شهدت ولاية كاليفورنيا، وبالتحديد مدينة لوس أنجلوس، منذ الثامن من يناير الجاري حرائق هائلة تعتبر الأشد والأكثر دمارًا في تاريخ البلاد. حيث أسفرت عن خسائر اقتصادية ضخمة لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل نتيجة لمثل هذا النوع من الكوارث الطبيعية، وقد امتد تأثير هذه الحرائق على جميع مناحي الحياة، بدءًا من المنازل والبنية التحتية إلى المحلات التجارية والشركات الكبرى، مما شكل تحديًا كبيرًا للإدارة الأمريكية في التعامل مع الوضع. وتأتي هذه الكارثة في وقت حساس، إذ تتزامن مع قرب تولي الرئيس المنتخب دونالد ترامب رئاسة البلاد في ٢٠ يناير القادم، وهو ما يثير التساؤلات حول كيفية تأثير هذه الحادثة على سياساته المناخية في المستقبل، وهل ستكون نقطة تحول تنعكس على إعادة النظر في مواقفه السابقة التي كانت تقلل من شأن قضايا التغير المناخي وتتعامل معها بطريقة أقل جدية من النحو المطلوب. في هذا الصدد يمكن تناول ذلك في السياق التالي.
استجابة الإدارة الأمريكية
رغم أن ولاية كاليفورنيا تُعد واحدة من أكثر الولايات تجهيزًا لمواجهة حرائق الغابات، نظرًا لتكرار وقوعها هناك، إلا أن الحريق الهائل الذي نشب مؤخرًا كشف عن التحديات غير المتوقعة التي قد تواجه حتى الأنظمة الأكثر استعدادًا. وعلى الرغم من وجود فرق إطفاء مدربة ومعدات متطورة، لم تتمكن السلطات من السيطرة على الحريق بسرعة، مما أدى إلى تفاقم الوضع وانتشار النيران على نطاق واسع، الأمر الذي أدى إلى استدعاء المساجين للمساعدة في احتواء الأزمة[1]. في هذا السياق يمكن الإشارة للتالي:-
١-محاولة حثيثة للسيطرة
منذ اللحظة الأولى لنشوب الحرائق، عملت ولاية كاليفورنيا بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية على تسخير كافة الإمكانيات المتاحة لإخماد النيران، حيث تم الدفع بفرق الإطفاء المتخصصة، كما شارك الطيران الأمريكي بفاعلية في عمليات الإطفاء من الجو، حيث استخدمت الطائرات لرش المواد الكيميائية التي تعمل على تغطية أسطح الأشجار والمباني والمواد القابلة للاشتعال، بهدف الحد من انتشار النيران. وتعكس هذه الجهود المشتركة بين الأرض والجو حجم التنسيق بين السلطات المحلية والفيدرالية لمواجهة هذه الكارثة.
٢-تعاون دولي مُلاحَظ
مع اندلاع الحرائق الهائلة في ولاية كاليفورنيا، سارعت دولتا الجوار، المكسيك وكندا[2]، إلى تقديم المساعدة للولايات المتحدة في احتواء الكارثة، حيث أرسلت المكسيك فريقًا متخصصًا من رجال الإطفاء والمنقذين لدعم عمليات الإخماد والبحث والإنقاذ، بينما قدمت كندا ٦٠ رجل إطفاء مدربًا ومعدات متطورة، بالإضافة إلى طائرات لرش المواد الكيميائية التي تحد من انتشار النيران، وتأتي هذه الجهود في سياق التعاون مع واشنطن للمساهمة في احتواء الموقف والتخفيف من الأضرار، على الرغم من استقبال هاتين الدولتين لتصريحات هجومية من قبل ترامب.
٣-صعوبات هائلة
على الرغم من الجهود المبذولة، واجهت السلطات صعوبات كبيرة أثناء التعامل مع الحرائق، حيث تمثلت أبرز هذه التحديات في نفاد خزانات المياه بسرعة، نتيجة لحجم الحريق الهائل الذي استهلك كميات ضخمة من المياه. بالإضافة إلى ذلك، شكلت الرياح القوية عائقا كبيرا[3]، حيث أدت إلى صعوبة إقلاع الطائرات المساهمة في الإطفاء، ما أثر على قدرتها على رش المواد الكيميائية بفعالية. كما أن شدة الرياح زادت من سرعة انتشار النيران، مما صعّب السيطرة على الحريق في الوقت المناسب.
خسائر اقتصادية كبيرة
وفقا للتقديرات الأولية، فإن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن هذه الحرائق الهائلة في قد تصل إلى حوالي ١٥٠ مليار دولار وهو رقم مرشح للزيادة[4]، إذ لم تنته جهود حصر الخسائر بعد، وهو الأمر الذي يبرز حجم الكارثة الطبيعية التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي بشكل عام واقتصاد ولاية كاليفيورنيا بشكل أكثر تحديدا.
ومما يزيد من تعقيد الموقف أيضا هو أن الحرائق هذه المرة لم تحدث في مناطق نائية أو أطراف كاليفورنيا كما كان يحدث في الماضي، وهو ما كان ينجم عنه حينها أضرار محدودة يمكن احتواؤها بسرعة ودون التأثير الكبير على الاقتصاد. ولكن هذه المرة، ومع توسع رقعة الحريق إلى المدن الكبرى والمناطق الحضرية، فإن الأضرار تعد غير مسبوقة. إن هذا التحول في موقع الحرائق، والذي أدى بدوره إلى التأثير المباشر على البنية التحتية الحضرية والشركات الكبرى والمنازل الفاخرة، شكل تحديًا كبيرًا للإدارة الأمريكية وأدى إلى تفاقم الخسائر بشكل أكبر. وبناءً على ما تقدم، يمكن تقسيم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن هذا الحريق إلى نوعين رئيسيين:-
١-الخسائر الاقتصادية المادية
وهي تلك الناجمة عن حرائق الغابات في كاليفورنيا، إذ تعتبر خسائر كارثية على جميع الأصعدة، حيث تم تدمير أكثر من ١٢ ألف منزل، إلى جانب العديد من المحلات التجارية والمدارس والمناطق الصناعية ووسائل النقل والمركبات، بالإضافة حجم التدمير الكبير الذي طال البنية التحتية للولاية، حيث باتت المدن والمناطق المتضررة بحاجة ماسة إلى جهود حكومية ضخمة لإعادة بناء ما دمرته الحرائق، وتشمل تلك الجهود أيضا إعادة تأهيل الطرق والجسور وأنظمة الكهرباء والمياه التي تعرضت لانهيار كامل. فضلاً عن ذلك، تحتاج الدولة إلى بناء بنية تحتية جديدة أكثر قدرة على الصمود في مواجهة أي نوع من مثل هذه الكواراث الذي قد يحدث في المستقبل. وتجدر الإشارة إلى أن الخسائر جراء هذه الحرائق وفقا لبعض التقديرات تُقدر بحوالي ٤% من الناتج المحلي الإجمالي لولاية كاليفورنيا[5]، مما يبرز تأثير الكارثة على الاقتصاد المحلي بشكل غير مسبوق.
٢-الخسائر الاقتصادية النقدية
وهي خسائر ضخمة للغاية، وتتجلى بشكل أساسي في التعويضات التي ستتحملها شركات التأمين بسبب الخسائر الفادحة التي نتجت عن الحرائق[6]. ومع الأخذ في الاعتبار أن العديد من المنازل التي دُمرت هي منازل فاخرة، يمتلكها مشاهير وشخصيات بارزة، فإن التقديرات تشير إلى أن التعويضات المنتظرة ستكون ضخمة جدًا. بالإضافة إلى ذلك، كان لهذا انعكاس سريع على أسوق التأمين، حيث شهدت أسهم بعض شركات التأمين انخفاضًا كبيرًا في أعقاب الكارثة، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى ضغوط مالية على هذه الشركات في المستقبل القريب.
ترامب وقضايا المناخ
لطالما كانت قضايا المناخ والسياسات البيئية نقطة خلافية بارزة في إدارة ترامب، إذ كانت سياسته تجاه هذه القضايا مصدرًا للجدل المستمر. ومع تزايد التحديات البيئية على المستوى العالمي، باتت هذه السياسة محل تساؤل أكبر، خاصة في ظل الكوارث الطبيعية التي شهدتها البلاد، في هذا السياق يمكن الإشارة إلى التالي:-
١- خلاف قديم جديد
إن الخلاف بين الرئيس المنتخب دونالد ترامب وحاكم كاليفورنيا “نيوسوم” ليس وليد اللحظة الحالية، بل يعود إلى يناير ٢٠١٩ عندما تولى نيوسوم منصبه كحاكم للولاية. منذ ذلك الحين، تصاعدت الخلافات بينهما، وبلغت ذروتها مع اشتعال الحرائق الحالية. وبالنظر إلى سياسات الطرفين، نجد أن ثمة تباين واضح؛ فبينما يتعامل ترامب مع قضايا المناخ بمنظور براغماتي يعتمد على تقليل القيود البيئية لصالح التنمية الاقتصادية، نجد أن نيوسوم يُعدّ من أبرز المدافعين عن قضايا المناخ، مما انعكس على سياسات كاليفورنيا التي تتبع إجراءات مناخية صارمة.
هذا التباين في التوجهات أدى إلى مواجهات متكررة، حيث هدد ترامب في ولايته الأولى بقطع التمويل الفيدرالي عن الولاية إذا لم تتراجع عن بعض سياساتها البيئية. ومع نشوب الحرائق الحالية، اتهم ترامب نيوسوم بأنه ساهم بشكل كبير في تفاقم الأزمة بسبب عدم توفير إمدادات المياه الكافية لإخماد الحرائق[7]. على الجانب الآخر، أكد نيوسوم أن الحرائق اندلعت نتيجة لشهور طويلة من الجفاف، إلى جانب الرياح القوية غير المسبوقة، مما جعل من الصعب السيطرة على الوضع في ظل تلك الظروف الاستثنائية ونفاد الموارد المائية.
رغم هذه الخلافات، يبدو أن الكارثة الحالية قد تدفع الطرفين نحو تخفيف حدة التوتر والتوافق على سياسات جديدة تهدف إلى تحسين إدارة الكوارث الطبيعية مستقبلًا، بما يخدم مصلحة الولاية والبلاد بشكل عام.
٢-التأثير على مواقف ترامب المناخية
من المعروف أن ترامب أقل تمسكًا بقضايا المناخ مقارنة بنظرائه الديمقراطيين، ويتضح ذلك من سياساته خلال ولايته الأولى، حيث انسحب من اتفاقية باريس للمناخ وأعطى الضوء الأخضر لتوسيع عمليات استخراج الوقود الأحفوري، إلى جانب مواقفه العامة التي قللت من أهمية التغيرات المناخية. ومع ذلك، فإن الحريق الأكبر في تاريخ البلاد، وما خلفه من خسائر فادحة، يفتح باب النقاش حول إمكانية أن يغير ترامب موقفه تجاه قضايا المناخ ولو بشكل طفيف.
حيث أرجع العديد من الخبراء أسباب هذا الحريق الهائل إلى التغيرات المناخية السريعة والمتلاحقة التي يشهدها العالم في العقود الأخيرة. ونتيجة لذلك، فمن المتوقع أن تشهد الفترة القادمة عملية إعادة تأهيل البنية التحتية بطرق تجعلها أكثر قدرة على التكيف مع الكوارث الطبيعية مستقبلاً، وهو ما يستلزم -بالتوازي مع عملية إعادة التأهيل- سياسات فيدرالية تعزز من أهمية قضايا المناخ وتتخذ خطوات جادة للتعامل معها.
وفي هذا السياق، قد يكون من الممكن أن نشهد تحولًا محدودًا في نهج ترامب تجاه قضايا البيئة، خاصة أن الكوارث الكبرى عادة ما تدفع صانع القرار إلى مراجعة مواقفه أو اتخاذ مواقف أكثر مرونة طبقا للمعطيات الجديدة. ومع ذلك، فإن تصريحات ترامب السابقة، سواء خلال ولايته الأولى أو بعد خروجه من البيت الأبيض، تشير إلى تمسكه بنهجه البراجماتي في هذا الملف، مما يجعل احتمالية تغييره الجذري لهذا النهج ضعيفة، ولكنه قد يؤجل تنفيذ بعض السياسات المثيرة للجدل حاليًا في ظل الكارثة التي تمر بها البلاد.
ختامًا:
فإنه على الرغم من أن ترامب لم يتولى المسؤولية بعد، إلا أن هذه الكارثة البيئية تمثل أول اختبار حقيقي لإدارته الجديدة. فبينما وجه ترامب انتقادات شديدة للإدارة الديمقراطية الحالية واتهمها بالتقصير في التعامل مع هذه الكارثة البيئية، فإن هذا الموقف يضعه أمام مسؤولية كبيرة ويفرض عليه أن يتعامل مع الملف البيئي بشكل أكثر اهتماما عن ذي قبل، وذلك لموازنة الانتقادات التي وجهها إلى الإدارة السابقة في هذا الملف، وتأكيد التزامه بمواجهة التحديات البيئية بشكل أكثر فعالية مما كان عليه الحال في فترة ولايته الأولى.
المصادر:
[1] وسط دمار واسع.. كاليفورنيا تستعين بالسجناء لمكافحة حرائق لوس أنجلوس، القاهرة الإخبارية، ١٠/١/٢٠٢٥
