المقالات
نحو نظامٍ سياسيٍ جديدٍ في سوريا إدارةُ النزاعاتِ وبناء الدولة عبر آليات شاملة
- يناير 11, 2025
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
مصطفى مقلد
باحث فى العلوم السياسية
مقدمة:
مع تصاعدِ الحاجةِ إلى تحقيقِ الاستقرار وبناء السلام المُستدام، تبرزُ أهميةُ إعادة تصميم النظام السياسي بما يضمنُ الشموليةَ، وتعزيزَ الهويةِ الوطنيةِ الجامعة، وتقليل التوترات الناتجة عن الانقسامات الأيديولوجية والعرقية، في ظل الظروف الحالية، يصبحُ البحثُ عن حلولٍ سياسيةٍ شاملةٍ تتبنى الحوار والمساومات بين الأطراف المختلفة ضرورة ملحّة لإعادة بناء مؤسسات الدولة وضمان حقوق جميع المواطنين.
قرارٌ مؤجل:
منذُ اللحظاتِ الأولى لتشكيلها، أعلنتْ حكومةُ تصريف الأعمال السورية أن مهمتها تقتصرُ على إدارة شؤون الدولة لتجنّبِ انهيارِ مؤسساتها، محددة أن ولايتها ستستمر لثلاثة أشهر فقط، على أن تنتهيَ في الأول من مارس 2025، عقب انعقاد مؤتمر الحوار الوطني المرتقب وتشكيل حكومة تكنوقراط أو انتقالية، وكان من المقررِ أن يُعقدَ مؤتمرُ الحوار الوطني في الأسبوع الأول من العام الجديد، إلا أن ذلك لم يتحققْ. وفي الأثناء، اتخذتْ حكومةُ .تصريف الأعمال قراراتٍ أثارت الجدل، حيث وُصفت بعضها بأنها من صلاحيات الحكومات الرسمية، مثل ترفيع ضباط رفيعي المستوى وتغيير المناهج الدراسية، وهي إجراءاتٌ لاقتْ ردودَ فعلٍ متباينة بين السوريين، بين مؤيد ومعترض.[1]
وتمَّ تبريرُ تأجيل مؤتمر الحوار الوطني بقول وزير الخارجية السوري “أسعد الشيباني”: إن دمشق ستتريثُ في تنظيم المؤتمر الوطني حتى يتسنّى تشكيلُ لجنةٍ تحضيريةٍ موسعةٍ تستوعب التمثيل الشامل لسوريا من كل الشرائح والمحافظات.[2]
مخاوفُ مشروعةٌ:
قد تلجأ “هيئة تحرير الشام” إلى الممارسات الاستبدادية والإكراه لقمعِ الآخرين كأداةٍ لإدارة الصراع، تأسيسا على نجاحها العسكري في إسقاط الأسد، الأمر الذي يشكلُ تحديًا سياسيًا كبيرًا السوري الطامح في التنمية والاصلاح السياسي.
ويتسمُ النهجُ الاستبداديُ في إدارة الصراع بتجنّبِ المفاوضات الحقيقية بين الأطراف المتنازعة، وتجاهلِ الدعوات لمعالجة الأسباب الهيكلية لاندلاع الصراع، ويعتمدُ هذا النهْجُ على استخدام أدوات الإكراه من قبل الدولة.
تطلعاتٌ واعتباراتٌ:
تمتلكُ هيئةُ تحرير الشام فرصةً حقيقيةً في إدارة الصراعات المستمرة وبناء الدولة، وتتمتع بنفوذ يجعلها تشكل مسارات ومآلات الانتقال من الفوضى إلى السلام، ويبدأ ذلك بالانخراط في مفاوضات مع باقي الأطراف السياسية بهدفِ تحقيقِ الاستقرار عبر التعهد بإقامةِ دولةِ المواطنة التى تَكفلُ الحقوقَ والحرياتِ لكل مواطنيها، إنطلاقا من الإصلاح الدستوري، وسيادةِ القانون، وتقاسمِ السلطة، والديمقراطية الانتخابية، دون إغفال الهياكل غير الرسمية للسلطة التي تعتبرُ جوهرَ عملية إدارة الصراع، حيث تشكلُ هذه الهياكل إطارًا غيرَ مُعلنٍ أو غير مُؤسسي للتأثير واتخاذ القرار. تلك الهياكل التي تعتمدُ على شبكةٍ معقّدةٍ من العلاقات الشخصية، والمصالح المشتركة، والتحالفات التي غالبًا ما تكونُ مبنيةً على أسسٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو قبليةٍ أو حتى اقتصادية، فهي الضمان لتعاون النخب السياسية وتفاعلها مع بعضها البعض بدلاً من محاولة تحقيق مصالحها من خلال استخدام العنف.
ففي السياقات التي لا يعكسُ فيها اتفاق السلام وتوزيع الموارد توازن القوى الأساسي، بما يعني استبعادَ النخب القوية أو تجاهلَ مصالحها، فإن خطرَ عدمِ الاستقرار والعنف يظلُ مرتفعًا، لذا فإن المساومةَ الناجحةَ تعكسُ تخصيصَ وتوزيعَ الفرصِ والموارد بشكل متسق مع الواقع السياسي والديموغرافي، بالتالي فإن الاستقرارَ يتحددُ من خلال نتائج مساومة النُخبِ ومدى بناء الثقة في الاتفاق السياسي بين الأطراف.[3]
الخريطةُ الديموغرافيةُ والسيطرة العسكرية للأطراف المحلية في سوريا:
تتميزُ سوريا بتركيبةٍ ديموغرافيةٍ غنيةٍ ومتنوعةٍ، حيث تضمُ أعراقاً وطوائفَ متعددةّ تعيش في مناطق جغرافية متباينة. هذه التركيبة تعكس تنوعاً ثقافياً واجتماعياً يُمكن أن يكونَ مصدرَ قوةٍ واستقرارٍ إذا أُحسن استيعابه ضمن إطار سياسي مرن وشامل.
يشكّلُ الأكرادُ ثاني أكبر عرقية في سوريا بعد العرب، ويتوزعون في مناطق الحسكة والقامشلي وعين العرب وعفرين وأحياء في دمشق وحلب، وتشكلُ الطائفةُ العلويةُ ثاني أكبر طائفة في سوريا، ويتركزُ العلويون في المناطقِ الساحلية للبلاد، لا سيَّما في مدينتي اللاذقية وطرطوس، وتوجدُ نسبةٌ أقل منهم في محافظات حمص وحماة، ويعد المسيحيون ثالث أكبر طائفة في سوريا، وتتركز هذه الطائفة في محافظات حلب والحسكة ودمشق وحمص وطرطوس.[4]
والدروز يتركزون بشكلٍ رئيسٍ في محافظات ريف دمشق وإدلب والسويداء والقنيطرة، ويتركزُ التركمانُ، بشكلٍ رئيسيٍ، في المناطق الشمالية، وتحديدا في جبل التركمان في اللاذقية بالقرب من الحدود التركية، بالإضافة إلى حلب وإدلب وطرطوس، أما الأرمن، فيتوزعون في مدن حلب والقامشلي وعين العرب ودير الزور ودمشق.[5]
وبالنسبة لخريطة السيطرة السياسية والعسكرية اختلفتْ بعد سقوط الأسد، على أنها قد تتغيرُ مجدداً ومع ذلك، فحاليا باتت تسيطرُ هيئةُ تحرير الشام سيطرةً متفاوتةً في مدن إدلب وحلب وحماة وحمص ودمشق وطرطوس واللاذقية ودير الزور وبعض المناطق في الجنوب السوري، وتنشط قوات “قسد” في المناطق الكردية في شمال شرق سوريا، الجيش الوطني السوري، تأسسَ في إطار “عملية درع الفرات” التي شنتها تركيا في سنة 2017 لتشكيلِ منطقةٍ عازلةٍ في شمال سوريا ضد الفصائل الكردية التي تصنفها أنقرة بـ”الإرهابية”، فيما تسيطر فصائل “رجال الكرامة” الدرزية على مدينة السويداء، وهناك “الجيش السوري الحر” الذي ينشط بالأساس في شرق سوريا بدعمٍ من الجيش الأمريكي. وبسقوط الأسد، تمكّنَ من السيطرةِ على قواعده خصوصا في مدينة تدمر التاريخية في ريف حمص، كما تشكلّتْ جماعاتٌ أخرى في جنوب سوريا خصوصا في درعا وتسلم مواقع الجيش السوري بعد انهيار نظام الأسد في درعا. [6]
تتطلبُ هذه الطبيعة الديموغرافية وخريطة السيطرة العسكرية المتنوعة بناءَ نظامْ سياسيٍ مرنٍ يُتيحُ لكل المكونات التعبير عن هويتها والمشاركة في صناعة القرار الوطني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
إعدادُ دستور:
تُعدُ لحظةُ الانتقالِ لحظةً فريدةً في تجارب الدول، وتكشف عن أهمية عملية تصميم الدساتير من حيث تحديدها الفواعل الأساسية ووضع الأسس والترتيبات المؤقتة التي سيتم العمل بها حتى الانتهاء من الدستور النهائي، وتحديد الإطار الزمني لوضع الدستور، خاصةً أن عمليةَ تصميمِ الدستور هي عمليةٌ سياسيةٌ اجتماعيةٌ أكثر منها قانونية، فهي تتطلبُ قدرًا كبيرًا من المساومات والمفاوضات وتحقيق التوازن والتوافق والمواءمة بين الفواعل والتكوينات السياسية والاجتماعية القائمة والتي تراعي وضْعَ مجموعةٍ من الضمانات الدستورية التي تحدّ من قدرةِ الأغلبية المنتخبة على الاستئثار بالسلطة.
ومن أهم هذه الإصلاحات الدستورية تلك التي تدعمُ التعدديةَ والدفعَ بالفواعلِ السياسية لتشكيلِ تحالفاتٍ عابرةٍ لخطوط الانقسام المجتمعي، ومن هنا يكون الاهتمام بمراجعة قوانين تنظيم الأحزاب والانتخابات وتعديلها، ومع ذلك، فإن تلك المسارات لا يحكمها ترتيبٌ معينٌ، بل يمكنُ إعطاءُ أولويةٍ لمسارٍ على حساب آخر وفق ما تقتضيه الضرورات الآنية، فقد يسبق مراجعة قوانين تنظيم الأحزاب عملية صياغة الدستور.
وفي سياق المرحلة الانتقالية في سوريا، فمن المهمِ تحديدُ أي الخيارات أجدى، أيكونُ الدستورِ اتفاقًا بين الفاعلين الرئيسين، أم يقوم على التشريع القائم بذاته في ظل تأجل عقْدِ المؤتمر الوطني أو لجنة تأسيسية للدستور في ضوء الحاجة لبنيةٍ تشريعيةٍ تواكبُ الضرورات الإدارية والتنفيذية الحالية، أم إصدار إعلان دستوري يكونُ جزءًا من ترتيباتٍ أخرى، ويعتمد ذلك على الممارسة السياسية، على أن يكونَ المسارُ الدستوريُ انعكاسا للتفاهمات السياسية وليس أداةَ نفوذٍ يستخدمها طرف في مواجهة الأخر، حتى لا تصبحُ العمليةُ السياسيةُ شكليةً ويتحول الصراع الى أزمة حكم.
كذلك فإن الحكمةَ من وجودِ الدستور هو تنظيمُ الحياةِ السياسيةِ والمجتمعِ، وعليه فيصعب الاستمرار لفترة مع تجميد أو إلغاء دستور، وفي هذا السياق تم انتقاد تصريحات “أحمد الشرع” عن أن صياغةَ الدستور قد تستغرقُ “ثلاث سنوات”[7]. فعلى جانبٍ آخر، أشار الائتلاف السوري الوطني إلى أن كتابةَ دستورٍ جديدٍ لن تستغرقَ أكثر من عام، إذ إن هناك فصولا جاهزة في الدستور “فالعملية لن تنطلق من الصفر”.[8]
نظامُ الحكم:
النظامُ الرئاسيُ يُعتبر خيارًا وجيهًا في الدول التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار السياسي والقيادة القوية، خاصةً في السياقات التي تتطلبُ وضوحًا في المسؤوليات والصلاحيات. ومع ذلك، فإن نجاحه يعتمد على تصميم آليات تضمن فصل السلطات، وتعزز الرقابة والمساءلة، وتمنع تركيز السلطة في يد فرد أو جهة واحدة.
النظامُ الرئاسي:
يقومُ على مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية الذي ارتبط بالفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة ومنْعِ الاستبداد بالسلطة، على أن يُنتخب الرئيس مباشرة من الشعب، وهو الذي يعين الوزراء، فيشكل حكومة تنفذ برنامجه السياسي وتكون مسؤولة أمامه.[9]
وبالعودةِ للواقعِ السوري، فسوريا بما تتسمُ به من تركيبةٍ اجتماعيةٍ ثريةٍ، يمكن أن يسهم النظام الرئاسي في تقليل الاستقطاب السياسي عبر تقديم رئيس يمثل الأمة بأكملها بدلاً من أن يكون رهينًا لتوازنات القوى في البرلمان، ويمكنُ تصميمُ النظام الرئاسي بحيث يتم انتخاب الرئيس على أساس أغلبيةٍ واسعةٍ تشملُ مختلف المناطق أو الطوائف، مما يعززُ التوافقَ الوطني. مثل إندونيسيا ونيجيريا، حيث تعتمدان نظامًا انتخابيًا يُلزم المرشحين الرئاسيين بالحصول على أغلبية الأصوات في عددٍ من الولايات، مما يُشجع على كسب دعم متنوع.
كما يوفرُ النظام الرئاسي فرصةً لوجود زعيمٍ قويٍ يمكنه تحديدُ مسارٍ سياسيٍ واضحٍ وتحقيق أهداف محددة، ويقلل تأثير الأحزاب المتعددة وتأثير التحالفات البرلمانية المتقلبة، حيث لا تعتمد الحكومة على التحالفات للحصول على الثقة.
تقاسمُ السلطة:
تَقاسم السلطة وفقَ النهج الاندماجي يُركز على تصميم مؤسساتٍ سياسيةٍ تُشجع النخبَ السياسيةَ على التعاون والاعتدال بدلاً من تعميق الانقسامات القائمة، فيُسهم هذا النهجُ في اتخاذ قراراتٍ وسياساتٍ تعززُ الاستقرارَ السياسي من خلال بناءِ هويةٍ وطنيةٍ جامعة عبر إعادة تشكيل البُنى المؤسسية والثقافية التي تُكرس تسييس الانقسامات الأيديولوجية أو العرقية، ويتم ذلك عبر توفير حوافز مؤسسية تُلزم القادة السياسيين باتباع أساليب توفيقية والعمل بشكل تعاوني مع الأطراف الأخرى.
تشملُ هذه الحوافز أدواتٍ مثل النظم الانتخابية المصممة لتشجيع الشمولية، والأنظمة الحزبية التي تدعمُ التحالفات العابرة للطوائف، والسياسات العامة التي تُقلل من الاستقطاب السياسي، مما يُسهمُ في بناء نظامٍ سياسيٍ أكثر استقراراً ووحدة.
فيمكنُ إنشاءُ أحزابٍ سياسيةٍ عابرة للانقسامات الأيديولوجية أو العرقية، وتعزيز وجود مؤسسات إدارية مهنية لا تتأثر بالمكايدات السياسية.
ورغم المزايا العديدة لهذا النهج، إلا أنه يواجهُ تحدياتٍ كبيرةً، مثل مقاومة النخب التي تستفيد من تسييس الهويات العرقية أو الايديولوجيات السياسية، بالإضافة إلى التحديات المتعلقة بفقدان الثقة الأولية بين المجموعات المختلفة، ويتطلب هذا النموذج جهوداً طويلة الأمد لضمان نجاحه واستدامته.
شكل البرلمان:
إن اقتصارَ عضويةِ البرلمان على الأحزاب السياسية يُعد خطوةً ضروريةً لتعزيز الفعالية السياسية، وضمان التنافس على أساس رؤى وبرامج وطنية واضحة، عبر اشتراط الترشح من خلال الأحزاب، فقد يعكسُ وجودُ المستقلين في البرلمان تباينًا كبيرًا في وجهات النظر الفردية، ما قد يؤدي إلى صعوبة التوصل إلى توافقٍ أو اتخاذ قرارات فعّالة، وغالبًا ما يفتقرون إلى الدعم المؤسسي أو القدرة على تنفيذ سياسات طويلة المدى، مما يجعلُ تأثيرهم محدودًا داخل البرلمان، ويعتمدون في الغالب على رؤى فردية بدلاً من برامج سياسية شاملة.
ويُتيح اقتصارُ البرلمانِ على الأحزاب للمواطنين فهمَ الخياراتِ السياسيةِ المطروحة بشكلٍ أوضح، حيث تتنافس الأحزاب ببرامج سياسية محددة ومعلنة، ووجود الأحزاب فقط في البرلمان يعني أن العمل السياسي يتم بشكل منظم ومؤسسي، مما يُسهم في اتخاذِ قراراتٍ جماعيةٍ مدروسةٍ وفعّالة، ويؤدي تقليص عدد الجهات السياسية المتنافسة إلى تركيز الجهود على عدد محدود من الخيارات ذات القاعدة الشعبية الواسعة، ويُسهمُ ذلك في تحقيق الاستقرار السياسي، وتجنّبِ الانقسامات الناتجة عن تعدد الأطراف السياسية الصغيرة أو المستقلة، ويُتيح ذلك قدرة أكبر على مراقبة أداء الحكومة واتخاذ مواقف موحدة تعكس مصالح الناخبين.
النظامُ الحزبيُ:
في إطار إعادةِ بناءِ النظام السياسي في سوريا، يُعد وضعُ نظامٍ حزبيٍ قويٍ وفعال أمرًا ضروريًا لضمان استقرار العملية السياسية وتحقيق التنمية المستدامة، ومن بين الآليات المقترحة لتحقيق ذلك، يأتي تطبيق عتبة انتخابية بنسبة 5% لدخول البرلمان كأداة فعالة تهدف إلى تعزيز العمل السياسي المنظم، وتقليل التشرذم البرلماني، وضمان وجود أحزاب سياسية قوية وقادرة على قيادة التحولات المستقبلية.
“العتبة الانتخابية” تمنعُ الأحزابَ الصغيرةَ ذات التأثير المحدود من دخول البرلمان، مما يُقلل من تفتت المقاعد البرلمانية وصعوبة تشكيل الحكومات، يُساعد ذلك على تسريع عملية اتخاذ القرار وتقليل الخلافات التي قد تُعطل سير العمل التشريعي، وتُحفز العتبة الانتخابية الأحزاب الصغيرة ذات الأهداف المتقاربة على الاندماج في كيانات أكبر وأكثر تأثيرًا، ويؤدي ذلك إلى ظهور أحزاب وطنية شاملة تجمع مختلف الأطياف السياسية وتعبر عن قاعدة جماهيرية واسعة.
إن بناءَ مؤسساتٍ حزبيةٍ قادرةٍ على التعامل مع تعقيدات المجتمعات التعددية من خلال صياغة الأطر التنظيمية، وتعزيز الشمولية، وبناء ثقافة حزبية وطنية، يمثل ضرورة لبناءِ مجتمعٍ متكاملٍ، تقومُ المنافسةُ فيه على تقديمِ رؤى برامجية توضحُ خططَ التنمية، فتهيئة البيئة السياسية لتبنّي أحزاب البرامج بدلا عن أحزاب أيديولوجية يساهم في خفض التوترات السياسية.
ومن ناحيةٍ أخرى، يمكنُ للنُخبِ السياسية أن تُصممَ نظامًا حزبيًا يمنعُ تأسيسَ الأحزاب على أساسٍ عرقيٍ أو ديني، مما يُسهم في تقليل التوترات وتعزيز الوحدة الوطنية، بذلك تُسهم النخبةُ في تحويلِ الأحزاب إلى منصات تضمن التمثيل المتساوي، ونجاح هذا الدور يعتمد على رؤية النخبة واستعدادها لتبني سياسات تدعم الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية.
النظامُ الانتخابيُ:
النظمُ الانتخابيةُ تُعتبر أداةً حيويةً لإدارة التعددية العرقية وتعزيزِ التمثيلِ السياسي، ويجب أن يتمَ تصميمها بطريقةٍ تُشجع القادة السياسيين على بناء تحالفاتٍ عابرةٍ الأيديولوجيات السياسيةِ أو الإنتماء العرقي، مما يعززُ من احتمالية تبنّي سياساتٍ تعاونية تُقلل من حدة الاستقطاب السياسي. فعلى سبيل المثال، يمكن وضع قوانين انتخابيةٍ تُشجعُ على تشكيل أحزابٍ سياسيةٍ متعددة الأعراق، أو تُمنح مكافآت سياسية للأحزاب التي تحصل على دعم واسع من مختلف المكونات العرقية.
ويتطلبُ اختيار النظام الانتخابي دراسةً دقيقةً للسياق السياسي والاجتماعي للدولة لضمان تحقيق التمثيل العادل، تعزيز الديمقراطية، وتفادي النزاعات السياسية من خلال مراعاة جميع المتغيرات والجوانب الإدارية.
وعليه، فإن نظامَ “التصويتِ التفضيليِ في دائرة حزبية مغلقة” يُعتبرُ الخيارَ الأمثلَ لدعم تقاسم السلطة الاندماجي في سوريا، حيث يُشجع الناخبين والقادة السياسيين على تجاوز الانقسامات العرقية والطائفية والعمل نحو توافق وطني.
ففي هذا النظام، يتمُّ التصويتُ على قوائم حزبية فقط، حيث يحددُ الحزبُ ترتيبَ مرشحيه مسبقًا داخل القائمة، حيث يُتيح هذا النظامُ للناخبين التصويت بناءً على تفضيلاتهم للقوائم الحزبية، وليس الأفراد، مما يُعزز الطابع الجماعي للعملية السياسية.
وتُقسم البلادُ إلى دوائرَ انتخابيةٍ متعددةٍ المقاعد، ويتمُ تخصيصُ عددٍ معينٍ من المقاعد لكل دائرة، وتُقدمُ الأحزابُ قوائمَ مغلقةً تحتوي على مرشحين مرتبين مسبقًا وفقًا لأولويات الحزب، وعند التصويت، يُطلب من الناخبين ترتيب القوائم الحزبية حسب تفضيلاتهم، مثل اختيار القائمة الأولى المفضلة، ثم الثانية، وهكذا.
عند فرزِ الأصوات، يتم أولاً احتساب التفضيلات الأولى لكل قائمةٍ، إذا لم تحصلْ أيُ قائمةٍ على الأغلبية المطلقة (50% + 1)، تُستبعد القائمة التي حصلت على أقل عدد من الأصوات، وتُعاد توزيع أصواتها بناءً على التفضيلات الثانية، وتستمر هذه العملية حتى تحصلَ إحدى القوائم على الأغلبية المطلوبة، وبمجرد تحديد القائمة الفائزة، يتمُ توزيعُ المقاعد داخل القائمة بناءً على ترتيب المرشحين المحدد مسبقًا من قبل الحزب.
يُوفر هذا النظام مزايا عدة، منها تعزيزُ البرامج الوطنية، حيث يُركز الناخبون على اختيار الأحزاب بناءً على رؤيتها وبرامجها بدلاً من الأفراد، كما يُقلل من الاستقطاب السياسي من خلال تشجيع الأحزاب على تقديم برامج شاملة تُلبي احتياجاتٍ مختلف الفئات لضمان الحصول على التفضيلات اللاحقة. بالإضافة إلى ذلك، يُعززُ التوافقُ الوطني من خلال التفضيلات الثانية والثالثة.
ومع ذلك، يواجهُ النظامُ تحدياتٍ مثل تعقيد التصويت وفرز الأصوات، و لمعالجة هذه التحديات، يجبُ تنفيذُ حملاتِ توعيةٍ شاملةٍ لتبسيط العملية الانتخابية، وتطوير بنية تحتية انتخابية حديثة وتدريب العاملين على نظم الفرز الآلي لضمان الدقة وسرعة الفرز، بجانب اعتماد قوانين داخلية شفافة للأحزاب لضمان تمثيل عادل لجميع المجموعات داخل الحزب.
بشكلٍ عام، يُعد نظامُ الأغلبيةِ التفضيلية في دائرةٍ حزبيةٍ مغلقة نموذجاً فعالاً لتعزيز الحياة الحزبية والتركيز على البرامج الوطنية، وهو ملائم للسياقات التي تسعى لتعزيز الأحزاب العابرة للطائفية وبناء نظام سياسي منظم وشامل.
اللجوء لتجميع الدوائر الانتخابية:
لا تعبرُ هذه الآلية عن نظامٍ انتخابيٍ معين، ومن الممكن اللجوء إليها في ظل نظمٍ انتخابيةٍ مختلفةٍ، وتعتمد على قيام المرشح أو القائمة الحزبية بالتنافس في عددٍ من الدوائر لا تتسمُ بتجاوزها الجغرافي، ويتم اختيار هذه الدوائر على أساس تمثيلها للعرقيات المختلفة، وهو ما يدفعُ المرشحين لتركيز خطابهم على القضايا الوطنية.[10]
إصلاحُ المؤسسةِ الأمنية والعسكرية:
يُعدُ إصلاحُ المؤسسةِ الأمنيةِ والعسكرية أحد الركائز الأساسية لبناء دولةٍ مستقرةٍ تتمتع بسيادة كاملة على أراضيها ومؤسساتها، ويتطلبُ هذا الإصلاحُ وضْعَ آلياتٍ تضمنُ احتكار الدولة للسلاح، بحيث تُمنع أي جهات أخرى من امتلاك أو استخدام القوة المسلحة خارج إطار القانون.
يشملُ الإصلاحُ كذلك إعادةَ هيكلةِ المؤسستين الأمنية والعسكرية لتعملان بمرجعيةٍ وطنيةٍ موحدة، تُركز على حماية الدولة ومصالحها الوطنية بعيداً عن الانتماءات الفئوية أو العرقية
أو الأيديولوجية، وهذا التوجهُ يهدفُ إلى ضمان استقلالية المؤسستين عن أي تأثيرات سياسية داخلية أو خارجية، ويُرسخ مبدأ وحدةِ القيادة داخل كل مؤسسة، مما يُجنبها الوقوع في فخ التعددية القيادية أو ما يُعرف بـ”المؤسسات ذات الأجنحة المتعددة”، التي قد تؤدي إلى تنازع الصلاحيات وغياب التنسيق الفعّال.
و قد تواجهُ الإصلاحاتُ معارضةً قويةً من قيادات المؤسسات الحالية أو من جهاتٍ مستفيدة من الوضع القائم، لذا يتطلب نجاح هذا الإصلاح إنشاء لجنة وطنية للإصلاح تضمُ خبراءَ محليين ودوليين وممثلين عن جميع الأطراف السياسية لضمان الشفافية والتوافق، وتنفيذِ إصلاحٍ تدريجيٍ يبدأ بتعزيز التدريب المهني ووضع نظم رقابة صارمة، وتعزيزِ برامج المصالحة الوطنية لبناء الثقة بين مكونات المؤسسة الأمنية والمجتمع.
ويمكن ترجمة ذلك عمليا من خلال:
-
إجراءِ مسحٍ شاملٍ للهياكل الأمنية والعسكرية القائمة لتحديد مواطن الخلل والاحتياجات.
-
بدءِ تنفيذِ إصلاحٍ تدريجيٍ يشمل توحيد القيادة العسكرية والأمنية تحت إشراف مدني.
-
إطلاقِ برامج تدريب مهني تُركز على تعزيز الكفاءة.
-
تنفيذِ برامجَ دمجٍ وإعادة تأهيل لأفراد الجماعات المسلحة ضمن القوات النظامية، مع وضع معايير واضحة للتجنيد والترقيات.
-
إطلاقِ حملاتٍ لجمعِ الأسلحةِ من الأفراد والجماعات غير النظامية، مع تقديم حوافز مالية أو برامج تأهيل اجتماعي.
-
وضعِ تشريعاتٍ صارمةٍ تُجرم حيازة السلاح خارج إطار الدولة.
-
تعزيزِ قدراتِ قواتِ الأمن الوطنية لتكون قادرة على فرض السيطرة في جميع أنحاء البلاد.
ختاما، تمرُ سوريا بلحظةٍ فارقةٍ تستدعي تسليط الضوء على المسارات الممكنة لبناء نظامٍ سياسيٍ جديدٍ، مستندةً إلى رؤية شاملة لإدارة التنوع العرقي والسياسي، مع التأكيد على ضرورة تبني آليات مستدامة لتقاسم السلطة وتعزيز الشمولية، مع التعلم من التجارب الدولية الناجحة، وهو ما يوفر فرصةً لبناء توافقٍ دوليٍ وإقليميٍ حول مستقبل سوريا السياسي، بما يسهمُ في جذب الدعم الدولي وتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.
المصادر:
[1] حكومة تصريف الأعمال السورية… لون واحد وتناقضات شتى … https://linksshortcut.com/zZMPU
[2] تركيا تهدد بعملية عسكرية جديدة في سوريا.. https://linksshortcut.com/Psoxg
[3] Christine Cheng .et al .Elite Bargains and Political Deals Project. stablisation unit.2018 P.1
[4] خريطة التوزيع العرقي والطائفي في سوريا.. https://linksshortcut.com/BrsPp
[5] نفس المصدر.
[6] سوريا بعد الأسد: ماذا نعرف عن خريطة انتشار الفصائل المسلحة.. https://linksshortcut.com/Sttio
[7] الشرع: إجراء الانتخابات وكتابة الدستور لسوريا قد يتطلب سنوات.. https://linksshortcut.com/xsnnV
[8] هل تحتاج سوريا 3 سنوات فعلا لصياغة دستور جديد؟.. https://linksshortcut.com/tNAUB
[9] أنظمة الحكم في العالم… https://linksshortcut.com/adjNl
[10] وليد قاسم، دور الهندسة السياسية في إدارة الصراع العرقي: دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، جامعة الاسكندرية، 2018، ص95.