شهدت العلاقات الأمريكية الصينية خلال الفترة الأخيرة حالة من التوتر المتصاعد انعكست بشكل خاص على المسار التجاري بين البلدين، في ظل تبادل فرض الرسوم الجمركية واتساع فجوة الثقة بالتزامن مع عودة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وعلى الرغم من محاولات متكررة لاحتواء هذا التوتر، فإن اتفاق جنيف الأخير بين البلدين شكل محطة لافتة باعتباره أول خطوة تهدئة رسمية منذ تصعيد الخلافات التجارية.
وتكمن أهمية هذا الاتفاق في كونه لا يعكس فقط محاولة لتخفيف الضغوط الاقتصادية، بل يعبر أيضًا عن إدراك متبادل لحجم المخاطر التي قد تترتب على استمرار التصعيد، سواء على الاقتصاد العالمي أو على الداخل الأمريكي والصيني. ومن ثم، تثار تساؤلات حول مدى قدرة الاتفاق على الصمود، وإلى أي مدى يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لتفاهم أوسع بين القوتين الأكبر في العالم.
خلفية التصعيد
بدأت المفاوضات بين الولايات المتحدة والصين في مدينة جنيف قبل أيام، وذلك بعد أسابيع من التصعيد التجاري المتبادل بين البلدين، والذي أشعل شرارته الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال فرض رسوم جمركية تصاعدية على الواردات الصينية، وصلت في ذروتها إلى 145%. وقد ردت الصين باتباع الأسلوب ذاته، حيث فرضت رسومًا جمركية على المنتجات الأمريكية بلغت 125%[1]. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرسوم لم تكن موجهة للصين وحدها، بل جاءت ضمن حزمة جمركية واسعة فرضتها واشنطن على مختلف الدول في مطلع أبريل الماضي، ضمن سياسة أمريكية متشددة تجاه الرسوم الجمركية.
وقد أسفرت هذه السياسات عن اضطراب كبير في الأسواق المالية، وسط ضبابية في المشهد الاقتصادي العالمي وتوقعات سلبية بشأن مستقبل التجارة الدولية. ونتيجة لهذه التقلبات، أعلنت الولايات المتحدة تعليق الرسوم الجمركية التي فرضتها في وقت سابق لمدة 90 يومًا، غير أن هذا التعليق لم يشمل الصين، مما زاد من تعقيد المشهد[2].
ومن هنا يمكن القول إن ما يميز اتفاق جنيف هو تراجع واشنطن عن استثناء الصين، ومن ثم دخول الطرفين في مسار تفاوضي وتغليب لغة الحوار والدبلوماسية على التصعيد. وبالعودة إلى اتفاق جنيف، فقد نص البيان المشترك الصادر عقب المفاوضات على خفض الرسوم الجمركية المتبادلة بنسبة 115%، مما يعني خفض الولايات المتحدة رسومها على الواردات الصينية من 145% إلى 30%، بينما تخفض الصين رسومها على المنتجات الأمريكية من 125% إلى 10%. ومن المقرر أن يسري هذا التخفيض لمدة 90 يومًا، كما يعد ذلك بمثابة فترة تهدئة وفرصة لإعادة التفاوض بين الجانبين[3].
تراجع الضرورة
نجم عن إعلان اتفاق التهدئة في جنيف بين الولايات المتحدة والصين العديد من المؤشرات الإيجابية اللحظية التي عكست حالة من التفاؤل في الأسواق العالمية، حيث ارتفعت العقود الآجلة للأسهم الأمريكية، وتعزز أداء الدولار أمام العملات العالمية، وارتفعت مؤشرات البورصات الأوروبية والآسيوية على حد سواء. كما شهد سعر النفط ارتفاعًا ملحوظًا وسط انتعاش الآمال بتفادي ركود اقتصادي عالمي كان يلوح في الأفق، بالإضافة إلى بوادر على استئناف حركة التجارة بين أكبر اقتصادين في العالم بعد فترة من التوترات[4].
وبقدر ما كانت المؤشرات السابقة نتيجة مباشرة لإعلان البلدين التوصل إلى اتفاق، فإنها في الوقت نفسه كانت حافزًا قويًا للطرفين للمضي نحو اتفاق تهدئة مؤقتة، باعتباره تراجعًا تمليه الضرورة الاقتصادية لا نتيجة خضوع سياسي. وعلى الرغم من أن لكل طرف روايته الخاصة بشأن الدافع الحقيقي للدخول في مفاوضات، فإن القراءة الموضوعية تشير إلى إدراك الطرفين خطورة الاستمرار في التصعيد. فبينما ترى الصين أن المفاوضات جاءت استجابة لطلب أمريكي ونداءات من مجتمع الأعمال الأمريكي، تصر الإدارة الأمريكية على أن ما دفع الصين إلى طاولة التفاوض هو تراجع اقتصادها تحت ضغط الرسوم الأمريكية[5].
لكن وبغض النظر عن الطرف المبادر، فإن الواقع يكشف أن الطرفين تكبدا خسائر كبيرة جراء التصعيد، وأن الاستمرار فيه كان سيقود إلى مزيد من الانكماش التجاري والتباطؤ الاقتصادي، لا سيما في ظل ضخامة التبادل التجاري بينهما، والذي يجعل من أي تصعيد متبادل لعبة صفرية لن يخرج منها أي طرف رابحًا، مع الوضع في الاعتبار أن الصين في تعاملها مع تصعيد إدارة ترامب لم تكن الطرف الأضعف -على خلاف دول أخرى- في إدارة الأزمة، بل اتسم موقفها بالوضوح وأعلنت في أكثر من مناسبة أنها لن ترضخ للضغوط الأمريكية، حتى في ذروة التصعيد، وهو ما يؤكد موقعها بوصفها قوة اقتصادية لا يمكن التعامل معها إلا بمنطق الندية والاحترام المتبادل.
محددات حاكمة لمصير الاتفاق
رغم الترحيب الحذر الذي قوبل به اتفاق جنيف من قبل الأسواق والمراقبين، إلا أن نجاحه سيعتمد على جملة من المحددات التي يتوقف عليها استمرار التهدئة وتطورها لاحقًا إلى تسوية مستدامة، ويمكن إبراز هذه المحددات في السياق التالي:-
١-توافر الإرادة السياسية
تأتي توافر الإرادة السياسية لدى الطرفين على رأس محددات أي ترتيبات تفاوضية مستقبلية للبناء على ما تم التوصل إليه، إذ أنه من دون وجود إرادة حقيقية لدى كل من واشنطن وبكين لاحتواء الخلافات، سيظل الاتفاق مجرد هدنة مؤقتة سرعان ما تنهار تحت أي ضغط مستقبلي. إلى جانب ذلك، يمثل مستوى الثقة المتبادلة عاملاً حاسمًا، لا سيما في ظل إرث طويل من الشكوك بين الجانبين، وتصاعد حدة التنافس الاستراتيجي في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، فإن أي إخلال من طرف واحد بالاتفاق أو استغلال فترة التهدئة لتعزيز المكاسب على حساب الطرف الآخر، قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
٢-استجابة المؤسسات لدى الجانبين
تحدد استحابة المؤسسات الاقتصادية والتجارية لدى الجانبين لمتطلبات الاتفاق مدى إمكانية نجاح الاتفاق من عدمه، حيث أن نجاح أي تفاهم تجاري لا يتوقف على الحكومات وحدها، بل يحتاج إلى انخراط فاعل من الشركات الكبرى والمستثمرين ومجتمع الأعمال، خاصة فيما يتعلق بزيادة التبادل التجاري وفتح الأسواق وتعديل بعض السياسات الحمائية. كذلك، فإن الظروف الاقتصادية العالمية تلعب دورًا لا يمكن تجاهله، حيث أنه بمجرد تعرض الاقتصاد العالمي لأي أزمات مستقبلية، فإنه قد تزداد الضغوط الداخلية على كل طرف، ويؤدي ذلك إلى تصاعد النزعة الحمائية من جديد، مما يهدد بإفشال أي مسار تفاوضي.
٣-دور الرأي العام
يلعب الرأي العام الداخلي دورًا كبيرًا، لا سيما في الولايات المتحدة، حيث تخضع الإدارة الأمريكية لضغوط مستمرة من الناخبين ومجتمع الأعمال والمؤسسات الإعلامية، مما يجعلها أكثر حرصًا على تقديم مبررات لأي تنازل يتم في المفاوضات. وعلى العكس، فإن الصين لا تعاني من هذه الضغوط المماثلة نظرا لعدة اعتبارات، مما يمنحها مساحة أكبر للمناورة دون الحاجة لتبرير قراراتها أمام الرأي العام.
وتنعكس هذه الفروقات السياسية في تفاوت نسب خفض الرسوم الجمركية، حيث في الوقت الذي خفضت فيه واشنطن رسومها على الواردات الصينية من 145% إلى 30%، اكتفت الصين بخفض رسومها من 125% إلى 10%. ويعكس هذا الفارق رغبة واشنطن في تهدئة الداخل الأمريكي المتأثر بالتصعيد وحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية التي بدأت التصعيد قبل أسابيع. في حين تحتفظ بكين بهامش أكبر من التحكم دون قلق من ردود فعل شعبية، مما يسلط الضوء على اختلاف السياقين السياسيين بين البلدين، وأثره على موازين التفاوض.
مستقبل الاتفاق
إن التعويل على الاتفاق باعتباره حلًا جذريًا للصراع التجاري الممتد بين البلدين يبدو مفرطًا في التفاؤل، حيث أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بعد أسابيع من التصعيد المتبادل، وما صاحبه من تقلبات في الأسواق العالمية وضغوط اقتصادية متزايدة، لا يعدو كونه تهدئة مؤقتة أو خطوة لالتقاط الأنفاس، أكثر منه اتفاقًا نهائيًا يعالج جذور الأزمة، حيث يقتصر الاتفاق على خفض الرسوم الجمركية لفترة معينة من الوقت دون التطرق إلى القضايا الجوهرية التي كانت وما زالت سببًا في توتر العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وبكين.
ونتيجة لذلك، فإن هذا المشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث أطلق شرارة حرب تجارية مع الصين بفرض رسوم جمركية مرتفعة، ثم عاد لاحقًا للتفاوض، وتم توقيع اتفاق بين البلدين في يناير 2020[6]. وعلى الرغم من أن ذلك الاتفاق تضمن التزامات صينية بزيادة وارداتها من المنتجات الأمريكية وخفض بعض الرسوم، إلا أنه فشل في معالجة القضايا البنيوية التي لطالما شكلت جوهر الشكوى الأمريكية من السلوك الاقتصادي الصيني. ونتيجة لذلك، لم يصمد الاتفاق طويلًا، وأُعيد التصعيد من جديد مع اشتداد التنافس الاستراتيجي بين البلدين.
وفي السياق الحالي، تظل الشكوك قائمة حول مدى استعداد الصين فعليًا لفتح أسواقها بشكل أوسع أمام البضائع الأمريكية، خاصة في ظل العجز التجاري الضخم الذي تمثله بكين للولايات المتحدة، والذي قُدر بحوالي ٢٩٥ مليار دولار في 2024، والذي كان سببا رئيسيا في شن ترامب هذه الحرب التجارية[7]. كما أن نجاح الاتفاق سيكون مرهونًا بسلوك الطرفين خلال المرحلة المقبلة، ومدى التزامهما بتحقيق تقدم حقيقي في الملفات الخلافية. وعليه، فإن الاعتقاد بأن الاتفاق يمثل نهاية للصراع الاقتصادي بين القوتين يبدو غير دقيق، في ظل غياب تسوية إستراتيجية شاملة، واستمرار التنافس الجيوسياسي والاقتصادي الذي يُرجح أن يطغى على أي تهدئة مؤقتة.
إجمالًا:
يمكن القول إن اتفاق جنيف بين الولايات المتحدة والصين يعكس حالة من “إدارة التنافس” أكثر من كونه بداية لتحول جذري في العلاقة بين الطرفين. فرغم أنه نجح في نزع فتيل بعض التوترات التجارية، إلا أن محددات عدة تظل قائمة وقد تضعف من فرص تحوله إلى تسوية دائمة، على رأسها غياب الثقة، والضغوط الداخلية، والاختلافات الهيكلية في النظامين السياسيين. لذا، يظل الاتفاق رهين اختبار الوقت، ومعرضًا للتأثر بأي تطورات مفاجئة على الساحتين الداخلية أو الدولية، ما يجعله -حتى هذه اللحظة- أقرب إلى “هدنة حذرة” أكثر من كونه اتفاقًا إستراتيجيًا مستقرًا.
المصادر:
[1] ردا على ترامب.. الصين ترفع الرسوم الجمركية إلى 125 بالمئة، دويتس فيله، ١١-٤-٢٠٢٥
