في ظلِّ التحولاتِ الجيوسياسيةِ والاقتصادية العالمية، تَبرزُ الحاجةُ الملحّةُ لتعزيز الشراكات بين التكتلات الإقليمية والدول الصاعدة، ومن هذا المنطلق، تتجهُ الأنظارُ إلى العلاقة الناشئة بين رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) وكازاخستان، باعتبارها دولةً محوريةً في آسيا الوسطى ذات إمكانات اقتصادية وسياسية متنامية. يُطرح في هذا السياق تساؤل جوهري: هل يمكن لكازاخستان أن تشكّل بوابةً حقيقيةً للآسيان نحو آسيا الوسطى، أم أن العقبات الهيكلية والجيوسياسية ستُحبط هذه الطموحات؟ في هذا السياق، يستعرض المقال “Expanding Southeast Asia-Kazakhstan Dialogue: Strategic Imperatives”[1]الدوافع والتحديات الذي يجب أخذها في الاعتبار عند النظر لتوسيع الشراكة بين كازاخستان ورابطة دول جنوب شرق آسيا.
تبرزُ الضروراتُ الإستراتيجيةُ لتعميق مشاركة الآسيان مع كازاخستان بوضوح، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن مبرراتِ تعزيزِ هذه العلاقات مقنعة، فإن الفحص النقدي يكشف عن كلٍ من نقاطِ القوةِ والتحديات التي تواجه هذه المبادرة، يتمثلُ الطرحُ الرئيسيُ في اعتبار كازاخستان بوابةً إلى آسيا الوسطى، وهي منطقة اقتصادية نامية توفر فرصًا كبيرة للآسيان في مجالات التجارة والاستثمار والتعاون في مجال الطاقة، هذه الفرضية صحيحة، حيث إن القيادةَ الاستباقيةَ لكازاخستان في المنطقة ومبادراتها المتعددة الأطراف تتيحُ لدول الآسيان فرصًا لتنويع شراكاتها الاقتصادية. ومع ذلك، يبقى مدى قدرة كازاخستان على أن تكونَ بوابةً فعليةً محل جدل، نظرًا لتعقيدات الجغرافيا السياسية في آسيا الوسطى، حيث تتمتع روسيا والصين وقوى إقليمية أخرى بنفوذٍ واسعٍ، علاوةً على ذلك، ورغم أن انخراط الآسيان مع كازاخستان قد يساهم في توسيع التجارة وتنويع الاستثمارات، إلا أن غيابَ ممرٍ اقتصاديٍ قوي بين الآسيان وآسيا الوسطى، أو آليات مؤسسية تدعم التفاعلات الاقتصادية السلسلة، يشكّلُ تحديًا جوهريًا.[2]
الأمنُ الغذائي: فرصةٌ واعدةٌ أم تحديات لوجستية؟
إحدى النقاط الأكثر قوة في النقاش هي قدرةُ كازاخستان على تعزيزِ الأمنِ الغذائيِ للآسيان من خلال تصدير المنتجات الزراعية ورقمنة قطاع الزراعة، يدعمُ هذا الطرحَ الاستثماراتُ المستمرةُ لكازاخستان في التكنولوجيا الزراعية والحلول الرقمية، مما قد يوفر للآسيان رؤى وتقنيات قيّمة لتحديث قطاعها الزراعي، ومع ذلك، لا بد من التساؤل عن مدى قابليةِ التعاون الزراعي واسعِ النطاق، نظرًا للعقبات اللوجستية في النقل وإدارة سلاسل التوريد بين المنطقتين، يتطلبُ نجاحُ مبادرةِ مركزِ الأغذية الزراعية الكازاخستاني استثماراتٍ بنيويةً كبيرةً لجعلها قابلةً للتطبيق في أسواق الآسيان، ورغم أن اتفاقية تايلاند مع كازاخستان تمثلُ خطوةً واعدةً، إلا أن تأثيرَها طويلُ الأمدِ لا يزالُ غيرَ مؤكدٍ، ومن أجل تحقيق أقصى استفادة من الإمكانيات الزراعية لكازاخستان، ينبغي على كلا الجانبين العملُ على تحسين الربط التجاري عبر تطوير طرق التجارة، وربما الاستفادة من شبكات السكك الحديدية الإقليمية لتقليلِ تكاليفِ المعاملاتِ وتعزيزِ التكاملِ السلس لسلاسل التوريد.[3]
أما على الصعيد السياسي والأمني، فإن الحجةَ القائلةَ بأن سياسةَ كازاخستان الخارجية متعددةُ الاتجاهاتِ تتماشى مع مبادئ الآسيان في الحياد وعدم الانحياز تعد مقنعة، توفر مشاركة كازاخستان في المنصات متعددة الأطراف، مثل مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (CICA)، فرصة للآسيان للمشاركة في مناقشات أمنية أوسع نطاقًا تتعلقُ بالمنطقة، كما أشار المقال إلى أن استجابةَ الآسيان تجاه (CICA) كانت فاترةً ربما يعودُ السببُ إلى العقباتِ اللوجستيةِ وانخفاضِ الوعي المتبَادل، مما يثيرُ تساؤلاتٍ حول مدى أهمية هذا الانخراط بالنسبة للآسيان، وبينما تتماشى مجالات التركيز الجديدة لـ(CICA)، مثل مكافحة الإرهاب والتهديدات السيبرانية، مع الأولويات الأمنية للآسيان، فإن مدى فعالية هذه المنصة في تحقيقِ تعاونٍ أمنيٍ ملموسٍ لا يزالُ غيرَ واضح، قد تعرقل تفضيلات الآسيان للمنصات الأمنية الراسخة، مثل منتدى الآسيان الإقليمي (ARF)، مشاركتها الفعالة في (CICA) علاوة على ذلك، قد تؤدي عملية اتخاذ القرار التوافقية في الآسيان إلى إبطاء أي مبادرة تتطلب تعاونًا أمنيًا عميقًا، لا سيما مع دولة غير عضو مثل كازاخستان.
يمثلُ التعاونُ في مجالاتِ التنمية المستدامة والسياسات الرقمية بين الآسيان وكازاخستان فرصةً مثيرةً للاهتمام، لكنها تستوجبُ مزيدًا من التدقيق، إن الإشارةَ إلى احتياطياتِ كازاخستان الكبيرة من الليثيوم كموردٍ حيوي لانتقال الآسيان إلى الطاقة الخضراء تعدُ ملاحظةً قيمةً، لا سيَّما مع دفْعِ دول الآسيان نحو زيادة اعتماد المركبات الكهربائية وحلول الطاقة المتجددة
المؤسسيةُ والاجتماعيةُ الثقافية
تُشكّل العوائقُ الأساسية أمام تعميقِ العلاقات بين الآسيان وكازاخستان، تعتّر العقبات المؤسسية، وخاصة تجميد الآسيان لطلبات الشراكة الحوارية الجديدة منذ عام 1999، عائقًا رئيسيًا، ورغم أن طلب كازاخستان ظل معلقًا منذ عام 1995، لكنه لطالما توخت الآسيان الحذر في توسيع التزاماتها الدبلوماسية، خوفًا من أن يؤديَ إضافةُ شركاءَ جددٍ إلى تقويض فعاليتها، ومن ثم يجب أن يكونَ موقفُ كازاخستان كمرشحٍ لشراكة الحوار مقنعًا بما يكفي لتجاوز هذه العقبة المؤسسية، في هذا السياق يشكل اقتراح منصة (C5+1) بديلًا واعدًا، لكن خطرَه يتمثل في تهميش المبادرات الثنائية الخاصة بكازاخستان لصالح نهج أوسع وأقل تركيزًا في الحوار بين آسيا الوسطى والآسيان، سيكون تحقيق التوازن بين المبادرات الثنائية مع كازاخستان والحفاظ على نهجٍ إقليميٍ أشمل أمرًا حاسمًا في التغلب على هذه القيود المؤسسية.
أخيرًا، لا يمكنُ تجاهلُ العوائقِ الاجتماعية والثقافية التي تحدُّ من التفاعل بين الآسيان وكازاخستان، أشار المقال بحق إلى أن كازاخستان لا تزالُ غيرَ معروفةٍ نسبيًا في جنوب شرق آسيا، مما يؤثر على عمق التبادل الثقافي والسياحي، وعلى الرغم من أن المبادراتِ الحديثةَ، مثل سياسات الإعفاء من التأشيرة والرحلات الجوية المباشرة، تُعدُ تطوراتٍ إيجابيةً، إلا أنها لا تزالُ محدودةَ النطاق، يعود نجاح مشاركة الآسيان مع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى حدٍ كبيرٍ إلى التبادلات الثقافية القوية والبرامج التعليمية، وهو ما تفتقر إليه العلاقات بين الآسيان وكازاخستان حاليًا. ولردم هذه الفجوة، ينبغي على الطرفين إعطاء الأولوية للشراكات الأكاديمية وبرامج تبادل الطلاب والتعاون الإعلامي لتعزيز الفهم المتبادل[4].
ختامًا:
على الرغم من أن الأسسَ الاستراتيجيةَ لتعميق العلاقات بين الآسيان وكازاخستان قوية، إلا أنه يجبُ معالجةُ العديدِ من التحديات لتحقيق تعاون فعلي، يقدم التعاون الاقتصادي فرصًا واعدة، لا سيَّما في مجالات التجارة والأمن الغذائي والتحول الرقمي، لكنه يتطلبُ بنيةً تحتيةً قويةً ومواءمةً تنظيمية، يبقى التعاون السياسي والأمني ممكنًا عبر المنصات متعددة الأطراف، إلا أن ترددَ الآسيان المؤسسي قد يعوق التقدم. في المقابل، سيكون تجاوز العوائق الثقافية والاجتماعية أمرًا أساسيًا لتعزيز العلاقات بشكل أعمق، ومن أجل المُضي قدمًا، يجب على الآسيان موازنةُ القيودِ المؤسسيةِ مع الفوائد الاستراتيجية المحتملة لتعزيز الشراكة مع كازاخستان، مما يضمن أن تكونَ أي أُطرٍ أو شراكاتٍ جديدة مستدامة ومفيدة للطرفين.
