يشهدُ إقليم التيجراي الإثيوبي حالةً من الانقسام الداخلي بين رئيس جبهة تحرير التيجراي “دبراصيون جبراميكائيل”، ورئيس الإدارة المؤقتة لمنطقة تيجراي والمتحدّث السابق للجبهة “غيتاتشو ردا” الفصيلين المتنافسين، وتصاعد حدة النزاع بينهما، وذلك الأمر إذا تطوَّر قد لا يكون له تبعات على الداخل الإثيوبي فحسب، بل ربما تمتدُّ تبعاته إلى المنطقة، كما أنه قد ينذر بعودة الحرب الأهلية السابقة التي عاش السكان على وقْعها أزمات طاحنة، إلا أن رئيس الوزراء الإثيوبي قد يتدخل على خطِّ هذه الأزمة للتوسُّط وإيجاد حلولٍ من شأنها تجنيب البلاد حالة من الفوضى الجديدة.
أسباب التوترات في إقليم التيجراي
شهدت الفترة الأخيرة تصاعُدًا لحدَّة النزاع بين الفصيلين المتنازعين داخل جبهة تحرير التيجراي، فبعد أن قامت حكومة أديس أبابا بتعيين غيتاتشو ردا رئيسًا للإدارة المؤقتة بالإقليم، مارس 2023، والتي تمَّ تشكيلها بموجب اتفاق سلام بريتوريا بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي، 2022، قُوبل ذلك بمعارضة من قبل دبراصيون جبراميكائيل زعيم جبهة التيجراي، ويرجع سبب هذا التوتُّر إلى قيام إدارة غيتشاتشو بإيقاف أربعة من كبار القادة العسكريين لقوات التيجراي؛ بحجة انخراطهم في أنشطة مخالفة لقرارات حكومة الإقليم وتهديد أمنه الداخلي؛ بما قد يدفعه نحو صراع داخلي.
الأمر الذي رفضه جبراميكائيل والقادة العسكريون التابعون له؛ وكنتيجةٍ لعملية توقيف القادة، قامت مجموعات عسكرية تابعة للجبهة- التي لم يكتمل تسريحها بموجب اتفاق بريتوريا- بالسيطرة على عددٍ من الإدارات الحكومية في عدة مدن، أعقبها اندلاع مواجهات مع موالين لرئيس الإدارة المؤقتة، ليس ذلك فحسب، بل تصعَّد الأمر بقيام دبراصيون بالسيطرة على محطة “مقلي” الإذاعية ومدينة ميكيلي عاصمة الإقليم وأطاح برئيس البلدية المُعين من قِبَلِ ردا، كما استولت قوات موالية لديبراصون، 11 مارس 2025، على مدينة أديغرات، ثاني أكبر مدينة في تيجراي، ومن هنا؛ تأزَّم الوضع السياسي في البلاد، والذي إذا ما تطوَّر ربما يصل إلى حدِّ الصراع المسلح، وربما إشعال حرب جديدة في المنطقة.
سياق الأزمة
تأتي هذه الأزمة في سياقٍ من التوتُّر المستمر، الذي لم ينتهِ قط، بالرغم من اتفاق السلام المُوقع نوفمبر 2022، والذي أنهى حالة الحرب التي دامت لمدة سنتين بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيجراي، وقد اشتمل هذا الاتفاق على ترتييات أمنية، بموجبها يتمُّ حل قوات الجبهة وتسريحها ثم إعادة دمْجها في القوات الفيدرالية للدولة، إلَّا أن هذه الإجراءات لم تُنفَذ حتى اليوم؛ حيث إن الجبهة ما زالت تحتفظ بآلاف المقاتلين، بما يثير تخوُّفًا بشأن وقوع مواجهات بينها وبين الجيش الإثيوبي، لا سيما بعد طلب رئيس الإدارة المؤقتة مساندة الحكومة الفيدرالية.
على الصعيد الآخر، يرى دبراصيون أنه الجهة الشرعية التي وقَّعت – قبْل سابق – على اتفاق السلام مع الحكومة، في حين أن وجود غيتاتشو غير قانوني، مع توجيه الاتهام له بأنه موالٍ لحكومة آبي أحمد[1]، وعلى خلفية هذه التوتُّرات، سعى سكان التيجراي، 14 مارس الجاري، إلى سحْب أموالهم من البنوك؛ خشية تعليق الخدمات، كما قاموا بتخزين إمدادات الطعام؛ خوفًا من حدوث تضخُّم، فقد شكَّل حصار ميكيلي خلال الحرب السابقة هاجسًا لدى المواطنين، من احتمال تكرار تلك المأساة مرة أخرى؛ ما دفعهم للتوجُّه إلى المطار لمغادرة المنطقة، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك.[2]
المواقف الدولية والإقليمية
في ظل هذه التطورات المتسارعة، أُثيرت دعوات دولية من قِبَلِ سفارات أجنبية منها، الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان والاتحاد الأوروبي؛ لإحكام السيطرة على هذه التوتُّرات وعدم تصعيد الأمر؛ حفاظًا على أمن واستقرار المنطقة، وصوْنًا لاتفاق السلام، وأكَّدت على أن العنف ليس خيارًا، ومطالبة جميع الأطراف بخفْض التصعيد والانخراط في حوار مباشر، وأعربت الأمم المتحدة عن قلقها إزاء تدهور الأوضاع، والتشديد على أهمية الانصياع لاتفاق وقْف الأعمال العدائية؛ تحقيقًا للاستقرار في إثيوبيا، ومن جانبها؛ طالبت فرنسا رعاياها في التيجراي بضرورة توخِّي الحذر، وعدم التنقل في المناطق المضطربة، وتخزين المواد الأساسية.[3]
أمَّا الاتحاد الإفريقي، فقد أعرب عن قلقه تجاه تطورات الأوضاع في إقليم تيجراي؛ حيث تهدد الخلافات السياسية بين الفصائل المتناحرة اتفاق السلام الهشّ الذي أنهى الحرب في المنطقة، وأكَّد أنه يتابع عن كثب تصاعُد التوترات داخل جبهة تحرير تيجراي؛ محذِّرًا من خطورة الوضْع على الاستقرار الإقليمي، كما شدَّد على أهمية احترام اتفاق السلام؛ داعيًا جميع الأطراف إلى ممارسة ضبْط النَّفْس والانخراط في حوار بناء؛ لتهيئة الأجواء للمصالحة الوطنية والتنمية المستدامة، والحيلولة دون انزلاق الإقليم في دوامة جديدة من العنف.[4]
هل تدخلت إريتريا على خط الأزمة؟
تُثار التساؤلات والمخاوف حول ما إذا كان لإريتريا دور في هذا النزاع، ويرى البعض، أن فصيل من قيادات جبهة التيجراي تسعى للتحالف مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي؛ رغبةً في تأمين وحماية مصالحها، بالرغم من التداعيات الوخيمة التي يمكن أن تترتب على ذلك، بخاصةٍ في ظل حالة العداء الشديد بين حكومتيْ أسمرة وأديس أبابا، وتراجع مستوى العلاقات إلى حدٍّ قد يصل إلى اندلاع صراعٍ جديدٍ، خاصَّةً بعد اتفاق السلام الذي عقده رئيس الوزراء الإثيوبي مع التيجراي 2022، واستياء الجانب الإريتري من هذه الخطوة، فضلًا عن طموحات آبي أحمد للحصول على منفذٍ على البحر الأحمر؛ لهذا فقد يكون عدم استقرار الأوضاع في التيجراي بمثابة الشرارة التي تؤدي إلى مواجهة بين إثيوبيا وإريتريا، قد تمتدُّ لتشمل المنطقة بأسرها.[5]
سيناريوهات محتملة
قد يشكل اتساع الفجوة بين الفصائل المتنافسة في التيجراي إلى تسابق كل طرفٍ للحصول على تأييدٍ شعبيٍّ وحشد قوات أمنية تيجرانية إلى صفِّهِ؛ لذا فثمَّةَ بعض المسارات التي يمكن أن تحدث خلال الفترة القادمة:
السيناريو الأول
إحداث توافُق سياسي:باسترجاع التاريخ، يُلاحظ أن الحرب التي شهدها إقليم التيجراي قبْل سابق لن يُسمح لأن تتكرر ثانية وتتحول أرض التيجراي إلى ساحة معركة جديدة، وعليه؛ فربما يسعى آبي أحمد إلى احتواء هذين الفصيلين، عبْر الانخراط في مناقشات تشمل إحداث توافق بينهما وإيجاد أرضية مشتركة تضمن حلَّ هذه الأزمة، عبْر الحوار والتفاهم بما يضمن وحدة شعب التيجراي، خاصَّةً بعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإثيوبي، فبراير الماضي، فيما يتعلق بدعوة الجانبين إلى حلِّ خلافاتهم بشكلٍ سلميٍّ؛ ما يضمن لآبي أحمد الحفاظ على صورته أمام المجتمع الدولي والداخل الإثيوبي، وأنه من أطفأ فتيل هذه الحرب قبل ذلك، فكيف لها أن تعود مرة أخرى؟!
السيناريو الثاني
تفاقم حدة الخلاف السياسي:إن المسار الذي أخذته حالة الانقسام بين قادة التيجراي، قد تدفع نحو تفاقم الخلاف السياسي بين الطرفين، لا سيما في ظلِّ التطورات التي سبق ذكرها، مع محاولات من قِبَلِ الحكومة الإثيوبية لإعادة الأوضاع إلى مربع الاستقرار مرة أخرى، ولكن قد تفشل كل هذه المساعي؛ حال إصرار كل طرف وتمسُّكه بمطالبه، وهذا السيناريو ربما يكون المتوقع حدوثه خلال الفترة القادمة، في ظلِّ حالة التأزُّم السياسي في الإقليم، وقد يصل الأمر في نهاية المطاف إلى حدِّ التصعيد العسكري.
السيناريو الثالث
تصعيد عسكري: تُثار التخوُّفات من اتساع حلقة التوتر السياسي بين جبراميكائيل وردا، وذلك في حال تعثرت جهود الوساطة والتهدئة بينهما، ووصل الأمر إلى حدِّ الصدام العسكري وربما الحرب، مثلما حدث قبْل ذلك، إلا أن هذا المسار يشكل خطورةً بالغةً على أمن واستقرار ليس إقليم التيجراي فحسب، بل إثيوبيا أيضًا، وربما تصدير عدوى هذا النزاع إلى المنطقة ككل، في وقتٍ تعاني فيه من أزمات طاحنة أخرى؛ لذا فهذه الفرضية مستبعدةٌ بشكل كبير، ولكن إذا تمَّ تصعيد الوضع وأصر كل طرف على مطالبه، قد يحدث أزمة أمنية داخلية لن يكون محمود عقباها حال تحققها.
ختامًا:
إن ما يحدث في الداخل التيجراني، قد يُنذر بانهيار اتفاق بريتوريا للسلام، الذي كان من المفترض أن يطوي صفحة الخلاف الذي شهده إقليم التيجراي، ومن المتوقع، أن تستمر الأزمة بين الطرفين المتنازعين، وقد تصل أيضًا إلى حدِّ التصعيد العسكري، ويفترض أن يعمل آبي أحمد على التوسُّط بين طرفيْ النزاع لإحتواء الأزمة قبْل أن يتطور الوضع، بما قد يضعه في مأزق، خاصةً في ظل تراجُع الأوضاع الأمنية في إقليم الأمهرة، والخوف من اتساع رقعة الصراع إلى باقي الأقاليم الإثيوبية، في وقتٍ يسعى فيه لتحسين صورته، وأنه راعي السلام والاستقرار في المنطقة، وحتى وإن كانت تحرُّكاته تُنافي ذلك.
