شَهِدَ شهر مايو من عام 2025 تصاعدًا لافتًا في وتيرة الأحداث المرتبطة بالصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، حيث امتدتْ تداعياتهُ من جنين في الضفة الغربية إلى قلب العاصمة الأمريكية واشنطن، ففي الوقت الذي نفذتْ فيه القواتُ الإسرائيليةُ عمليةً عسكريةً موسّعةً في مخيم جنين، أسفرت عن مقتل عشرات الفلسطينيين، كان من أبرز ضحاياها الدبلوماسي الفلسطيني ماهر الشامي، أحد مستشاري بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة، فيما اعتُبر “استهدافًا سياسيًا مباشرًا” لرموز دبلوماسية فلسطينية، وبعد أقل من أسبوعين، وقعَ هجومٌ مسلحٌ في متحف كابيتال اليهودي بواشنطن، استهدف موظفين بالسفارة الإسرائيلية، وأدى إلى مقتلهما، في حادثة وُصفت بأنها غيرُ مسبوقةٍ من حيث التوقيت والرمزية، لا سيّما وأن مُنفذ الهجوم برر فعلته بـ”الرد على جرائم إسرائيل في جنين”، بحسب ما كشفت التحقيقات الفيدرالية.
يهدف هذا التقرير إلى تحليلِ العلاقةِ المباشرةِ وغير المباشرة بين الحادثين، واستكشاف الروابط الزمنية والسياسية والدبلوماسية التي جعلت من حادثة جنين مُحفزًا لهجومٍ انتقاميٍ على الأراضي الأمريكية، كما يسعى التقرير لتسليط الضوء على أبعاد الانتقام السياسي العابر للحدود، وتداعياته على أمن البعثات الدبلوماسية، والعلاقات الأمريكية–الإسرائيلية، ومستقبل الصراع في الشرق الأوسط.
أولًا: تفاصيلُ الهجومِ
بحسبِ وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، فإن الهجومَ الذي وقعَ خارجَ المتحف اليهودي أدى إلى مقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية، بينما تمكنت الشرطة من القبض على المهاجم أثناء محاولته دخول المتحف، وهو قادمٌ من شيكاغو، ولم يكنْ مُدرجًا على قوائمِ المتابعةِ الأمنيةِ.[1]، والجدير بالذِكر أن رودريغيز، البالغ من العمر 31 عامًا، أطلق 21 طلقة من مسدس عيار 9 ملم، ثم دخل المتحف حيث تم توقيفه من قِِبلِ الأمن، وأثناء احتجازه، رفعَ كوفيةً فلسطينيةً حمراء وصرح بأنه “فعلها”، مشيرًا إلى دوافعه السياسية، كما أن التحقيقاتِ كشفت أن رودريغيز كان مرتبطًا بجماعاتٍ راديكاليةٍ مناهضةٍ لإسرائيل، مثل حزب الاشتراكية والتحرير وتحالف ANSWER، والتي تتلقى تمويلاً من المليونير نيفيل سينغهام، هذه الجماعات تُتهم بنشر مشاعر معادية للسامية تحت غطاء النشاط المؤيد للفلسطينيين [2]، كما أن الهجومَ أثارَ صدمةً في المجتمع اليهودي بواشنطن، حيث أكد القادة الدينيون أهمية الوحدة والتضامن في مواجهة الكراهية، مع استمرار التجمعات والصلوات رغم التهديدات.
ثانيًا: دلالاتُ الهجومِ
هناك عدةُ دلالاتٍ للهجوم نوضحها من خلال الآتي:
استهدافُ الموقع:
اختيارُ المتحف اليهودي كمسرحٍ للجريمة يحملُ رسالةً رمزيةً ضد الوجود اليهودي في الولايات المتحدة، ويعكسُ محاولةً لضربِ رموزِ الهويةِ اليهودية في المجال العام الأمريكي، خاصة في عاصمة القرار السياسي (واشنطن).[3]
توقيتُ الهجوم:
جاءَ الهجومُ في وقتٍ يتصاعد فيه الغضب الدولي تجاه العمليات الإسرائيلية في غزة، ما يُعطي الانطباعَ بأن المنفّذ أراد الربط بين الضحايا المدنيين في غزة والوجود الدبلوماسي الإسرائيلي في واشنطن.[4]
ثالثًا: دوافعُ الحادثِ
دوافع أيديولوجية مناهضة لإسرائيل:
أظهرت التحقيقات أن إلياس رودريغيز كان يحملُ أفكارًا معاديةً للصهيونية، وقد نشرَ على وسائلِ التواصلِ منشوراتٍ تهاجمُ إسرائيل وتصفها “بالدولة القاتلة”، كما وُجد بحوزته بيانًا يربط الهجوم بـ”الانتقام لضحايا غزة”.[5]
تأثيرُ خطابِ الكراهيةِ على الإنترنت:
أشارت تقارير إلى أن الجاني كان عضوًا في منتدياتٍ إلكترونيةٍ راديكاليةٍ مؤيدةٍ للفلسطينيين، تُروج لمعاداة السامية تحت غطاء مناصرة القضية الفلسطينية[6].
رغبة في تحقيق أثر دعائي:
طريقةُ تنفيذِ الهجوم، و إطلاق نار علني، داخل مُنشأة رمزية، ثم الصراخ بـ”فلسطين حُرة” أمام الشرطة، توحي بأن المهاجم أرادَ إحداثَ صدمةٍ إعلاميةٍ وتسجيل موقف سياسي أمام الكاميرات.[7]
وعليه، فإن الهجومَ على المتحف اليهودي بواشنطن لا يمكنُ فصلهُ عن تصاعد العنف السياسي المرتبط بالصراع العربي-الإسرائيلي، كما يعكسُ تصاعدًا خطيرًا في دمْجِ الخطابِ المؤيد للفلسطينيين مع أنماطٍ معاديةٍ للسامية، ومن جهةٍ أخرى، فإن البيئةَ الرقميةَ المتطرفةَ، والانقسام السياسي الداخلي في أمريكا حول القضية الفلسطينية، يزيدان من احتمالات تكرار هذا النمط من العنف.
رابعًا: تداعياتُ الهجومِ
أسفرَ الهجومُ المسلحُ عن مقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية، يارون ليشينسكي وسارة ميلغريم، هذا الحادثُ أثارَ تداعياتٍ واسعةَ النطاق على المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية، سواء داخل الولايات المتحدة أو على الصعيد الدولي، ويمكن إبراز هذه التداعيات من خلال الآتي:
تعزيزُ الإجراءاتِ الأمنية:
ردًا على الهجوم، قامت السلطات المحلية في واشنطن بتعزيز التواجد الأمني حول المعابد اليهودية والمدارس والمراكز المجتمعية، كما تمَّ زيادةُ الحماية في مدنٍ أخرى مثل شيكاغو، حيث تم تشديد الأمن حول القنصلية الإسرائيلية والمعابد اليهودية .[8]
ردودُ الفعلِ السياسيةِ والدبلوماسية:
جاءتْ ردودُ الفعلِ السياسيةِ والدبلوماسيةِ على هجوم المتحف اليهودي في واشنطن قويةً وسريعةً من أطرافٍ متعددةٍ، ما يعكس الأهمية الرمزية والسياسية للحدث وخطورته في السياقين المحلي والدولي، وفيما يلي أبرز هذه الردود:
إسرائيل:
أدانَ عددٌ من القادة السياسيين الهجومَ، واصفين إياه بأنه عملٌ معادٍ للسامية، كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وصف الهجوم بأنه نتيجة “للتحريض السام ضد إسرائيل واليهود حول العالم” .[9]
ومن جانبه دعا وزير الخارجية الإسرائيلي إلى فتْحِ تحقيقٍ شاملٍ وسريعٍ من قِبلِ السلطات الأمريكية، وطالب المجتمع الدولي باتخاذ موقف حازم من “التحريض المتنامي ضد إسرائيل في الجامعات والمنصات الإعلامية الغربية”.
الولايات المتحدة:
أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا أدانت فيه الهجوم “بأشد العبارات”، وأكدتْ التزام الحكومة بحمايةِ البعثاتِ الدبلوماسيةِ وأمن المواطنين، مُعربةً عن تضامنها الكامل مع عائلات الضحايا والحكومة الإسرائيلية، كما أن البيت الأبيض أشار إلى أن الرئيس الأميركي يتابع التطورات، مع تأكيد دعم الجهود لمكافحة التطرف والكراهية، بما في ذلك معاداة السامية، بالإضافةِ إلى عددٍ من أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي أصدروا بيانات تعاطف مع الضحايا، ودعوا إلى زيادة التمويل الأمني للمؤسسات الدينية والمراكز الثقافية اليهودية.[10]
المجتمعُ الدوليُ:
الاتحاد الأوروبي: أعربَ عن قلقهِ العميقِ من تزايد الهجمات ذات الدوافع السياسية والدينية، مؤكدًا أن “الاستهداف العنيف للدبلوماسيين أمر لا يمكن التسامح معه”.
الأمم المتحدة دعت إلى ضبط النفس والامتناع عن التصريحات التي قد تُذكي التوتر، مشددةً على أن حمايةَ البعثاتِ الدبلوماسيةِ واجبٌ قانونيٌ وأخلاقيٌ على الدول المُضيفة.[11]
تصاعد القلق من معاداة السامية:
أثارَ الهجومُ مخاوفَ متزايدةً من تصاعد معاداة السامية في الولايات المتحدة، كما يشعر غالبية اليهود الأمريكيين بعدم الأمان، مع تزايد الحوادث المعادية للسامية في أعقاب النزاعات في الشرق الأوسط .
دعوات لتعزيز التمويل الأمني:
دعتْ منظماتٌ يهوديةٌ إلى زيادة تمويل برنامج منح الأمن غير الربحي (NSGP) لمواجهة التهديدات المتزايدة، في عام 2024، تم تخصيص 454.5 مليون دولار لهذا البرنامج، لكن بعد الهجوم، طالبت المنظمات بزيادة التمويل إلى مليار دولار .[12]
انقسام في الخطاب العام:
أثارت تصريحات بعض النشطاء المؤيدين للفلسطينيين جدلاً واسعًا، حيث برر البعض الهجوم كرد فعل على سياسات إسرائيل في غزة،و هذه التصريحات قوبلت بإدانة واسعة من قبل المجتمع الدولي، حيث اعتُبرت تحريضًا على العنف .
تأثير على المجتمع اليهودي المحلي:
أدى الهجومُ إلى صدمةٍ عميقةٍ في المجتمعِ اليهودي بواشنطن، حيث أكد القادة الدينيون أهمية الوحدة والتضامن في مواجهة الكراهية، واستمرت التجمعات والصلوات رغم التهديدات، مع تعزيز الإجراءات الأمنية في المعابد والمراكز المجتمعية .
تداعيات على العلاقات الدولية:
أدى الهجوم إلى توتر في العلاقات الدولية، حيث أعربتْ دولٌ عديدةٌ عن قلقها من تصاعد العنف المرتبط بالنزاعات في الشرق الأوسط، كما تم تسليط الضوء على ضرورة معالجة الأسباب الجذرية للصراع وتعزيز الحوار بين الأطراف المختلفة .[13]
خامسًا: حادثا جنين وواشنطن
أطلقت القوات الإسرائيلية أعيرةً ناريةً تحذيريةً في 21 مايو 2025 باتجاهِ وفدٍ دبلوماسيٍ دوليٍ مكون من 25 دبلوماسيًا كانوا يزورون مخيم جينين للاجئين في الضفة الغربية المحتلة، وقع الحادث أثناء مهمة رسمية نظمتها السُلطة الفلسطينية لتقييم الأوضاع الإنسانية في المنطقة، لم يسجل وقوع إصابات، لكن الحادثَ أثارَ موجةً من الإدانات الدولية واستدعاء سفراء إسرائيل في عدة دول، كما أفادت القوات الإسرائيلية أن الوفد الدبلوماسي “انحرف عن المسار المصرح به” ودخل منطقة غير مصرح بها، مما دفع الجنود لإطلاق “أعيرة تحذيرية” لإبعادهم، وأعربت عن أسفها للحادث، مؤكدةً أنها ستحقق في الواقعة، ومن جانبه وصفت وزارة الخارجية الفلسطينية الحادث بأنه “جريمةٌ فظيعةٌ” وانتهاكٌ للقانون الدولي، ورفضت الرواية الإسرائيلية، مؤكدةً أن الوفدَ كان في مهمةٍ رسميةٍ بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية.[14]
أما في هجوم المتحف اليهودي وُصف بأنه انتقاميٌ، حيث هتف المهاجم: “فلسطين حرة – دمنا مش أرخص”، بينما كانت بحوزتهِ رموزٌ مرتبطةٌ بالقضيةِ الفلسطينية، كما أن التحقيقات كشفت أنه تأثر بالصور والفيديوهات التي وثّقت مجازر جنين، خصوصًا استهداف المركبة الدبلوماسية الفلسطينية، حيث شكل الهجوم تجسيدًا لما يُعرف في العلاقات الدولية بـ”الانتقام الرمزي غير المتكافئ”، حيث عبّر الجاني عن رفضه للعنف الرسمي الإسرائيلي من خلال رد فعل عنيف في المجال العام الأمريكي.[15]
ختامًا:
يكشفُ التزامنُ بين اغتيال الدبلوماسي الفلسطيني في جنين وهجوم المتحف اليهودي في واشنطن عن تعقيدٍ متزايدٍ في ديناميات الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، والذي لم يعدْ حبيس الجغرافيا الشرق أوسطية، بل امتدت تداعياتهُ إلى الساحات الغربية، وبخاصة في الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، وقد أظهر هذا الترابط بين الحادثين كيف أن السياسات الميدانية الإسرائيلية، بما في ذلك استهداف الرموز الدبلوماسية الفلسطينية، تفرز تداعيات مباشرة وغير مباشرة، قد تتخذُ طابعًا انتقاميًا عنيفًا خارجَ حدود النزاع التقليدي، كما يوضح الهجوم في واشنطن أن ردودَ الفعلِ الفرديةَ المتطرفةَ باتت تُمثّل تحديًا أمنيًا متصاعدًا في سياق العولمة الرقمية والتحريض السياسي العابر للحدود، وأن تصاعدَ مثل هذه الحوادث يضعُ المجتمعَ الدوليَ، وخصوصًا القوى الكبرى، أمام مسؤوليةٍ مضاعفةٍ في مراجعةِ سياساتها ومواقفها من النزاع، وضمان احترام القواعد الدولية المتعلقة بحماية الشخصيات والبعثات الدبلوماسية، فالعنف الذي يبدأ في جنين قد لا ينتهي هناك، بل يزرعُ بذورَ عدم الاستقرار في عواصم أخرى، إذا لم يُواجَهْ بحلولٍ سياسيةٍ عادلةٍ ومواقف مبدئية مُنصفة.
المصادر :
[1] هجوم المتحف اليهودي بواشنطن.. ارتدادات إقليمية ودولية محتملة، اسكاي نيوز عربية، تم النشر بتاريخ: 22 مايو 2025 ، متاح على الرابط التالي: https://www.skynewsarabia.com
[2] “Suspected DC Jewish Museum terrorist Elias Rodriguez has links to radical groups funded by socialist multi-millionaire Neville Singham” New York Post, Available on: https://nypost.com
[3] Jonathan Freedland,”The shooting occurred amid surging global outrage over Israel’s actions in Gaza, linking foreign policy grievances to domestic violence” , the guardian, Available on: https://www.theguardian.com
[4] Jonathan Greenblatt, The D.C. Jewish Museum Shooting Was Inevitable. The Time to Act on Antisemitism is Now, Time Magazine, Available on: https://time.com
[5] Who is Elias Rodriguez? Socialist group disavows ‘DC shooter’, The Times UK, Available on: https://www.thetimes.com
[6] “The assailant had engaged with online communities promoting radical anti-Zionist rhetoric, which at times veered into antisemitism”, Available on: https://www.washingtonpost.com
[7] Jonathan Greenblatt, The D.C. Jewish Museum Shooting Was Inevitable. The Time to Act on Antisemitism is Now, Time Magazine, Available on: https://time.com
[8] Sara Tenenbaum, ‘Chicago police step up security around Israeli Consulate, Jewish synagogues after D.C. shooting’, cbs news, Available on: https://www.cbsnews.com
[9] Reactions to shooting of two Israeli embassy staffers in Washington, Reuters, Available on: https://www.reuters.com
[10] D.C. police, synagogues enhance security in wake of Jewish museum shooting, Washington post, Available on: https://www.washingtonpost.com
[13] Moustafa Bayoumi, The Israeli embassy shooting was a stupid and horrific attack, The Guardian, Available on: https://www.theguardian.com
[14] “الرصاص ضد الدبلوماسية” في جنين … يشعل غضبًا عالميًا، مونت كارلو الدولية، تم النشر بتاريخ: 21 مايو 2025 ، متاح على الرابط التالي: https://www.mc-doualiya.com
