لقد انتهجَ الرئيسُ الأمريكيُّ دونالد ترامب شعارَ “أمريكا أولًا” مُنْذُ تولِّيه مقاليد ولايته الثانية، وانعكس ذلك على قراراته التي كان من بينها، انسحاب واشنطن من منظمة الصحة العالمية، وإيقاف العمل بالمساعدات الخارجية في أفريقيا؛ مما يهدد حياة ملايين الأرواح، لا سيما في ظلِّ الظروف المتدنِّية التي تعاني منها بعض دول القارة، في ظلِّ تفشِّي العديد من الأوبئة والأمراض وحالة الصراع اللامتناهي، ويشير هذا التطوُّر إلى أن القارة السمراء لم تكن ضمن أولويات ترامب في أجندته الجديدة؛ وهو ما قد يدفع نحو تقويض النفوذ الأمريكي بها.
قرارات ترامب عقب وصوله للسلطة وتأثيرها على أفريقيا:
أولًا- الانسحاب من منظمة الصحة العالمية
بعد ساعات من تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ٢٠ يناير الماضي، وقع أمرٌ تنفيذيٌّ يقضي بانسحاب واشنطن من منظمة الصحة العالمية؛ بذريعة ممارسة الدول الأعضاء نفوذًا على الهيئة العالمية التي تُموِّلُها الولايات المتحدة الأمريكية بقرابة ٢٠٪ من ميزانيتها، وذلك على حدِّ اعتباره، وقد أبْدى الاتحاد الأفريقي انزعاجه من هذه الخطوة؛ نظرًا لما تشهده أغلب الدول الأفريقية من تحدِّياتٍ جسيمةٍ تهدد الأمن الصحي للمواطنين، ناهيك عن أن الحكومات الوطنية لن تستطيع تحمُّل كُلْفَة برامج الرعاية الطبية؛ لذا فقد شكَّلَ الانسحاب الأمريكي من منظمة الصحة جرس إنذارٍ للمنظمات المحلية والإقليمية العاملة في أفريقيا للبحث عن حلول عاجلة، تضمن مستقبلًا أكثر استدامةً للرعاية الصحية، لا سيما في المناطق التي تعاني من انتشار الأوبئة والأمراض؛ حيث تشهد زامبيا – على سبيل المثال – ارتفاعًا في حالات الإصابة بوباء الكوليرا، وفي مناطق تشهد تغيُّرات مناخية صعبة، تدفع إلى زيادة الجفاف، ومن ثمَّ تقليص إمدادات المياه النظيفة؛ بما يجعل السكان يبحثون عن المياه الجوفية التي تكون أكثر عُرْضةً للتلوُّث، وبالتالي زيادة مُعدَّلات انتشار الأمراض.
أيضًا في مناطق الصراع يزداد مخاطر تفشِّي الأوبئة، ففي أغسطس الماضي، تمَّ الإعلان رسميًّا، عن ظهور وباء الكوليرا في السودان، وتسجيل 8,457 حالة إصابة و299 حالة وفاة في ثماني ولايات سودانية، بجانب هذا الوباء، تتفشَّى أمراض أخرى كالملاريا وحُمَّى الضَّنْك والحصبة والحصبة الألمانية؛ بسبب الانخفاض الكبير في مُعدَّلات التطعيم وتدمير البُنَى التحتِيَّة للصحة والمياه والصَّرْف الصحي والنظافة.[1]
ثانيًا- تجميد المساعدات الأمريكية للدول الأفريقية
لقد اشتمل شعار أمريكا أولًا على تعليق المساعدات الخارجية حول العالم لمدة 90 يومًا؛ مما أثار جدلًا كبيرًا، بخاصَّةٍ وأن تلك المساعدات تتضمن مجالات حيوية كالتعليم والصحة، وإيقافها سيؤثر على الدول الفقيرة، والتي تشهد صراعات دموية وتوترات مستمرة، وفور ذلك، شرعت برامج المِنَح التي تُموِّلُها واشنطن في مناطق متفرقة من العالم في طرْد الموظفين وإغلاق عملياتها أو الاستعداد لوقفها، وبناءً عليه؛ خضع أكثر من ٦٠ مليار دولار من المساعدات الأمريكية للمراجعة؛ تماشيًا مع أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
البرامج المتأثرة من تجميد المساعدات
تشمل المساعدات الأمريكية مناطق مختلفة من القارة الأفريقية، فتعمل داخل إثيوبيا والصومال ونيجيريا، بجانب دول أفريقيا جنوب الصحراء الكُبْرى، وفيما يـأتي أبرز البرامج التي تُموِّلُها واشنطن:
1- برنامج الإغاثة من الإيدز
يدعم برنامج مكافحة فيروس نقْص المناعة البشرية “الإيدز” الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، والمعروف باسم بيبفار الأنظمة الصحية؛ حيث قُدِّرَ له إنقاذ حياة ٢٥ مليون شخصٍ في جميع أنحاء العالم، وفي القارة السمراء، تعمل هذه الخطة في أوغندا وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وكينيا، فالأخيرة تحظى بخطة علاج تبلغ نحو ١,٣ مليون مريضٍ، عن طريق منْحِهَا أدويةً مضادةً للفيروسات القهقرية، وكذا تُموِّلُ برامج توعية وتدريب لآلاف العاملين في القطاع الصحي.
2- برامج مكافحة الملاريا
تشير تقارير منظمة الصحة العالمية، إلى أن مساعدات أمريكا تلعب دورًا محوريًّا في دعْم جهود مجابهة الملاريا، خاصَّةً في أنجولا وموزمبيق والسنغال، وتشمل هذه البرامج توزيع الناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية، وإتاحة الأدوية اللازمة لعلاج المرض؛ وقد لاقت هذه الجهود استجابةً في الدول المستهدفة؛ حيث حدث تراجُعٌ في نِسَبِ الوفيات الناجمة عن الملاريا، وهو ما سيضع هذه الدول في مأزقٍ وافتقار القدرة على إدارة حملات العلاج والوقاية بعد وقْف التمويل، ومن ثمَّ تهديد حياة الملايين من الأفارقة، خاصَّةً الأطفال.
3- برامج التعليم والصحة في نيجيريا
تُعوِّلُ نيجيريا على المساعدات الأمريكية بشكلٍ كبيرٍ، ويتم توظيفها لدعْم برامج التعليم والصحة، فتحصل أبوجا على نحو ٣٧٠ مليون دولار للصحة؛ حيث حملات تطعيم الأطفال وتحسين خدمات الرعاية الصحية، و٢٤ مليون دولار للتعليم وتطوير المناهج الدراسية، علاوةً على ٣١٠ مليون كمساعداتٍ إنسانيةٍ.
4- دعْم الطاقة في موزمبيق
لقد سبق وتعهَّدت الولايات المتحدة بدعْم مشروع الغاز المُسَال الذي تديره شركة توتال إنرجيز في موزمبيق بمبلغ قدره ٤,٧ مليار دولار، وكان من المفترض أن يساعد على تحسين أداء الاقتصاد المحلي، بجانب توفير الآلاف من فُرَص العمل، وفي صدد الخطوة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية، فإن ثمَّةَ تخوُّفات من فُقْدان استثمارات ضخمة، ربما تؤثر على تطوير البِنْية التحتِيَّة للطاقة في البلاد.[2]
5- مساعدات الغذاء
أصدرت واشنطن قرارًا يتضمن مطالبة برنامج الأغذية العالمي بالتوقُّف عن العمل بعشرات المِنَح المُمَوَّلة من قِبَلِ أمريكا، والتي تُوفِّرُ مساعدات غذائية في دول فقيرة، مثل “جمهورية الكونغو الديمقراطية، والسودان، وجنوب السودان، وأفريقيا الوسطى، ومالي”، وكان عددٌ من المِنَح التي تمَّ تعليقها جزءًا من برنامج الغذاء من أجل السلام، والذي يمول سلعًا أوليةً أمريكيةً بنحو ملياري دولار سنويًّا، وفي العاشر من فبراير الجاري، أشار برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إلى أن الولايات المتحدة قامت بإلغاء تعليق التبرعات الغذائية، وذلك يسمح باستئناف عمليات شراء وتسليم الأغذية، بموجب اتفاقيات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الحالية.[3]
ثالثًا- عقوبات على جنوب أفريقيا
في ٧ فبراير الحالي، وقَّع ترامب على أمرٍ تنفيذيٍّ يقضي بإيقاف المساعدات المالية لجنوب أفريقيا؛ نتيجةً لسياستها المتعلقة بمصادرة الأراضي، وفي الواقع، الأمر قد بدأ قبْل ذلك؛ إذ توتَّرت العلاقات بين واشنطن وبريتوريا؛ نتيجةً لسياسة حكومة الأخيرة إزاء المصالح الغربية، بخاصَّةٍ بعد انتهاج سياسات تتعارض مع الرُّؤْية الأمريكية، فضلًا عن أن دعْم جنوب أفريقيا للفلسطينيِّين أمام المحكمة الجنائية الدولية ضِدَّ الاحتلال الإسرائيلي؛ أدَّى إلى تصعيد الخلافات بين الجانبين، بما أعدته واشنطن تحدِّيًا لمصالحها في المنطقة، أيضًا أثار التقارُب بين الحكومة الجنوب أفريقية والصين وروسيا، لا سيما في إطار تحالف البريكس؛ حفيظة الولايات المتحدة، التي تحاول كبْح جماح هاتيْن الدولتيْن في القارة الأفريقية.
وعقب هذا القرار، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، عن استعداد البلاد لاستقبال أحفاد المستوطنين في جنوب أفريقيا، والذين ينحدرون من عِرْقِيَّة الأفريكان، تلك الأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية، واشتمل هذا الأمر على خُطَّةٍ لإعادة توطين المزارعين الجنوب أفريقيِّين وعائلاتهم كلاجئين في أمريكا؛ مما دفع حركة التضامُن في بريتوريا- التي من المفترض أنها تُمثِّلُ نحْو مليونيْ شخصٍ من عِرْقِيَّة الأفريكان- إلى رفْض قرار إعادة التوطين، ومنْح هذه العِرْقِيَّة صفة اللاجئين في الولايات المتحدة، كما أن السلطات في البلاد اعتبرت منْح اللجوء لجماعة ما زالت تحظى بامتيازات اقتصادية في جنوب أفريقيا، تناقُضًا واضحًا في السياسات الأمريكية، في حين يتمُّ رفْض آخرين يُعانون من عقباتٍ وصعوباتٍ في مناطق أخرى.[4]
التداعيات
إن ما تُغدق به أمريكا من مساعدات للقارة الأفريقية ليست على سبيل الهِبَة أو المِنْحة، بل هي مزيجٌ من الحسابات والمصالح الإستراتيجية، فبالرغم من إسهامها في تخفيف معاناة ملايين الأفارقة، إلَّا أنها تخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية السياسية والاقتصادية، في ظلِّ تحوُّل أفريقيا إلى ساحةً للتنافُس الدولي، وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن قرار تعليق المساعدات المُوجَّهة إلى شعوب القارة السمراء سيترتب عليه تداعيات عدة، يمكن إجمالها فيما يأتي:
تداعيات صحية
بطبيعة الحال سيكون لقرار تجميد المساعدات آثارٌ وخيمةٌ على الشعب الأفريقي، خاصَّةً في مجال الصحة؛ حيث سيؤدي ذلك إلى تراجُع قدرة هذه الدول على مجابهة الأوبئة والأمراض الفتَّاكة التي تعاني منها، وكذا ستترك المبادرات الأمريكية فجوةً في برامج مكافحة الأمراض التي كانت تُمَوِّلُها، فيُلاحظ أن الولايات المتحدة قد وجَّهت استثمارات بأكثر من ١١٠ مليار دولار للاستجابة الطارئة لفيروس نقْص المناعة البشرية؛ بما ساعد على إنقاذ حياة ما يزيد عن ٢٥ مليون شخصٍ، وحماية ملايين الحالات من الإصابة بهذا الفيروس.
تداعيات اقتصادية
من بين الآثار الناجمة عن القرار الأمريكي بوقْف المساعدات، هو التأثير على التنمية الاقتصادية، عبْر إرجاء أو تعطيل مشاريع البِنْيَة التحتِيَّة وغيرها، فعلى سبيل المثال، أشار رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو، إلى أن ترامب قام بتجميد التمويل المتعلق بالمساعدات الإنمائية الرسمية بشأن برنامج الكهرباء لمدة ثلاث سنوات، والتي كان من المفترض الاستفادة منها بقيمة ٣١٦ مليار فرنك سيفا، أيضًا، تعليق المساعدات الإغاثية المُوجَّهة للاجئين والنازحين ستُسبِّبُ أزمةً في النُّزُوح والضغط على موارد الدولة الاقتصادية، خاصَّةً في الدول التي تُعاني من النزاعات أو الكوارث الطبيعية.
تهديد الأمن الإقليمي
سيكون لهذا القرار تَبِعَاتٌ على الاستقرار والأمن في المحيط الإقليمي؛ نظرًا لأنه سيؤثر على برامج مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء المدعومة من قِبَلِ واشنطن، من خلال تدريب القوات وتوفير المعدات؛ وهو ما سيُشجع أطرافًا شريكةً كروسيا لتوسيع دورها العسكري والأمني، في دول مثل “مالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى”، إضافةً إلى تعزيز الصين لنفوذها في المنطقة بواسطة مشاريعها التنموية المختلفة؛ الأمر الذي قد ينتجُ عنه تصاعُدُ الاحتجاجات في مناطق تعتمد على المساعدات الأمريكية لسدِّ احتياجاتها الأساسية؛ وبالتالي إثارة الفوضى والاضطراب الأمني في منطقةٍ مشحونةٍ بطبيعة الحال بالتوتُّرات والصراعات.
تراجُع النفوذ الأمريكي في القارة
إن ما أقدمت عليه إدارة ترامب قد يُقلِّصُ من النفوذ السياسي في القارة، خاصَّةً في ظلِّ حالة الاستقطاب والتنافُس الدولي والإقليمي، كما أنه سيؤدي إلى تآكل الثقة في الشراكة الأمريكية مع الدول الأفريقية، وإيقاف إمدادات المعادن التي تحصل عليها من أفريقيا، فضلًا عن الاستغناء عن الشركات الأمريكية العاملة فيها، وهو ما سيُؤثِّرُ على الاقتصاد الأمريكي، إلَّا أن هذا الأمر قد لا يستمر طويلًا وتضطر واشنطن إلى العزوف عنه.[5]
ختامًا:
على الرغم من خطورة قرارات ترامب التي تهدد بشكلٍ مباشرٍ برامج الرعاية الصحية على وجْه الخصوص المُوجَّهة إلى أفريقيا، إلَّا أنها قد تكون فرصةً جديدةً لدول القارة، بإعادة التفكير في تعزيز الأنظمة الصحية الأفريقية، والسعْي نحْو تعبئة الموارد المحلية، أو بناء شراكات أكثر تنوُّعًا؛ نظرًا للتداعيات السلبية التي يمكن أن يُسبِّبُها هذا القرار في قطاعات “الصحة، والتعليم، والقضايا الإنسانية”، وفي شؤون الهجرة وتغيُّر المناخ وغيرها، وتفعيل ثقافة الاعتماد على الذات والبحْث عن حلولٍ محليةٍ بعيدةٍ عن الاعتماد المُفْرِط على المساعدات الخارجية.
المصادر:
[1] آية أمان، إفريقيا في مواجهة انسحاب ترامب من “الصحة العالمية”.. مخاطر مباشرة وفرصة تلوح، مصر ٣٦٠، ٢٩ يناير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/bqnq1
[2] أسماء البتاكوشي، أمريكا أولًا”.. ما تأثير قرار ترامب بوقف المساعدات عن العالم؟، مصراوي، ٢٩ يناير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/5os531
[3] أميركا تلغي تعليق التبرعات الغذائية لبرنامج الأغذية العالمي، الشرق، ١١ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/z8sul
[4] توتر متزايد بين واشنطن وبريتوريا وترامب يفتح باب الهجرة لأحفاد مستوطني جنوب أفريقيا، مونت كارلو، ٩ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/vxmto
[5] عبد الرحمن كان، قرار صادم.. كيف ستتأثر أفريقيا بوقف ترامب للدعم الأميركي؟، الجزيرة، ١٣ فبراير ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/kvwi8
