شهدت العلاقاتُ بين الولايات المتحدة الأمريكية والسلفادور، في ظلِّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تطوُّراتٍ ملحوظةً، وفي هذا الإطار، تأتي الزيارةُ الأخيرةُ لرئيس السلفادور، نجيب بوكيلي، إلى الولايات المتحدة، في الرابع عشر من شهر أبريل الجاري، ولقاؤه مع ترامب، كمؤشرٍ على استمرار نَمَطِ من الشراكة القائمة على تبادل المنفعة، حيث تسعى واشنطن لتقليص تدفق المهاجرين عبر الحدود، بينما تبحث السلفادور عن دعْمٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ يُعزِّزُ استقرارها الداخلي، كما يفتح هذا اللقاء المجال لتحليل أبعاد العلاقة بين البلدين، ليس فقط من زاوية المصالح المتبادلة ودوافع الطرفيْن، بل أيضًا من حيث تأثيرها المحتمل على الداخل الأمريكي، فضْلًا عن إمكانية تطبيق نموذج التعاون بين الولايات المتحدة والسلفادور على دول أخرى في العالم.
علاقة قديمة تتجاوز التطوُّرات الراهنة
لم تكن علاقة رئيس السلفادور نجيب بوكيلي بإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبالحزب الجمهوري بشكلٍ عامٍ، وليدة المرحلة الراهنة، ولا هي نتيجة للسياسات المتشددة التي أعلنها ترامب فوْر تولِّيه منصبه، في يناير الماضي، تجاه الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، والتي انعكست بدورها في إحداث تغيُّراتٍ حادَّةٍ بمواقف العديد من الدول، سواء عبْر محاولة بعض الدول تطوير سياسات تحقق توازنًا مع إدارة ترامب؛ نظرًا لمكانة الولايات المتحدة عالميًّا، أو محاولة البعض الآخر تحدِّي تلك السياسات، لا سيما من قِبَلِ القوى الكبرى، التي أعلنت صراحةً معارضتها للمواقف الأمريكية المتصاعدة تجاهها.
غير أنَّ العلاقة بين السلفادور وواشنطن تتخذُّ منحًى مختلفًا تمامًا عن حالة الشَّدِّ والجذْبِ التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية تِجَاه دولٍ عديدةٍ؛ ما يجعلها حالةً متميزةً وفريدةً.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن السلفادور كانت من أكثر الدول دعْمًا لعودة الإدارة الجمهورية بقيادة ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما تجلَّى في عِدَّة مواقف بارزة؛ حيث كان الرئيس نجيب بوكيلي أحد الحضور في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، العام الماضي، كما التقى بعددٍ من أبرز داعمي ترامب، وكان في مقدمتهم؛ رجل الأعمال إيلون ماسك، الذي سبق أن أَعْرَبَ عن إعجابه ببوكيلي في أكثر من مناسبة[1]، علاوةً على ذلك، فإن الدَّعْم الكبير الذي أبداه بوكيلي لإدارة ترامب، سواء في مرحلة ما قبْل الانتخابات أو ما بعدها، لم يكن موقفًا أُحادِيًا من جانب السلفادور، بل جاء في إطار خطابٍ متبادلٍ من المغازلة السياسية بين الطرفيْن؛ ما يفتح الباب أمام تساؤلات عدة، بشأن الأهداف الحقيقية الكامنة وراء هذا التقارُب اللافت.
دوافع انفتاح واشنطن
إنَّ ثمَّةَ تلاقِيًا أيديولوجيًّا واضحًا بين الرئيسيْن الأمريكي والسلفادوري؛ حيث يمكن اعتبار ذلك بمثابة الباب الذي من خلاله يمكن :
أولًا :-فهْم سبب التقارُب بين الرئيسيْن؛ الأمر الذي وصل في بعض الأحيان إلى امتداح بعضهما البعض في مناسبات سابقة[2].
ثانيًا: فهْم هدف كُلِّ طرفٍ من الأطراف من جرَّاء هذا التقارُب الحادث.
ويتجلَّى ذلك في تبنِّي خطابٍ سياسيٍّ شعبويٍّ وشعارات معلنة تحظى بجاذبية لدى القواعد المحافظة، وتعكس رؤى متقاربة في التعامل مع قضايا بعينها كمهاجمة المنظمات الحقوقية، والتقليل من أهمية القضايا البيئية، ولعلَّ أبرز نقطةٍ تجمع الرئيسيْن هي قضية الحرب التي يشُنُّها الرئيس السلفادوري ضد العصابات، وهي قضية ينظر إليها ترامب بانفتاحٍ كبيرٍ، ويعمل على الاستفادة منها بما يتوافق مع نهج إدارته؛ حيث انعكس هذا في تأسيس تعاون غير تقليدي يقوم على الأهداف المشتركة، لا سيما في ملف الهجرة، والذي يُعتبرُ من الملفات ذات الأولوية لإدارة ترامب؛ حيث تدعم السلفادور نهْج واشنطن في هذا الصدد كما عرضت المساعدة والتعاون وفتْح حدود البلاد لاستقبال ما تراهم الولايات المتحدة عناصر خطرة.
وفي هذا السياق، قَبِلَتْ السلفادور المئات من تمَّ ترحيلهم من الولايات المتحدة، بعد أن اتهمتهم إدارة ترامب بالانخراط في أنشطة عصابية وجرائم عُنْف دون تقديم أدلةٍ واضحةٍ حول ذلك، وقد أوْدَعَ هؤلاء في سجون السلفادور شديدة الحراسة المخصصة لعناصر العصابات[3]، ما أثار انتقادات من قِبَلِ منظمات حقوقية عدة، إلَّا أن الرئيس الأمريكي دَافَعَ عن هذه الخطوة معتبرًا أن الرئيس بوكيلي “يقوم بعمل رائع” في التعامُل مع المشاكل التي وصفها بالصعبة والمكلفة بالنسبة للولايات المتحدة.
دوافع السلفادور
يُمثِّلُ التعاون بين السلفادور والولايات المتحدة فرصةً لتحقيق مكاسبَ مهمةٍ تصُبُّ في صالح الاستقرار الداخلي والتنمية الاقتصادية، ويمكن الإشارة إلى عددٍ من الأهداف التي تسعى السلفادور إلى تحقيقها، من خلال هذا التعاون:-
١-شرعية سياسية
يواجه الرئيسُ السلفادوريُ نجيب بوكيلي، تحدياتٍ داخليةً كبيرةً؛ حيث يسيطر على السلطات الثلاث: “التشريعية والتنفيذية والقضائية”؛ ما يثيرُ تساؤلاتٍ حول طبيعة النظام الديمقراطي، وعليه، ومن خلال توثيق العلاقات مع واشنطن وتقديم تسهيلات في ملفات تحْظَى بأولويةٍ لدى الإدارة الأمريكية – لا سيما ملف الهجرة – فإن ذلك سوف يتيح لـ”بوكيلي” فرصة الحصول على دعْمٍ سياسيٍّ مباشرٍ، أو على الأقلِّ، التغاضِي عن الممارسات الحقوقية في بلاده؛ ما يُمثِّلُ مكسبًا كبيرًا لنظامه، وعنصرًا أساسيًّا في تعزيز استقرار حكمه داخليًا.
٢- دعْمٌ ماليٌّ منتظرٌ
يسعى الرئيس السلفادوري من خلال توثيق علاقاته بواشنطن، إلى فتْح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي والتِّقَني معها؛ ما سيؤدي على المدى البعيد إلى استقرار الأوضاع الاقتصادية في البلاد؛ حيث كانت من بين نتائج الزيارة التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، في فبراير الماضي، إلى السلفادور، إعلان البيت الأبيض عن تخصيص مساعدات مالية للسلفادور تقدر بحوالي ٦ مليون دولار؛ ما يشير إلى احتمالية استقبال المزيد من المعونات المالية في المستقبل، علاوةً على ذلك، استفادت السلفادور أيضًا من التكنولوجيا الأمريكية والدَّعْم الفني اللازم؛ حيث تضمنت الزيارة إعلان روبيو، أن واشنطن وافقت على عقْد شراكة نووية مع السلفادور؛ ما يُسْهِمُ في تعزيز أمْن الطاقة بها[4].
٣-رسوم جمركية أقل
في ظلِّ الحرب التجارية التي يقودها ترامب، أصبحت مسألة تعزيز التعاون بين السلفادور والولايات المتحدة تُمثِّلُ خطوةً إستراتيجية مهمة؛ حيث إنه مع تصاعُد التوتُّرات التجارية بين أمريكا ودول أخرى، تُعدُّ هذه المسألة فرصةً كبيرةً قد تؤدي إلى التخفيف من تَبِعَات هذه الحرب على الاقتصاد السلفادوري؛ حيث من شأن ذلك، أن يساهم في تخفيض الرسوم الجمركية على المنتجات السلفادورية المُصدّرة إلى السُّوق الأمريكي؛ حيث يُتوقع أن تتمتع هذه المنتجات بميزةٍ تنافسيةٍ أكبر، مقارنةً بالمنتجات القادمة من دول أخرى قد تواجه رسومًا جمركيةً أعلى.
انعكاسا عمليات الترحيل على الداخل الأمريكي
على الرغم من أن نوايا الإدارة الجمهورية في ظاهر الأمر قد تبدو مُوجَّهةً نحْو ترحيل من تصفهم بالمجرمين والمهاجرين غير الشرعيِّين؛ بحجة حماية الأمن القومي الأمريكي، إلا أن الموضوع يحمل في طيَّاته أبعادًا سياسيةً وقضائيةً قد تنعكس على الداخل الأمريكي، بالتوازي مع استمرار نهْج البيت الأبيض في هذا الصَّدَدِ.
فمن الجدير بالذكر، أنه لكي يجِدَ ترامب الظهير القانوني اللازم لتمرير ترحيل المتواجدين بشكلٍ غير قانونيٍّ إلى السلفادور، قرَّرَ تفعيل قانون الأعداء الأجانب، وهو قانونٌ قديمٌ وتاريخيٌّ نادرًا ما تمَّ استخدامه؛ حيث بموجب هذا القانون، يُسمح للحكومة الأمريكية في حالات الحرب، بترحيل أيِّ مواطنٍ تعتبره من أعداء الولايات المتحدة إلى خارج البلاد[5]، وعلى الرَّغْم من تفعيل ترامب هذا القانون وتنفيذ عمليات الترحيل بموجبه، إلا أن المسألة تثير العديد من التساؤلات التي تنتظر تفسيرات قضائية، بالإضافة إلى أحكامٍ باتَّةٍ تحْسِمُ هذه القضية.
حيث ينُصُّ القانون على أنه يمكن اللجوء إليه في حالات الحرب، وهو شرطٌ قد لا يتوفر الآن، وهو ما نتج عنه إعلان المحكمة العليا تعليق العمل بالقانون مؤقتًا حتى إشعارٍ آخرَ[6]، كما أن هناك تساؤلاتٍ تتعلق بحقوق الإنسان، لا سيما أن سياسة الترحيل تتمُّ إلى سجون السلفادور، التي تواجه انتقادات العديد من المنظمات الحقوقية، وتثير قلقًا بسبب تردِّي أوضاعها والمخالفات الجسيمة التي تشوبها، خاصَّةً أنَّ هذا يتشابه بشكلٍ أو بآخر مع قضية معتقل جوانتانامو [7] ، الذي أنشأته في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ويعيدها للأذهان مرَّةً أُخرى؛ حيث قامت الولايات المتحدة بترحيل الأشخاص الذين تشتبه في تورُّطهم بجرائم إرهاب إلى هناك خليج جوانتانامو دون محاكمات وبمعزلٍ تامٍّ عن التسلُسل القانوني والنظام القضائي في الولايات المتحدة؛ ما أثار الكثير من الانتقادات لهذه السياسة حينها، نَتَجَ عنها تعهُّد بعض الرؤساء مِثْل أوباما وبايدن بإغلاق هذا المعتقل.
وبالعودة إلى النَّهْج الحالي، فإنه إلى جانب الجوانب القضائية وكذلك الحقوقية، فإن هذه القضية قد تصبح نقطةً يستخدمها معارضو ترامب في سياق مناهضتهم لسياساته، سواء من خلال معارضة هذه السياسة في القنوات الرسمية في الكونجرس أو من خلال الاحتجاجات الشعبية، خاصَّةً بعد تنظيم احتجاجات، في بداية أبريل الجاري، ضد سياسات إدارة ترامب، على الرَّغْم من أن الإدارة لا تزال في أيامها الأولى في تولِّي مقاليد السلطة .
إجمالًا:
يمكن اعتبار ما يحدث بين الولايات المتحدة والسلفادور نموذجًا واضحًا، حول كيفية استخدام المفات الداخلية الأمريكية؛ لتعزيز العلاقات كما في حالة السلفادور، أو لمعاقبة الخصوم كما هو حادث مع دول أخرى لم تتفاعل مع مطالب واشنطن على النحو اللازم. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه من الوارد أن تُقْدِمَ واشنطنُ على التوسُّع في تطبيق هذه السياسة على نطاقٍ أوسع مع دول أخرى حول العالم، خاصَّةً تلك التي تتمتع بقدرات أقلّ على المناورة وتضطر في نهاية الأمر إلى الرُّضوخ أمام الضغوط الخارجية.
فبالنظر إلى السلفادور، وهي دولة ذات اقتصادٍ ناشئٍ وقدرةٍ سياسيةٍ محدودةٍ، تواجه تحدياتٍ كبيرةً في التعامُل مع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، ويواجه نظامها السياسي ضرورة مُلِحَّة لتعزيز الشرعية السياسية داخليًّا وخارجيًّا، فإن ما ينتج في النهاية هو ضرورة التعامُل مع مطالب واشنطن باهتمامٍ كبير ٍ للوصول إلى نقاطٍ مشتركةٍ .
وعليه، فإن من غير المستبعد، أن تشهد الفترة القادمة تكرارًا لهذه السياسة في مناطق مختلفة من العالم ذات أهميةٍ إستراتيجية للولايات المتحدة.
المصادر:
[1] ماسك يناقش مستقبل البشرية مع بوكيلة (فيديو)، روسيا اليوم، ٢١-٩-٢٠٢٤
