أصدرت محكمة فرنسية في 31 مارس الماضي حكما قضائيا ضد الزعيمة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، في تطور هام أثار العديد من التساؤلات حول مستقبل اليمين المتطرف في فرنسا، حيث نتج عن الحكم منع لوبان من الترشح في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة لعام 2027، كما جاء الحكم بعد إدانتها بتهمة اختلاس أموال الاتحاد الأوروبي لمصالح شخصية، وهو ما يؤثر بشكل كبير على طموحاتها السياسية، خصوصًا بعد أن كانت تعد من أبرز المرشحين لخلافة الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وشمل الحكم القضائي أيضًا عقوبات مالية بالإضافة إلى عقوبات بالسجن لمدة أربع سنوات، وهو ما أثار جدلًا واسعًا على المستوى المحلي والدولي، حيث اعتبرته لوبان خطوة سياسية تهدف إلى عرقلة مسيرتها السياسية. وفي الوقت نفسه، فتح القرار الباب أمام عدة تساؤلات بشأن تأثيره على الانتخابات الرئاسية القادمة ومستقبل الحزب الذي تقوده.
عقوبات مشددة واستبعاد من الانتخابات
يُنظر للحكم الصادر بحق مارين لوبان من منظور آخر أبعد من كونه حكما قضائيا أو إجراء قانوني واجب النفاذ أوحتى عقوبة جنائية عابرة، بل يمثل لحظة هاما في المشهد السياسي الفرنسي، وتحديدا فيما يتعلق باليمين المتطرف، خاصة حزب التجمع الوطني الذي تأسس على إرث عائلة لوبان. ويتضمن الحكم حبس لوبان أربع سنوات، منهما سنتان مع إيقاف التنفيذ، وسنتان تحت الإقامة الجبرية مع ارتدائها سوار إلكتروني وتغريمها 100 ألف يورو. ليس هذا فحسب، بل تضمن الحكم أيضا منع لوبان من الترشح لأي منصب انتخابي لمدة خمس سنوات، أي عمليا يستبعدها من سباق الرئاسة في 2027، وهو السباق الذي كان يعتبره الحزب بمثابة فرصة كبيرة للوصول إلى السلطة، لا سيما في ظل تنامي المد اليميني في أوروبا وحالة النشوى التي يعيشها هذا التيار بفضل تراجع ثقة الشعوب في النخب التقليدية على غرار ما حدث في الولايات المتحدة.
وقد رأت المحكمة أن مارين لوبان استخدمت أموال البرلمان الأوروبي ليس في خدمة العمل النيابي أو التشريعي، بل لدعم أنشطة الحزب، ولدفع رواتب لمتعاونين لا علاقة لهم مباشرة بالعمل البرلماني. وهذا، وفقاً لما ورد في نص الحكم، يُعد تهديدا خطيرا للنظام العام، وتقويضاً للمنظومة الديمقراطية من الداخل.
ومن اللافت أيضاً أن المحكمة قررت تنفيذ الحكم فوراً، رغم قابليته للاستئناف، في إشارة واضحة إلى أنها لا تسعى إلى العقاب فحسب، بل إلى إرسال رسالة ردع[1]. وهذا يضع الحزب أمام معضلة حقيقية تتمثل في مدى استطاعة الحزب إيجاد بديل فعلي يسد الفراغ ويعوض غياب لوبان، ومدى إمكانية إيجاد شخصية أخرى قادرة على حشد الشارع والحفاظ على القاعدة الانتخابية الواسعة.
بشكل عام، فإن هذا الحكم لا يُعد مجرد واقعة قانونية، بل منعطفا سياسيا حادا قد يعيد رسم موازين القوى في ضوء الانتخابات المقبلة، إذ إن غياب لوبان – إذا ما تأكد – سيترك فراغا سياسيا ضخما، ويفتح المجال أمام قوى أخرى، سواء من داخل اليمين أو من خارجه، لمحاولة ملء المساحة التي كانت مارين تشغلها بجدارة.
انقسام داخلي وتفاعلات دولية
أُثيرت حالة من الانقسام الكبير في الأوساط السياسية الفرنسية بعد الحكم القضائي الذي صدر ضد مارين لوبان ما بين مؤيدين ومعارضين للحكم. فبينما يرى البعض أن القضية مسيسة بشكل واضح، وأن الحكم الذي أصدرته المحكمة يمثل محاولة لإقصاء شخصية بارزة مثل لوبان من المشهد السياسي الفرنسي، معتبرين أن القرار كان متحزيا إلى درجة كبيرة، لاسيما مع قرار المحكمة الذي يلزم السلطات بتنفيذ فوري للحكم وهو ما أعطى انطباعا لدى البعض بتأثر قرار المحكمة بعوامل سياسية. في الجهة الأخرى، يرى المدافعون عن الحكم القضائي أن الأدلة ضد مارين لوبان كانت دامغة واثباتات اختلاس الأموال العامة كانت واضحة. من هذا المنطلق، يبرر البعض الحكم كإجراء قانوني لحماية العملية الديمقراطية في فرنسا، خاصة أن ما قامت به لوبان كان ينتهك قواعد استخدام الأموال العامة ويهدد نزاهة النظام السياسي[2].
وفيما يتعلق بتفاعل القوى الدولية، فقد دخلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الخط، حيث أظهرت تضامنها الكامل مع مارين لوبان، حيث اعتبر ترامب أن ما يحدث مع لوبان هو مثال على استخدام الديمقراطيين القضاء كأداة ضد خصومهم السياسيين -كما حدث معه- وهي خطوة تهدف إلى إضعاف اليمين عبر استغلال النظام القضائي[3].
ومن زاوية أخرى، وبغض النظر عن حالة الانقسام حول قرار المحكمة، فإن الحديث عن مدى صمود هذا الحكم أم تغيره إذا ما تم الاستئناف ضده لا تزال غامضة إلى حد كبير، حيث لا يوجد جدول زمني محدد يمكن من خلاله تحديد فترة تقريبية عن صدور قرار جديد من المحكمة، ولا يُعرف ما إذا كان سيتم إصدار قرار قبل موعد الانتخابات الرئاسية في 2027، حيث أنه في حال تأخر القرار، فإن ذلك سيمنع مارين لوبان من الترشح في الانتخابات المقبلة، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي الفرنسي ويجعل من الصعب التنبؤ بما سيحدث في ظل هذه التوترات القضائية والسياسية المستمرة.
تداعيات الحكم القضائي
كان لمارين لوبان ها دور محوري في بروز حزب التجمع الوطني كمنافس رئيسي في مختلف الاستحقاقات الدستورية التي شهدتها الساحة الداخلية الفرنسية. يضاف إلى ذلك كونها واحدة من أبرز المرشحين للرئاسة، حيث سبق لها خوض عدة استحقاقات رئاسية بدأت في عام 2012، مرورًا بانتخابات عام 2017، وصولًا إلى انتخابات عام 2022. وفي كل جولة انتخابية كانت تحقّق نتائج أفضل من سابقتها إلى أن بلغت الجولة الثانية من انتخابات 2022، حيث نافست الرئيس إيمانويل ماكرون، ورغم خسارتها إلا أنها حصلت على نسبة تجاوزت 40% من الأصوات، وهو ما يعكس قوتها وحضورها في المشهد السياسي الفرنسي[4].
وفي الوقت الذي نضع في الاعتبار فيه أن ماكرون لن يكون بإمكانه الترشح مجددًا في انتخابات 2027 كونه المنافس الأبرز للوبان والذي استطاع هزيمتها في الاستحقاقين السابقين، بالإضافة إلى أن العالم يشهد صعودًا ملحوظًا للتيارات اليمينية، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى الواجهة، فإنه يمكن القول بأن هذه المعطيات كانت تعزز من حظوظ لوبان في الانتخابات المقبلة. وبالتالي، فإن تنفيذ الحكم الصادر بحقها، والذي يمنعها من الترشح للرئاسة، دون أن ينجح فريقها القانوني في نقضه أو تعديله عبر الاستئناف مستقبلا، سيضعها هي وحزبها في مأزق كبير.
فبالنسبة للوبان، فإن تنفيذ الحكم يعني إقصاءها بشكل شبه كامل من الساحة السياسية، وربما يشكل نهاية مسيرتها. أما على مستوى الحزب، فسيخسر فرصته الأهم للوصول إلى الحكم -بعد أن كان يعوّل بشكل أساسي على انتخابات 2027- في ظل غياب شخصية قيادية تمتلك نفس حضور لوبان وتأثيرها. وعلى الرغم من تداول أسماء بعض الشخصيات الأخرى داخل الحزب كبدائل محتملة، وعلى رأسهم “جوردان بارديلا” الرئيس الحالي للحزب، إلا أنه نظرا لصغر سنه، والفارق الكبير في التجربة السياسية والتأثير الجماهيري بينه وبين لوبان يجعل من الصعب التعويل عليه بنفس القدر التعويل على لوبان. لذا فإن كل ذلك يجعل من كسب المعركة القضائية في مرحلة الاستئناف أمرًا بالغ الأهمية، ليس فقط لمستقبل لوبان، بل لمستقبل الحزب بأكمله.
آفاق الحزب مستقبلاً
على الرغم من الآثار السلبية للحكم على مستقبل الحزب، إلا أنه قد يكون بداية لعودة نهج أكثر شعبوية في السياسة الفرنسية. حيث دعت لوبان إلى تجمع في باريس في بداية أبريل الجاري، وعلى الرغم أنه لم يحقق النجاح المتوقع من حيث الحشد الجماهيري، إلا أن يعتبر مؤشرا على الكيفية التي ستدير بها لوبان وحزبها المعركة السياسية الحالية من خلال تبني استراتيجية أكثر تحديدًا في مخاطبة القاعدة الشعبية.
وتجدر الإشارة، أن لوبان لم تتردد في وصف الحكم الصادر ضدها بأنه قرار سياسي وليس قانونيًا، واعتبرت أنه يعكس محاولات النظام للحد من الحريات والديمقراطية[5]. ومن ثم، بدأت لوبان وحزبها في تصوير القضية على أنها معركة من أجل “الحقيقة والعدالة”، ما يضيف بعدًا شعبويًا لخطابهم السياسي. فبدلا من التركيز على استراتيجيات سياسية تقليدية، اختارت لوبان أن تركز على إثارة الغضب الشعبي من خلال مواقف معارضة للقضاء، متهمةً إياه بالتحامل السياسي. وهكذا، انتقلت إلى تبني أساليب أكثر هجومية في مواجهة السلطة، وهو ما يتماشى مع الخطاب الشعبوي الذي يعتمد على تصدير صورة البطل الذي يحارب النظام التقليدية.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن ما يميز هذه الحركة الشعبية الجديدة هو التماهي مع الأساليب الشعبوية التي تبناها قادة آخرون مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كثيرا ما استخدم منصاته السياسية لتوجيه هجمات ضد القضاء والمؤسسات الرسمية في أمريكا، وما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت لوبان ستحذو حذو ترامب في المزيد من التحركات الجماهيرية التي تهدف إلى تحفيز الأنصار من خلال خطابات حماسية وتحفيزية. وبذلك، فإن الشعبوية لا تقتصر فقط على الخطاب الانتخابي، بل تتجاوز ذلك لتصبح أداة استراتيجية في الانتصار في أي معركة سياسية بشكل عام.
لذا يمكن القول أن لوبان تحاول إعادة تشكيل حزبها، وتحويله إلى قوة سياسية غير مقتصرة على معارضة الهجرة أو القضايا العرقية. وعليه -وحتى في أسوأ السيناريوهات وهو عدم انتصار لوبان في معركة الاستئناف ضد الحكم ومن ثم استبعادها من خوض السباق الرئاسي القادم- يمكن لحزب التجمع الوطني الدفع بمرشح بديل يكون قد استفاد بشكل أو بآخر من ارتفاع أرصدة الحزب الشعبية وهو ما سينعكس على حظوظ مرشح الحزب بالإيجاب.
إجمالًا:
يعتبر الحكم الصادر ضد لوبان سلاحًا ذو حدين. فعلى الرغم من أن هذا الحكم يشكل خسارة كبيرة للحزب، حيث يحرمهم من مرشحة ذات شعبية واسعة وحضور قوي على الساحة السياسية، إلا أنه يمكن النظر إليه من زاوية أخرى، حيث من الممكن أن ينجح حزب التجمع الوطني في استثمار هذا الحكم لصالحه. فمن خلال تحويل القضية إلى محرك لتعبئة القواعد الشعبية، يمكن للحزب أن يعزز تواجده الجماهيري. إذ يمكن أن يقدم نفسه كحزب يدافع عن العدالة والحريات، ويصور حكم المحكمة على أنه جزء من محاولات لإقصاء اليمين من المشهد السياسي. وعليه، فإن هذا الخطاب قد يساهم في جذب المزيد من الأنصار ويعزز مكانته في الساحة السياسية الفرنسية في الفترة المقبلة.
المصادر:
[1] فرنسا: حكم بالسجن وعدم الأهلية… ما الذي نعرفه عن قضية مارين لوبان؟، فرانس ٢٤، ٣١- ٣- ٢٠٢٥
