم، خاصَّةً مع ابتعاد “التيار الوطني الحر” وتحوُّل مواقف كتل برلمانية، مثل “اللقاء الديمقراطي” و”الاعتدال الوطني”، وبالتالي أصبح الحزب غير قادر بمفرده على تعطيل جلسات انتخاب الرئيس، وأصبح مُضطرًا للتكيُّف مع المعطيات الجديدة، وفي هذا السياق، يسعى رئيس مجلس النواب نبيه بري لتحقيق توافقٍ واسعٍ حول اختيار رئيسٍ جديدٍ يُنتخب بأغلبية الثلثيْن؛ لضمان تمثيله لجميع المكونات اللبنانية ولتجنُّب المزيد من الشلل السياسي، خصوصًا وسط الدعوات لتسليم الجيش اللبناني مهمة الدفاع، والبدء بإعادة بناء الدولة، وعبَّر “بري” عن تفاؤله عبْر تصريحاته الأخير، باحتمال إجراء الانتخابات الرئاسية خلال الجلسة المُقررة في 9 يناير 2025،[5] ما يجعل من جلسة التاسع من يناير المقبل، والتي ستعقد بعد حوالي أسبوعيْن من الآن، جلسة حاسمة لإنهاء الشُّغُور المستمر في قصر “بعبدا” منذ 26 شهرًا.[6]
الخيارات المستقبلية أمام حزب الله:
بعد الأضرار التي تكبَّدها حزب الله نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة وسقوط نظام بشار الأسد، يجد الحزب نفسه أمام خيارات قليلة ومعقدة، تحتاج إلى توازن بين طموحاته الإقليمية والواقع الداخلي، ويمكن تلخيص خياراته المستقبلية في عدة اتجاهات رئيسية:
إعادة بناء القدرات العسكرية وتعزيز التحالفات:سيعمل حزب الله على إصلاح قدراته العسكرية وهياكله التنظيمية، التي تأثرت بشكلٍ كبيرٍ، سواء من خلال جذْب مقاتلين جُدُد أو تطوير تقنيات دفاع حديثة لتعويض ما فقده، وقد يسعى لتعويض الانقطاع في دعم إيران عبْر شبكات تهريب إقليمية أو الاعتماد على موارد محلية، بالتوازي، سيبذل الحزب جهودًا لبناء تحالفات جديدة لسدِّ الفجوة الناتجة عن فقدان دعم نظام الأسد، وقد تشمل هذه التحالفات فتْح قنوات تواصل مع الجماعات المسلحة في العراق واليمن، مع الحفاظ على علاقة إستراتيجية قوية مع إيران.
تعزيز الحضور السياسي ومعالجة القضايا الداخلية:يدرك حزب الله جيدًا أهمية تحسين صورته لدى الجمهور بعد الانتقادات الواسعة التي واجهها؛ بسبب أزماته الاقتصادية والسياسية؛ لذا قد يركز على توسيع نفوذه داخل البرلمان اللبناني وتقوية علاقاته مع القوى السياسية الأخرى، بينما يسعى لتخفيف الانقسامات الطائفية، وفي الوقت ذاته، قد يشجع خطابًا سياسيًّا أكثر اعتدالًا يلامس القضايا الوطنية العامة؛ ليُقلِّلَ من التوترات ويعيد كسْب الثقة الشعبية.
إعادة صياغة الدور الإقليمي والتكيُّف مع المتغيرات:مع تراجع تأثيره الإقليمي؛ بسبب ضعف تحالفاته ونقْص موارده، قد يجد الحزب نفسه مضطرًا لتخفيض انخراطه في الصراعات الإقليمية، مثل سوريا واليمن وغزة، بدلًا من ذلك، يمكن أن يتبنَّى نهْجًا أكثر حذرًا في دعمه لحلفائه، مركزًا على تعزيز نفوذه في لبنان كأولويةٍ أساسيةٍ، هذا التوجُّه قد يرتبط بمحاولته التكيُّف مع الضغوط الدولية من خلال تقديم تنازلات مدروسة، مثل تقليل مظاهر تسليحه أو الدخول في تسويات سياسية، تهدف إلى تخفيف العقوبات المفروضة عليه.
التكيُّف مع الضغوط الدولية والانفتاح الجزئي: في ظل استمرار الضغوط الدولية، قد يكون مُحتمًا على حزب الله تقديم تنازلات محدودة لضمان بقائه، وقد يتضمن ذلك التعاون مع المجتمع الدولي بشأن قضايا أمنية أو اقتصادية معينة، وقد يشمل هذا القبول بتفاهمات تخُصُّ مستقبل سلاحه أو تقليص قدراته العسكرية مقابل الحفاظ على دوره السياسي في لبنان، وعلى المدى البعيد، قد يسعى الحزب لدمْج إمكانياته العسكرية ضمن إطار الدولة اللبنانية كوسيلة للحفاظ على شرعيته وتقليل الضغوط الخارجية التي تواجهه.
خلاصة القول:
بعد سقوط نظام الأسد والهزيمة العسكرية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية، يجد حزب الله نفسه أمام أكبر تحدياته منذ نشأته، ومع انخفاض الدعم الإقليمي والدولي وزيادة الضغوط المحلية عليه، يبدو أن الحزب أمام مفترق طرق حاسم، وباتت خيارات المستقبل التي أمامه تعتمد على مدى قدرته في التوازن بين التحديات الداخلية والضغوط الدولية؛ إمَّا الاندماج كجزءٍ من الدولة اللبنانية كقوة سياسية سلمية، أو مواجهة ضغوط قد تؤدي لمزيد من الانهيارات أو الأزمات الداخلية، وفي خِضَمِّ هذه التغيُّرات الكبيرة يبقى مستقبل الحزب مرهونًا بقدرته على التأقلُم مع الواقع الجديد والاستجابة لتطلُّعات الشعب اللبناني، الذي أصبح غير قادر على تحمُّل مغامرات عسكرية جديدة.
المصادر:
[1] ما حجم الخسائر البشرية والمادية جراء الحرب الإسرائيلية على لبنان؟، صحيفة الشرق الأوسط، نوفمبر ٢٠٢٤.
