في سياقٍ إقليميٍ مُعقد، تَوجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” يوم الثلاثاء ٤ فبراير الجاري إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”[1]، في زيارةٍ تتجاوزُ إطارها البروتوكولي لتعكسَ أبعادًا أعمق تتصل بمستقبل خريطةِ الشرق الأوسط وخيارات إسرائيل في المرحلة المُقبلة، خاصةً مع كون نتنياهو أولَ زعيمٍ يلتقي بترامب مُنذ تنصيبهِ لولايةٍ ثانيةٍ، وهو ما يمنحُ اللقاءَ ثِقلًا سياسيًا استثنائيًا، تأتي زيارته إلى البيت الأبيض كفرصةٍ محوريةٍ لحسْمِ مسارين متناقضين؛ إما تعزيز الدعم الأمريكي لاستمرار الحرب على غزة كوسيلةٍ لضمان بقاء حكومته وسط أزمةٍ شرعيةٍ متفاقمة، أو التوجّه نحو صفقةٍ كبرى برعاية واشنطن تُعيدُ تشكيلَ المشهدِ الإقليمي، وكلا الخيارين يخدمُ مصالحَ الطرفين، خاصة مع رغبة ترامب في ترسيخ رؤيته للشرق الأوسط خلال ولايته الجديدة، كما تمَّ تمديدُ الزيارة حتى الأحد المقبل، وهو ما يعكس حجم الملفات المطروحة وتعقيداتها، حيث لا يتعلقُ الأمرُ بمجرّد تنسيقٍ سياسيٍ تقليدي، بل بمفترق طرق قد يحدد شكل التحالفات الإسرائيلية الأمريكية، ومسار السياسات الإقليمية، وحدود التغيرات المحتملة في خريطة الصراع في الشرق الأوسط.
أولًا: توقيتُ الزيارةِ
تأتي زيارةُ نتنياهو إلى البيت الأبيض في توقيتٍ بالغِ الحساسية، حيث تتزامنُ هذه الزيارة مع تجديد ترامب تأكيده على صغِر حجم دولة إسرائيل مُقارنةً بمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما أشار إليه عبر تشبيهِ مكتبهِ بالشرق الأوسط، حيث اعتبر أن “إسرائيل دولة صغيرة جدا” [2]، مُؤكدًا أنه من المُذهلِ أن هذه الدولة الصغيرة تمكنت من تحقيق ما حققته، هذه التصريحات، رغم سطحيتها من حيثُ الحجم الجغرافي، تحملُ في طياتها معانيَ سياسيةً عميقة، إذ يُبرزُ ترامب عبر هذا التصريح التأكيد على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في استئناف عملياتها العسكرية في غزة، كما تعكسُ أيضًا تأييدًا صريحًا للخطط الإسرائيلية بشأنِ ضمِّ الأراضي الفلسطينية أي ضمُّ قطاع غزة والضفة الغربية سواء كليًا أو جزئيًا، علاوة على ذلك، يتزامن هذا اللقاء مع تصاعد الجدل حول الاقتراح المثير للجدل الذي طرحه ترامب بشأن تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن. هذا الطرحُ الذي يهدفُ إلى إعادةِ تشكيلِ الخريطةِ السياسية للمنطقة عبر إفراغ غزة من سكانها، لاقى رفضًا حاسمًا من الحكومتين المصرية والأردنية، هذا الرفضُ يمثّلُ ردًا قويًا على محاولة فرض حلول قسرية تتجاهل الحقوق الفلسطينية وتضعف من وحدة الأراضي الفلسطينية.
ثانيًا: ردودُ الفعلِ الإقليمية والدولية
جاءتْ معظمُ ردود الفعل الإقليمية والدولية على تصريحات ترامب في لقائه مع نتنياهو لتؤكدَ رفضَها [3]في إشارة بأن خطة ترامب تجاه غزة لا تعكسُ سعيًا حقيقيًا للسلام في الشرق الأوسط كما يُروج لها ترامب، بل على العكس من ذلك، فإنها تؤدي إلى مزيدٍ من التوتراتِ الإقليميةِ وتعصف بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، حيث جاءت ردود الفعل على النحو التالي:
1- مصر ُ ورئيسُ الوزراء الفلسطيني: أكد وزير الخارجية المصري الدكتور “بدر عبدالعاطي” في لقائه مع رئيس الوزراء الفلسطيني “محمد مصطفى” الأربعاء ٥ فبراير على دعمِ مصرَ الكاملِ للحكومة الفلسطينية سياسيًا واقتصاديًا بما يشمل تولي مهام قطاع غزة وإعادة الإعمار دون تهجير للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى ضرورة التوصل إلى حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية.
2- السعودية: نشرتْ الخارجيةُ السعوديةُ بيانًا تؤكد فيه أن موقفهَا تجاه القضية الفلسطينية ثابتٌ ولا يتزعزع، وذلك ردًا على تصريحات ترامب والتي زعم فيها أن السعودية لم تطالبْ بحلِّ الدولتين وتأسيس دولة فلسطينية مقابل تطبيعها العلاقات مع إسرائيل، كما أعلن أن الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة وتمتلكه، معلنًا نيته زيارة القطاع المحاصر إلى جانب “إسرائيل” والسعودية.[4]
3- قطر والأردن:أفاد الديوان الأميري بأن أمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني” تلقى اتصالًا من الملك الأردني “عبد الله الثاني”، أكدا في هذا الاتصال على رفض التهجير القسري للفلسطينيين.
4- السلطةُ الفلسطينيةُ:أعربَ الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن رفضهِ الشديد لدعوات الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين خارج وطنهم. وقال عباس إن الدعواتِ الأمريكيةَ لذلك تمثّلُ انتهاكاً خطيرا للقانون الدولي، مضيفا أن السلام لن يتحقق دون إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس على حدود عام 1967، وعلى أساس حل الدولتين.
5- حركةُ حماس:أعلنتْ حركةُ حماس رفضَها للتصريحات الأمريكية المتكررة بشأن التهجير وإعادةَ توطين الفلسطينيين في الدول المجاورة، وأضافت حركة حماس أن عمليةَ إعادةِ الإعمار يمكن أن تتمَ مع بقاء أهالي غزة دون تهجيرهم من القطاع، وأن حجم الدمار كبير وغير مسبوق ونحتاج للكثير من أجل إعادة الإعمار في غزة.
6- المبعوثُ الأوروبيُ الخاصُ بالشرق الأوسط: قال المبعوثُ الأوروبيُ الخاص للشرق الأوسط إن هناك حلا واحدا فقط وهو دولتان إسرائيلية وفلسطينية آمنتان تتمتعان بالسيادة، وذلك تعليقا على قول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن هناك حلا واحدا في غزة وهو مغادرة سكانها.
7- الكرملين:قال الكرملين إنه يعتمدُ على مفهومِ الأمم المتحدة بشأن التسوية في الشرق الأوسط على أساسِ حلِّ الدولتين، موضحا “نعتبر ذلك الحل هو الوحيد الممكن”، وأضاف “سمعنا كلام (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب بشأن إعادة توطين سكان غزة، لكننا ننطلق من حقيقة أن الدول العربية لا تقبل هذه الفكرة”.
8- فرنسا:شددتْ وزارةُ الخارجية الفرنسية على أن التهجير القسري لسكان قطاع غزة سيكون انتهاكا خطيرا للقانون الدولي، وأضافت أن التهجيرَ القسري لسكان غزة سيمثل هجوما على التطلعات المشروعة للفلسطينيين ويزعزع استقرار المنطقة
9- بريطانيا:قالَ وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إن على المجتمع الدولي ضمانَ مستقبلٍ للفلسطينيين في وطنهم، مضيفا: “نريد رؤية الفلسطينيين يزدهرون بقطاع غزة والضفة الغربية”.
10- الأمم المتحدة:اعتبرت الأمم المتحدة أن مقترحَ الرئيس الأميركي بالسيطرة على قطاع غزة كان مفاجئا للغاية.
ثالثًا: دلالاتُ الزيارة
وتأتي هذه الزيارة لتحمل في طياتها عدة دلالات والتي منها ما يلي:
1- ملكيةٌ طويلة الأمد: في صباح الأربعاء المُوافق ٥ فبراير الجاري وفي سياق زيارة نتنياهو، أعلن ترامب عن نيته في أن تكونَ للولايات المتحدة “ملكيةٌ طويلةُ الأمد” لقطاع غزة، مُشيرًا إلى أن ذلك سيسهم في خلق “آلاف الوظائف” في المنطقة[5]، بالإضافة إلى ذلك، ستعمل الولايات المتحدة علي تفكيكِ كل القنابل غير المنفجرة والأسلحة الأخرى الخطيرة في القطاع، يتضمنُ هذا التصريحُ إعلانًا غير مسبوقٍ عن رغبة الولايات المتحدة في تولي السيطرة الكاملة على القطاع، كما يُشير إلى رؤيةٍ أمريكيةٍ قد تكون أكثرَ تدخلًا ووجودًا في قلب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مما يعكس تحولًا جذريًا في إدارة الأزمة، والذي بدوره يطرح تساؤلاتٍ حول وجود وطبيعه الدور الذي ستلعبه واشنطن في المنطقة خلال الفترة القادمة.
2- تحويلُ غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”:تبرزُ رؤيةُ ترامب الاقتصادية من خلال رغبته في تحويل قطاع غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” [6]، حيث من المعروف أنه رجلُ اقتصادٍ في المقام الأول ويفكرُ بعقليهِ الصفقاتِ ومكاسب الربح والخسارة، وهو ما يجعلهُ يطمحُ إلى جَعلِ غزة وجهةً سياحيةً عالميةً، متخيلًا القطاع المدمر بسبب الحرب الطويلة مع إسرائيل كموقع اقتصادي جاذب للاستثمار الأجنبي، إلا أن جوهرَ هذه الفكرة يثيرُ العديدَ من التساؤلات حول آلية تنفيذها على أرض الواقع. ترامب أشار إلى أن غزة قد تصبحُ موطناً “لشعوب العالم”، ما يعني تدفّقَ الأجانب إلى القطاع في نسخته الحديثة. ومع ذلك، لم يقدمْ ترامب إجابةً شافيةً بشأن كيفية تمكّن الولايات المتحدة من الاستيلاء على القطاع واحتلاله على المدى الطويل.
3- إقرارُ سيادةِ إسرائيل على الضفة الغربية:أشار ترامب أن إقرارَ سيادةٓ إسرائيل على الضفة الغربية لازالَ قيدَ الدراسةِ لكنه مطروحٌ وبشدةٍ، ومن هنا، فإن تطبيقَه سيكون بمثابةِ تدميرٍ فعليٍ للوجود الفلسطيني وتصفيةٍ للقضية الفلسطينية وزوالها من على الخريطة، ليس فقط من الناحية الجغرافية، بل أيضًا من حيث الاعتراف الدولي بحقوق الشعب الفلسطيني، في هذا السياق، لفتت صحيفة نيويورك تايمز إلى مشاريعِ القوانين التي قدمها بعضُ المشرّعين الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ، والتي تقترحُ تغييرَ مصطلح “الضفة الغربية” إلى “يهودا والسامرة”[7]، في إشارة إلى الأسماء التي تطلقها إسرائيل على هذه المنطقة.
4- إعادةُ توطين الفلسطينيين: تحدث ترامب بشكل مباشر وصريح عن “إعادة توطين الفلسطينيين بشكل دائم” [8]في دولٍ مجاورةٍ أهمهم مصر والأردن، حيث اعتبر ترامب أن الفلسطينيين في غزة لا يملكون خيارًا سوى مغادرة القطاع[9]، إن دعوةَ ترامب لاستقبال الفلسطينيين في مصر والأردن وتهديده بمزيدٍ من التدخل الأمريكي المباشر تعكس محاولة لإعادةِ تشكيل التحالفات الإقليمية بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية، وتضعُ الدول العربية المجاورة، خصوصًا مصر والأردن، في موقف صعب خاصةً في ظل رفضهما القاطع لهذا المُقترح.
5- ملفُ تبادلِ الأسرى مع حركة حماس:يريدُ نتنياهو ضمان تحرير جميع المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة، ورغم إصرار ترامب على استكمال صفقة التبادل وتحرير جميع الأسرى الإسرائيليين، أن نتنياهو يُطالبُ ترامب باستمرارية الدور الأمريكي الفعّال لضمان تنفيذ الصفقة بشكل كامل، وكان من المُفترض أن تُستأنفَ مفاوضاتُ المرحلة الثانية من صفقة الأسرى يوم الاثنين 3 فبراير، لكن نتنياهو ألغى اجتماعه بفريق التفاوض الإسرائيلي وقرر عدم إرساله إلى الدوحة قبل اجتماعه مع الرئيس ترامب.
6- التصدي للمحور الإيراني: بينما يُظهرُ ترامب استعدادًا لتقديم عرض دبلوماسي قاسي يهدف إلى إخضاعِ النظام الإيراني وفرْضِ شروطٍ أكثر صرامة من تلك التي تضمنها الاتفاق النووي السابق، يبدو أن نتنياهو متمسكًا بخيار الهجوم العسكري إذا فشلتْ الحلول الدبلوماسية. في حال تقديم ترامب لمقترحاتٍ جديدةٍ صعبة في مسار المفاوضات مع إيران، فإن النظامَ الإيرانيَ بقيادةِ المرشد الأعلى علي خامنئي من المرجح أن يرفضها بشدة، مما قد يؤدي إلى انهيار الاتفاق النووي مرة أخرى. هذا السيناريو، الذي يبدو محط انتظار لنتنياهو، قد يكونُ الفرصة التي ينتهزها لتفعيل خططه العسكرية ضد إيران بدعم صريح من الإدارة الأمريكية.[10]
في الختام:
إن لقاءَ بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب يُمثل مُنعطفًا تاريخيًا خطيرًا للشرق الأوسط، حيث يعكسُ تحولًا جذريًا في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة، ويُزيد من تعقيد الوضع الإقليمي، خاصةً بالنسبة للدول المجاورة مثل مصر والأردن، اللتين تجدانهما في مأزق استراتيجي يتطلبُ تكاتفًا عربيًا لمواجهة المخططات الأمريكية التي تهدد بتصفية القضية الفلسطينية، كما أن هذه الخطوة -في حالة حدوثها- تُعد تكراراً للأخطاءِ نفسها التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق وفيتنام وأفغانستان، لكنه الآن ذو صبغةٍ اقتصاديةٍ، ويبدو أن الأزمة الحالية في غزة قد تكون امتدادًا لهذه السياسات الفاشلة، مع التركيز الآن على مكاسب اقتصادية دون النظر إلى الآثار السياسية والإنسانية المترتبة، إلا أن هذا الوضع سيُواجه برفضٍ عربيٍ حاسمٍ، بيدَ أنه يتطلب تحركًا سريعًا ومُوحدًا من الدول العربية، من خلال تعزيز التنسيق العربي على جميع الأصعدة السياسية والدبلوماسية والأمنية، وتشكيل تحالفٍ استراتيجيٍ من الدول التي تدعم هذا الموقف الرافض.
[2] ترامب يتحدث عن “إسرائيل الصغيرة..” ونتنياهو يمدد زيارته، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٤ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/QgCZr
[3] غزة بعد الاتفاق مباشر.. ترامب يقترح سيطرة أميركية على القطاع وحماس ترفض، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٥ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/DdqTp
[5] ترامب يتطلع إلى “ملكية أمريكية طويلة الأمد” لغزة ونتنياهو يشيد بمقترح قد “يغيّر التاريخ”، مونت كارلو الدولية، تاريخ النشر: ٥ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/ZbhzZ
[10] مع تزايد الغضب في المجتمع الإيراني.. خامنئي قلق بشأن لقاء ترامب ونتنياهو، إيران إنترناشيونال، تاريخ النشر: ٤ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://www.iranintl.com/ar/202502044821
