في ظلّ التحولاتِ الجيوسياسيةِ المتسارعةِ، يَبرزُ التوسعُ النووي الصيني كعاملٍ محوريٍ يعيد تشكيل موازين القوى العالمية، فبينما تواصل بكين تحديث وتعزيز قدراتها النووية بمعدلات غير مسبوقة، تتباينُ مواقفُ القوى الكبرى تجاه هذا التطور، إذ تنظرُ الولاياتُ المتحدة إلى هذه الديناميكية باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا يتطلبُ تعزيزَ الردعِ النووي، بينما تفضل الهند اتّباعَ نهجِ الترقّبِ والتمهل دون تصعيد، في حين تستفيد روسيا من تعميق تعاونها النووي مع الصين، مستثمرةً هذا التوازن لمصالحها الخاصة. في هذا السياق، تتشابك المصالح الأمنية والاقتصادية للدول الكبرى، مما يطرحُ تساؤلاتٍ حول مستقبل الاستقرار الاستراتيجي في آسيا والعالم.
توسّعُ الصين نووياً:
تشيرُ تقاريرُ عدةٌ من بينها تقارير البنتاجون ومعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن الصين توسع ترسانتها النووية بشكل أسرع من أي دولة أخرى، لكنها لا تزالُ متخلّفةً عن الولايات المتحدة وروسيا. وقد ينتهي بها الأمر إلى إنتاج صواريخ باليستية عابرة للقارات أكثر مما تنتجه روسيا أو الولايات المتحدة في غضون عقد من الزمن.[1]
ويشير استراتيجيون صينيون بشكلٍ متزايدٍ إلى الأسلحة النووية الحديثة التي تمتلكها البلاد باعتبارها «ورقة رابحة» يمكن أن تُستخدمَ لردعِ التدخلِ الخارجيِ في الشؤون الإقليمية. كما خلص العديد من المحللين العسكريين الصينيين إلى أن الإكراه النووي الذي استخدمه “بوتين” خلال حربه في أوكرانيا حال دون تدخل حلف شمال الأطلسي بشكل أكبر في النزاع، ما يوحي بأن الصين قد تستخدم ترسانتها النووية لتحقيق أهداف مماثلة.[2]
كذلك يشيرُ خبراءُ صينيون إلى نجاح الاتحاد السوفييتي في تغيير السياسة النووية الأميركية عن طريق توسيع ترسانته النووية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث تغيرتْ سياسةُ الولايات المتحدة من التهديد بردٍ نوويٍ واسعٍ على أي هجوم من الاتحاد السوفييتي إلى ردود أكثر عقلانية ومرونة، ويربطون ذلك بسياسات واشنطن تجاه تايوان.[3] بذلك يشير الواقع الجديد أن التوسع والتحديث النوويين في الصين لهما بالفعل آثارٌ كبيرةٌ على الأمن الأمريكي والعالمي ومن المرجح أن تتوسع هذه الآثار مع تعاظم الترسانة النووية في الصين.[4]
تفاعلٌ أمريكيٍ:
وفقًا لوسائل إعلام أمريكية، من بينها نيويورك تايمز، أقرت إدارة جو بايدن في مارس 2024 خطةً استراتيجيةً نوويةً سريةً تهدف إلى تعزيز الردع النووي الأمريكي، مع التركيز بشكل خاص على تنامي القدرات النووية الصينية. وتأتي هذه الاستراتيجية في سياق النهج الأمريكي طويل الأمد لمواجهة صعود الصين، وهو التوجهُ الذي دفع ترامب خلال ولايته الأولى، إلى الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا في 2 أغسطس 2019، تمهيدًا لإبرام اتفاق جديد يشمل القوى الثلاث.
وتشيرُ بياناتُ مكتب الميزانية بالكونغرس إلى تخصيص 75 مليار دولار سنويًا خلال الفترة من 2023 إلى 2032 لتحديث النووي الأمريكي، ويشملُ ذلك تطويرَ أنظمة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وتعزيز قدرات الغواصات النووية.[5]
وفي 13 فبراير 2025، أعرب ترامب عن رغبته في استئناف محادثاتِ الحدِ من التسلّح النووي مع كلٍّ من روسيا والصين، داعيًا إلى اتفاقٍ ثلاثيٍ يهدفُ إلى خفض الميزانيات الدفاعية، منتقدًا استمرار سباق التسلح وتكديس الأسلحة النووية.
حساباتُ الهند الإستراتيجية:
لم تعلّقْ الحكومةُ الهنديةُ على التطورات النووية الصينية، ولم تُعلنْ عن أي تغييرات في عقيدتها أو موقفها، كما أن المناقشة الهندية حول كيفية الاستجابة لا تزالُ هزيلةً إلى حدٍ ما من حيث المقالات المنشورة والمؤتمرات حول هذا الموضوع، وهذا ليس مفاجئاً، لأن الهند لم تعلقْ تقليدياً على التغيرات في الموقف العسكري الصيني، وترى أن تبنّي الصين لمبدأ عدمِ الاستخدام الأول والالتزام بعدمِ استخدامِ الأسلحةِ النووية أولاً في مواجهة عسكرية – مستقر نسبياً.[6]
لقد ظلّ العاملُ النوويُ غائباً نسبياً عن العلاقة بين الصين والهند، حيث كانت الاستراتيجية النووية الهندية تتعامل في المقام الأول مع باكستان، في حين تستهدفُ الاستراتيجيةُ النوويةُ الصينيةُ الولايات المتحدة، وقد تمَّ التأكيدُ على ذلك من خلالِ الاتفاقيات المِبرمةِ بين البلدين في عامي 1993 و1996 والتي ركزت على الحفاظ على السلام على طول المناطق الحدودية بين الهند والصين، كما أن المخاوف الأساسية للهند في علاقتها الدفاعية مع الصين تتلخص في قدراتها العسكرية التقليدية، حيث امتنعتا عن التطرقِ إلى التهديدِ بالتصعيد النووي في الصراعات. ويمكن القول إن سياساتِ الردع التي تنتهجها كلٌ من الدولتين تجعلُ من غيرِ المرجّحِ أن تلعبَ الأسلحةُ النوويةُ دوراً في الصراع العسكري بينهما.[7]
رغم رغبة الولايات المتحدة في احتواء الصين، فإن الهند تبنّتْ نهجًا حذرًا، وقد تمكنت نيودلهي من إقناع واشنطن بالاعتراف بها كدولةٍ نوويةٍ مسؤولةٍ ذات تكنولوجيا نووية متقدمة، دون التوقيع على معاهدة منع الانتشار النووي، كما حصلت على استثناء يسمح لها بالتجارة النووية الدولية خارج إطار تلك المعاهدة.
ففي عام 1998، أعلنت الهند نفسها دولةً نوويةً، ما أثارَ انتقاداتٍ حادةً من الولايات المتحدة التي اعتبرت التجارب النووية الهندية تهديدًا لنظام منع الانتشار النووي وخطراً على السلام والأمن الدوليين[8]. وردًا على ذلك، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على نيودلهي. ومع ذلك، بدأت الولايات المتحدة لاحقًا مفاوضات مع الهند لاستكشاف الفرص المتاحة لتحسين العلاقات بين البلدين[9]، خاصة في ظل تزايد نفوذ الصين في آسيا.
وفي عام 2005، أبرمتْ الهندُ صفقةً نوويةً مع الولايات المتحدة لا تلزمها بتقييد عدد الأسلحة النووية التي تُخططُ لإنتاجها. واعتبر المراقبون أن إدارة جورج بوش الابن كانت تأمل أن تصبحَ الهندُ القوةَ الصاعدةَ في آسيا لموازنة النفوذ الصيني[10]. وردًا على هذا التحرك، قامت الصين بتعزيز تعاونها النووي مع باكستان، حيث وافقت على بناء محطتين للطاقة النووية في إسلام أباد.
في ظل هذا السياق، وجدت الهند نفسها في وضعٍ استراتيجيٍ معقّدٍ، إذ سعت إلى تحقيق مكانة دولية مرموقة، لكنها في الوقت ذاته واجهتْ تحدياتٍ متزايدةً، خاصةً مع تعزيز باكستان لقدراتها النووية بدعم صيني[11]. ومع تنامي العلاقات الباكستانية-الصينية، أصبح التصعيد النووي يمثلُ مشكلةً متفاقمةً للهند من جانب الباكستاني.[12]
وعلى مدار السنوات، تطورت العلاقة بين الهند والولايات المتحدة، حيث بدأت واشنطن برفع القيود تدريجيًا عن الكيانات الهندية المرتبطة بالبرنامج النووي. وفي عام 2025، باتت قائمةُ وزارةِ التجارةِ الأمريكيةِ تشملُ أربعَ كياناتٍ فقط تابعة لوزارة الطاقة الذرية الهندية بعد أن كانت العقوبات تطال 200 كيان هندي، مما يعكس تحولًا في السياسة الأمريكية تجاه الهند كحليف استراتيجي في مواجهة النفوذ الصيني. [13]
إن الاستقرارَ الاستراتيجيَ الأكبرَ في العلاقات الصينية الهندية قد يزيد بشكل كبير من خطر التصعيد على مستويات أدنى من الصراع. على سبيل المثال، الدخول في سباق تسلح تقليدي.[14]
ويمكن قراءة ذلك في لقاء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بترمب في البيت الأبيض، فبراير الماضي، حيث بحثا تطوير التعاون العسكري، كما جرتْ محادثاتٌ بشأنِ عددٍ من المشتريات الدفاعية الجديدة، وتكامل سلاسل التوريد في الصناعات الدفاعية، تقديم دعم للتعاون المتنامي في مجال الابتكار الدفاعي، واتفقت الهند والولايات المتحدة على العمل معًا لوضع إطار شامل للتعاون الدفاعي.
مخاوفُ الصين:
يرى مراقبون أن الترابطَ الاقتصاديَ المتبادل بين البلدين قد يجعل الهند ترى الصين منافساً استراتيجياً، ولكنه سيمنع استخدام الأسلحة النووية، حيث تنظر الدولتان إلى العلاقات المتبادلة على أنها تعاونيةٌ نسبيًا على المستوى الدولي، مدفوعة بمصالحهما المشتركة كدولتين ناميتين كبيرتين وكلاعبين صاعدين في السياسة العالمية، رغم أن العلاقاتِ أكثر تنافسية على المستوى الإقليمي. ويساهم في هذا التنافس قضايا مثل المياه والنزاع الحدودي في جبال الهيمالايا والعلاقات المتناقضة بين البلدين وباكستان والرؤى المتباينة للبنية الأمنية المستقبلية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ومع ذلك يشعر المراقبون الصينيون بالقلق من التعاون الدفاعي الصاروخي بين الولايات المتحدة والهند، وينظرون إلى الهند باعتبارها حليفاً أمنياً بحكمِ الأمرِ الواقعِ للولايات المتحدة. وهناك قلقٌ متزايدٌ من أن الولايات المتحدة تستخدم التعاون في مجال التكنولوجيا الدفاعية “كأداة رئيسية لتسريع الارتباط الاستراتيجي الثنائي بين الولايات المتحدة والهند.
إن التوازنَ الاستراتيجيَ في جنوب آسيا مهم بالنسبة للصين، فالمنافسة النووية الأكثر كثافة في جنوب آسيا من شأنه أن يؤثر حتماً على المصالح الصينية في هذه المنطقة، وخاصةً خططها لتعزيز الاستقرار والتكامل الاقتصادي الأكبر من خلال مبادرة الحزام والطريق والممر الاقتصادي الصيني الباكستاني على وجه الخصوص.[15]
روسيا قد تشارك ُفي ضبط الإيقاع:
لدى روسيا أوراقٌ استراتيجيةٌ تلعبُ من خلالها دورًا محوريًا في إدارة التنافس بين الولايات المتحدة والصين من جهة، نظرًا لعلاقاتها الوثيقة مع بكين، إضافة إلى سعيها لاستثمار التقارب المحتمل مع واشنطن بعد الحرب الأوكرانية.
تعتمد الصين بشكل متزايد على روسيا في قطاعها النووي. فقد أظهرت بيانات الجمارك الصينية أن بكين زادت وارداتها من اليورانيوم الروسي بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال عام 2024، مما جعلَ روسيا الموردَ الرئيسيَ لليورانيوم للصين. وفي خُطوةٍ رمزيةٍ للرد على الحظر الأمريكي لواردات اليورانيوم الروسي، فرضت موسكو قيودًا مؤقتة على صادرات اليورانيوم المخصب إلى الولايات المتحدة، علمًا بأن روسيا تمتلك نحو 44% من قدرة تخصيب اليورانيوم عالميًا، وتُعدُ أكبرَ موردٍ لليورانيوم المخصب في العالم. كما أن نحو 35% من واردات الوقود النووي الأمريكية كانت تأتي من روسيا، وفقًا لمكتب الطاقة النووية الأمريكي.
يثير هذا التعاون النووي بين موسكو وبكين مخاوف في واشنطن، حيث يُنظر إليه على أنه ورقةٌ مُساومةٌ جيوسياسيةٌ تعززُ التوسّعَ السريع في الترسانة النووية الصينية. ووفقًا لتقرير نشرته بلومبرغ، فإن هذه الشراكة تمثل تهديدًا لجهود عدم الانتشار النووي، خاصة أن بيانات المعهد الملكي للخدمات في لندن أظهرت أنه بين سبتمبر وديسمبر 2022، قامت روسيا بتصدير يورانيوم مخصب بدرجة عالية إلى الصين لاستخدامه في مُفاعلها النووي، بما يوازي سبعةَ أضعافِ الموادِ النووية التي تم التخلص منها عالميًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحت إشراف الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية. [16]
إذا تحسنتْ العلاقاتُ بين روسيا والولايات المتحدة بعد الحرب الأوكرانية، فقد تتفاوض واشنطن مع موسكو على خفض دعمها النووي الواسع للصين، بذلك تكون روسيا وليس الهند هى خيار الولايات المتحدة لمواجهة التوسع النووي الصيني.
ختامًا:
في ظلِ التغيراتِ المتسارعةِ في المشهد النووي العالمي، يبقى التوسّعُ الصينيُ عاملاً رئيسيًا يُعيدُ رسْمَ الحسابات الاستراتيجية للقوى الكبرى. وبينما تتخذ الولايات المتحدة خطوات استباقية لتعزيز ردعها النووي، وتستمر الهند في مراقبة التطورات بحذر، تستفيدُ روسيا من موقعها كلاعبٍ رئيسيٍ قادرٍ على المناورة بين الأطراف المختلفة. ومع ذلك، فإن مستقبلَ هذا التنافس لن يتحددَ فقط بميزان القوى العسكرية، بل أيضًا بقدرة الدول على إدارة علاقاتها التجارية والدبلوماسية، وتجنّبِ الانزلاقِ نحو تصعيدٍ غير محسوبٍ قد يهددُ الأمنَ والاستقرارَ العالميين.
[6] See: Rajeswari Pillai Rajagopalan.. Assessing India’s Perceptions of China’s Nuclear Expansion.. (USA: UNITED STATES INSTITUTE OF PEACE. SPECIAL REPORT. NO. 535. JANUARY 2025.
[9] Himadeep Muppidi, “Colonial and Postcolonial Global Governance,” in Power in Global Governance, ed. M. Barnett and R. Duvall (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), p. 289.
[15] See: Toby Dalton and Tong Zhao. At a Crossroads? China-India Nuclear Relations After the Border Clash. CARNEGIE ENDOWMENT FOR INTERNATIONAL PEACE. 2020
