تُعدُّ العلاقات بين نيجيريا والنيجر نموذجًا للتشابُك السياسي والاقتصادي والثقافي في غرب أفريقيا؛ حيث تربط البلديْن حدودٌ جغرافيةٌ تمتدُّ لمسافاتٍ طويلةٍ، إضافةً إلى الروابط التاريخية والاجتماعية العميقة، وتُعزِّزُ تلك العلاقة التحديات المشتركة التي يواجهها كُلٌّ من البلديْن، مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية، علاوةً على التغيُّر المناخي، إلى جانب الفُرَص المتاحة للتعاون في مجالات التنمية الاقتصادية والبنية التحتية، ولكن هناك بعض التوترات التي تشوب العلاقات بين الدولتيْن في بعض الفترات؛ بسبب بعض العوامل السياسية والاقتصادية، إلى جانب الأمنية، والتي شرعت في التصاعُد بشكلٍ ملحوظٍ خلال الآونة الأخيرة.
الجذور التاريخية للعلاقات “النيجيرية – النيجرية”
ترتبط الدولتان نيجيريا والنيجر بعلاقاتٍ ثنائيةٍ راسخةٍ، تمتدُّ جذورها إلى عصور ما قبْل الاستعمار؛ حيث كانت شعوب الهوسا والفولاني، إضافةً إلى الكانوري، تُمثِّلُ نسيجًا اجتماعيًّا متداخلًا يتجاوز الحدود السياسية الراهنة، وقد عزَّزت الإمبراطوريات التاريخية، مثل خلافة صكتو وإمبراطورية سونغاي، من الترابط الاقتصادي والسياسي بين الإقليميْن، عبر الشبكات التجارية وأنظمة الحكم المركزية، إلَّا أن التدخُّل الاستعماري الفرنسي والبريطاني أدَّى إلى ترسيم حدود مصطنعة بموجب اتفاقيات دولية، وهو ما فرض إطارًا قانونيًّا جديدًا للعلاقات الثنائية، بعد استقلال البلديْن عام 1960، ومنذ ذلك الحين، شهدت العلاقات تطوُّرًا ملحوظًا في مجالات الأمن الإقليمي والتكامل الاقتصادي، إلى جانب إدارة الموارد المشتركة، خاصَّةً فيما يتعلق بنهر النيجر، والتصدِّي للتهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب العابر للحدود والتغيُّر المناخي، علاوةً على الهجرة غير الشرعية؛ ما جعل التنسيق الدبلوماسي والإستراتيجي بين البلديْن ضرورة جيوسياسية؛ لتحقيق الاستقرار الإقليمي.[1]
أسس التعاون بين أبوجا ونيامي
شهدت العلاقات بين نيجيريا والنيجر، الواقعتين في إقليم غرب أفريقيا، تعاونًا إستراتيجيًّا متعدد الأبعاد، يعكس التداخُل الجغرافي والمصالح المشتركة بين البلديْن؛ حيث يرتكز هذا التعاون على الشراكة الأمنية لمواجهة التهديدات الإرهابية العابرة للحدود، من خلال التنسيق الاستخباراتي والعمليات العسكرية المشتركة، في إطار القوة متعددة الجنسيات لمحاربة الإرهاب في منطقة بحيرة تشاد، كما يمتدُّ التعاون إلى المجال الاقتصادي عبْر مشروعات إقليمية كبرى، مثل خط أنابيب الغاز وتعزيز التبادل التجاري، إضافةً إلى التعاون في قطاع الطاقة، من خلال تصدير الكهرباء من نيجيريا إلى النيجر، وتُعزَّز هذه العلاقات عبْر الروابط الثقافية والإنسانية المدعومة بالهجرات المتبادلة والامتداد العِرْقي والاجتماعي، وفي ظل هذه الديناميكيات، تسعى الدولتان إلى تطوير البنية التحتية وتعزيز تكامل الأسواق، ولكن سُرْعان ما شهدت تلك العلاقات حالةً من التوتر والاضطراب إبان الآونة الأخيرة.
أسباب اضطراب العلاقات بين البلدين
ترجع حالة التوتُّر التي شابت العلاقات بين أبوجا ونيامي بالأساس، إلى الاتهامات العديدة التي وجَّهها رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن في نيامي “الجنرال عبد الرحمن تياني”، في مقابلة رسمية مُطوَّلة تمَّت إذاعتها على القنوات النيجرية، في 25 ديسمبر 2024؛ حيث اتهم أبوجا بمحاولاتها لزعزعة استقرار بلاده بالتواطؤ مع فرنسا، إضافةً إلى دعْم جماعة جهادية قد سبق اتهامها بالقيام بأعمال تخريب في خط أنابيب النفط الرئيسي، إلى جانب استضافتها “قاعدة إرهابية” في منطقة “لاكوراوا” بولاية سوكوتو شمال غرب نيجيريا، وجاء الرَّدُّ من الحكومة النيجيرية بالرَّفْض القاطع لتلك المزاعم، ووصفتها بأنها “محض خيال” ولا أساس لها من الصحة، وأكَّدت أبوجا، أنها لم تدخل في أيِّ تحالف مع فرنسا أو أيِّ دولة أخرى لزعزعة استقرار النيجر، كما نفى رئيس أركان الدفاع النيجيري، الجنرال “كريستوفر موسى” وجود أيِّ قاعدةٍ عسكريةٍ أجنبيةٍ على الأراضي النيجيرية، مؤكِّدًا أن بلاده لن تسمح باستخدام أراضيها كقاعدةٍ لتهديد جيرانها بما في ذلك النيجر.[2]
ملامح اضطراب العلاقات “النيجيرية – النيجرية”
تأثرت العلاقات بين أبوجا ونيامي بمجموعةٍ من العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية، وازدادت توتُّرًا بعد الانقلاب العسكري في النيجر يوليو 2023، الذي أطاح بالرئيس المنتخب “محمد بازوم”، ولعبت نيجيريا بقيادة الرئيس “بولا تينوبو” دورًا رئيسيًّا في ردِّ فعل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)؛ ما أدَّى إلى تفاقُم الأزمة بين البلديْن، ومن أهم ملامح تلك الأزمة:
أ- اضطراب العلاقات الدبلوماسية بين الدولتيْن: اعتبرت نيجيريا أن الانقلاب العسكري في النيجر يوليو 2023، الذي أطاح بالرئيس المنتخب “محمد بازوم”، يُشكِّلُ تهديدًا للديمقراطية في المنطقة، وأيَّدت فرْض عقوبات إقليمية عبْر إيكواس، بل لوَّحت بالتدخُّل العسكري لإعادة “بازوم” إلى السلطة، أثار هذا التدخُّل جَدَلًا حول مدى احترام نيجيريا لمبدأ السيادة الوطنية للنيجر؛ حيث رفض النظام العسكري الجديد أيَّ تدخُّلٍ خارجيٍّ، معتبرًا أن سياساته الداخلية شأنٌ سياديٌّ لا يحقُّ لأيِّ دولة أخرى التدخُّل فيه، إضافةً إلى تبادُل الانتقادات الحادة بين مسؤولي البلديْن؛ حيث اتهمت نيامي أبوجا بـ”التدخُّل في شؤونها الداخلية”، بينما رأت نيجيريا، أن عدم استقرار النيجر يؤثر على الأمن الإقليمي.
ب- اتهام نيجيريا بالتعاون مع فرنسا لزعزعة الاستقرار النيجري: اتهم المجلس العسكري في نيامي الحكومة النيجيرية، بالتعاون مع فرنسا للتآمر ضدها، ومحاولة زعزعة استقرار البلاد، وذلك في سياق تصاعُد التوترات بين الجارتيْن بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2023، وجاء هذا الاتهام بعد سلسلةٍ من التطورات السياسية والأمنية التي زادت من حِدَّة التوتُّر بين البلديْن، ورفضت أبوجا تلك الاتهامات مؤكِّدةً أن موقفها من الأزمة في النيجر مبنيٌّ على الدفاع عن الديمقراطية والاستقرار الإقليمي، وليس التدخُّل في شؤون الدول المجاورة، كما وصفت فرنسا تلك الاتهامات، بأنها دعاية سياسية تهدف إلى تشويه صورتها بعد انسحاب قواتها من النيجر.
ج- إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية: بعد الانقلاب العسكري في النيجر، أعلنت دول مالي وبوركينا فاسو، دعمها للمجلس العسكري، وشكَّلت مع النيجر تحالُفًا عسكريًّا جديدًا معاديًا للإيكواس؛ الأمر الذي أدَّى إلى تصدُّع وحدة المنظمة الإقليمية، إضافةً إلى تراجُع نفوذ نيجيريا في المنطقة، بعد أن كانت القوة الإقليمية المهيمنة، كما أدَّى إلى تصاعُد الاستقطاب بين المعسكر الداعم للديمقراطية (نيجيريا وإيكواس) والمعسكر العسكري المناهض لها (النيجر، مالي، بوركينا فاسو)، فضلًا عن تعزيز الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا؛ ما زاد من عُزْلة نيجيريا عن جيرانها العسكريِّين الجُدُد.
د- العقوبات الاقتصادية المفروضة على النيجر:فرضت أبوجا بالتعاون مع إيكواس، عقوبات اقتصادية قاسية على نيامي، منها إغلاق الحدود البرية والجوية؛ ما أثَّر على التجارة الثنائية؛ حيث تمَّ إيقاف تدفُّق السلع بين الدولتين؛ ما أدَّى إلى رفْع أسعار السلع الأساسية في النيجر؛ إذ يعتمد السوق النيجري بشكلٍ أساسيٍّ على وارداته من نيجيريا، كما تمَّ قطْع إمدادات الكهرباء؛ حيث كانت نيجيريا توفر حوالي 70% من احتياجات النيجر الكهربائية عبْر (سد كاينجي)، وقد أثَّرت تلك العقوبات على الاقتصاد النيجري الهشّ، في ظل التقارُب المتنامي بين فرنسا والنيجر، في الآونة الأخيرة.[3]
مع استمرار العُزْلة الدبلوماسية للنيجر نتيجة العقوبات التي فرضتها مجموعة إيكواس بقيادة نيجيريا، إلى جانب موقف الاتحاد الأفريقي، يجد المجلس العسكري نفسه تحت ضغوطٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، قد تدفعه إلى إعادة النظر في مواقفه السياسية، وفي ظل التأثير المتزايد للعقوبات الاقتصادية، قد يضطر النظام الحاكم في النيجر إلى تبنِّي نهْجٍ أكثر مرونةً في سياسته الخارجية، عبْر فتْح قنوات الحوار مع نيجيريا وإيكواس؛ لتخفيف العُزْلة وإعادة الاندماج في المنظومة الإقليمية، أمَّا على الجانب الأمني، يُشكِّلُ تصاعُد نشاط الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل تحدِّيًا مشتركًا؛ ما يستدعي استئناف التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلديْن؛ إذ إن غياب التنسيق الأمني قد يؤدي إلى فراغٍ خطيرٍ يهدد المصالح الإستراتيجية لكلا الطرفين، ويزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
2- استمرار التوتُّرات الإقليمية وتصعيد الصراع الجيوسياسي:
قد يواصل المجلس العسكري في النيجر تمسُّكه بالسلطة ورفضه تقديم أيِّ تنازلات سياسية؛ ما يعمّق عُزْلته الإقليمية والدولية، ويُعزّز الضغوط المفروضة عليه، وفي الوقت ذاته، يؤدي التقارب المتزايد بين النيجر وكل من روسيا والصين وإيران إلى تصعيد الاستقطاب الدولي؛ ما يضع نيجيريا “الحليف الإستراتيجي للغرب” في موقفٍ مُعقَّدٍ، خاصَّةً في ظلِّ علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة وفرنسا، وعلى الصعيد الإقليمي، يسهم تحالف النيجر مع مالي وبوركينا فاسو في تشكيل محورٍ عسكريٍّ جديدٍ في الساحل؛ ما قد يضعف تماسُك إيكواس ويفرض تحديات على دورها كفاعلٍ رئيسيٍّ في إدارة الأزمات الإقليمية، ويهدد بتفكُّك المنظمة الإقليمية، في ظلِّ تصاعُد الخلافات بين أعضائها.
3- إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية وتحوُّلات في التحالفات الدولية:
يشهد غرب أفريقيا تصاعُدًا في التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى؛ حيث يسعى الغرب وروسيا إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة، من خلال دعم حلفائهما وتمكين الأنظمة الموالية لكل طرف؛ ما يعكس صراعًا إستراتيجيًّا متزايدًا على النفوذ، وفي هذا السياق، أدَّى انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من إيكواس إلى إضعاف فعالية المنظمة الإقليمية؛ ما قد يُمهِّدُ الطريق لنشوء كياناتٍ بديلةٍ تعيد رسْم ميزان القوى في غرب أفريقيا، وتحدُّ من نفوذ نيجيريا كلاعبٍ إقليميٍّ رئيسيٍّ، علاوةً على ذلك، يساهم انخراط قوى غير تقليدية، مثل تركيا وإيران في المنطقة، في إعادة تشكيل التحالفات السياسية والعسكرية؛ ما قد يؤثر على طبيعة العلاقات بين أبوجا ونيامي، ويُعيدُ صياغة التوازنات الإقليمية، وفْق معادلات جديدة.[4]
ختامًا:
اضطراب العلاقات بين نيجيريا والنيجر يعكس مزيجًا مُعقَّدًا من العوامل السياسية، الاقتصادية والأمنية؛ إذ لعبت نيجيريا دورًا مركزيًّا في الأزمة، لكنها واجهت تحديات غير متوقعة؛ بسبب التغيُّرات الجيوسياسية والتحوُّلات الإقليمية، ويعتمد مستقبل هذه العلاقات على كيفية تعامُل الطرفيْن مع الأزمة، إمَّا عبْر تصعيد الأمور أو التفاوض، ويرجع ذلك إلى مدى قدرة الطرفين على إدارة الخلافات عبْر القنوات الدبلوماسية، وتغليب المصالح الإستراتيجية المشتركة على الصراعات السياسية المؤقتة.
[2] نيجيريا ترفض اتهامات النيجر بتهديد أراضيها أو التعاون مع قوات أجنبية، قراءات أفريقية، ٢٣ ديسمبر 202٤، https://shorturl.at/XUvm3.
رغم الخلافات.. نيجيريا والنيجر توقعان اتفاقاً أمنياً، الشرق، ٣٠ أغسطس ٢٠٢٤، https://shorturl.at/q81V7 .
[3] د. محمود زكريا، مستقبل مضطرب: كيف تصاعدت التوترات بين نيجيريا والنيجر؟، انترريجونال للدراسات الإستراتيجية، ٢٠ يناير ٢٠٢٥، https://shorturl.at/R1ayo .
هل يصمد حال الحرب.. لماذا شكل حلفاء النيجر تحالفا عسكريا؟، عربية sky news، ١٩ سبتمبر ٢٠٢٣، https://shorturl.at/d6qUy .
[4] إيزيدور كوونو، ماذا يعني اتفاق التعاون العسكري بين النيجر ونيجيريا بالنسبة للأمن في منطقة الساحل؟، قراءات أفريقية، ٨ سبتمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/lEYl7 .
