شَهِدَ الشرقُ الأوسط، منذ الثالث عشر من يونيو 2025، واحدةً من أكثر جولات التصعيد حساسية وتعقيدًا بين إسرائيل وإيران، وذلك في سابقة تتجاوز نَمَط الاشتباك غير المباشر، الذي طَبَعَ العلاقة بين الطرفين لعقود؛ فبعد تنفيذ إسرائيل ضربات جوية مباغتة استهدفت مواقع عسكرية داخل الأراضي الإيرانية، جاء الرد الإيراني بصورة مختلفة، سواء في طبيعة الهجوم أو في أهدافه العملياتية، فقد أطلقت طهران، موجات متزامنة من الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات المُفخَّخة، استهدفت العُمْق الإسرائيلي بشكلٍ مباشرٍ، وأصابت بعضها مواقع مدنية وعسكرية في مدن مركزية، مثل “تل أبيب، بئر السبع، ورحوفوت”.
وعلى الرغم من إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يوم الثلاثاء 24 يونيو 2025، عن دخول وقْف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران حيِّزَ التنفيذ، فإن هذه الجولة من التصعيد، التي استمرت لأكثر من أسبوع، تُعَدُّ نقطة تحوُّلٍ استراتيجية في مسار الصراع، وذلك ليس لأنها كشفت عن تغيير في قواعد الاشتباك من الجانب الإيراني فحسب، بل لأنها فرضت أيضًا اختبارًا ميدانيًّا شاملًا على منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية، التي لطالما اعتُبرت رمزًا لتفوُّق الدولة العبرية في مجال الردع الإقليمي، فقد بات واضحًا، أن الهجمات المركبة والمتزامنة، وضعت هذه المنظومة تحت ضغط استثنائي، سواء من حيث القدرة التشغيلية، أو الاستدامة اللوجستية، أو التكامُل مع شبكات الدعم الخارجي.
وتكتسب هذه المواجهة أهميةً مضاعفةً في السياق الإسرائيلي؛ إذ لا يُنظر إلى فعالية الدفاع الجوي كمجرد مسألة تقنية، بل باعتبارها عنصرًا أساسيًّا في العقيدة الأمنية الشاملة، التي تقوم على منْع اختراق العُمْق كشرطٍ جوهريٍّ لبقاء الرَّدْع فاعلًا، وبالتالي؛ فإن نجاح عددٍ من المقذوفات الإيرانية في بلوغ أهدافها لا يُعَدُّ فشلًا موضعيًّا فحسب، بل مؤشرًا مقلقًا على بداية تآكل صورة الرَّدْع الإسرائيلي، سواء في الداخل أو على مستوى الإقليم.
تنطلق هذه الورقة من تحليل تركيبي لأداء منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية خلال هذه المواجهة، مستعرضةً بنيتها العقائدية والتقنية، ثمَّ تُقَوِّمُ قدرتها على الاستجابة تحت الضغط، قبْل أن تتوقف عند أبرز الانعكاسات الاستراتيجية، وتستشرف في ختامها أَثَرَ هذه الحرب على مستقبل العقيدة الدفاعية الإسرائيلية وتوازنات الرَّدْع في الإقليم.
منذُ تسعينيات القرن الماضي، ومع تعاظُم التهديدات الإقليمية غير التقليدية، بدأت إسرائيل في إعادة تشكيل عقيدتها الدفاعية، متجاوزةً نموذج “الضربة الاستباقية” المنفردة، نحو منظومة أوسع تُعرف بمفهوم “الرَّدْع النَّشِط المُتعدِّد القنوات”، وقد تأسَّسَ هذا المفهوم على قناعة استراتيجية، ترى أن الحروب المقبلة لن تكون تقليدية أو محدودة، بل هجينة، سريعة، متعددة الجبهات، وعالية الكثافة.
بناءً عليه؛ لم يعُدْ الرَّدْع مرادفًا للتهديد وحده، بل مشروطًا بامتلاك القدرة التقنية الكافية على امتصاص الضربة الأولى – إن حدثت – ثُمَّ الرَّد الفوري عليها، دون انهيار أو شللٍ مؤسسيٍّ.
وفقًا لهذا التصور، أُعيد بناء منظومة الدفاع الإسرائيلي لتكون ذات طابع شمولي، تغطي كافَّة الاتجاهات الجغرافية والطبقات الجوية، وتوفر حماية فعلية للبُنَى التحتية الحيوية (شبكات الغاز والطاقة، المنشآت النووية، مراكز القيادة، المدن الكبرى).[1]
وقد جرى نشْر بطاريات الاعتراض ضمن شبكة هندسية شبه دائرية، تحيط بالنقاط الاستراتيجية والمدنية الأهم، مثل “مفاعل ديمونا، مناطق التجمع السكاني في الوسط، والساحل، ومنشآت الشمال”، كما أُدْمِجَتْ المنظومة بمنصَّات الرَّصْد والتحكُّم السيبراني؛ مما جعل منها بنية متكاملة ترتكز على ثلاثية: “الأرض–الجو–الفضاء”.
هذه المنظومة التي اعتُبرت لسنوات “مضرب مثل” في القدرة على الحماية والرَّدْع، وُضعت لأول مرة في اختبار عملي حقيقي خلال المواجهة مع إيران؛ حيث واجهت تحدِّيًا مركبًا من حيث الكثافة والتنوُّع والبُعْد السيادي للهجوم.
البنية التشغيلية: الطبقات والمكونات الفنية
تقوم المنظومة الدفاعية الإسرائيلية على مبدأ التكامُل بين طبقات اعتراض متعددة، تُدار جميعًا ضمن شبكة قيادة وتحكم مُوَحَّدة (C4I)، تتيح اتخاذ القرار في غضون ثوانٍ، وتُصمم هذه الطبقات بحيث تشتبك كل واحدة منها مع نَمَطٍ مُعيَّنٍ من التهديدات، بما يسمح بـالاعتراض المتسلسل (sequential interception)؛ أيْ: إذا فشلت الطبقة الأعلى (مثل “حيتس 3”)، تتدخل الطبقة التالية، مثل “مقلاع داوود”؛ لاعتراض التهديد داخل المجال الجوي الداخلي، وفيما يأتي مُكوِّنَات هذه المنظومة:[2]
1- القُبَّة الحديدية (Iron Dome)
تمثل الطبقة الدنيا في هذه المنظومة، وهي مصممة خصيصًا لاعتراض القذائف والصواريخ قصيرة المدى (حتى 70 كم)، وهي الأكثر استخدامًا في المواجهات مع غزة ولبنان، وقدرتها على التمييز بين المقذوفات “الخطرة” و”غير الخطرة” خفَّفت العِبْء الاقتصادي على باقي المنظومة، وعلى الرغم من كفاءتها العالية، فإن قدرتها التغطوية تظلُّ محدودة جغرافيًّا؛ ما يتطلب نشْرًا كثيفًا لتأمين مساحات واسعة.
2- مقلاع داوود (David’s Sling)
تُشكِّلُ هذه الطبقة “الوسطى” في الدفاع الإسرائيلي، وهي مصممة لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى وصواريخ كروز، وتملأ الفجوة بين القبة الحديدية ومنظومة “حيتس”. وقد طُوِّرَتْ بشراكةٍ “إسرائيلية – أمريكية”، وتتميز بسرعة الاستجابة، واعتمادها على صواريخ “ستانر” القادرة على المناورة والرَّصْد الذكي أثناء الطيران.
مؤخرًا، أُعيد تهيئتها لتعترض صواريخ باليستية كذلك، بعْد ضغط الاستخدام في الحرب الجارية.
3- منظومة حيتس (Arrow 2 & 3)
تُمثل قمة الهرم الدفاعي الإسرائيل؛، حيث تعمل “حيتس 2” لاعتراض الصواريخ الباليستية في المرحلة النهائية داخل الغلاف الجوي، بينما تتولَّى “حيتس 3” التصدِّي خارج الغلاف؛ أيْ في الفضاء القريب. وتُعَدُّ هذه الطبقة ضرورية في مواجهة التهديدات الإيرانية من طراز “عماد”، “قدر”، و“خيبر شكن”، التي قد تُطلق من مسافة تفوق 1000 كم، وقد أثبتت “حيتس 3” كفاءتها، خلال العام الماضي، باعتراض صواريخ أُطلقت من اليمن، لكنها لم تتعرَّض سابقًا لاختبار كثافة هجومية بهذا الحجم.
4- أنظمة الرَّصْد والتحكُّم والسيطرة (C4I)
العنصر الحاسم في فعالية المنظومة لا يكمن فقط في الصواريخ، بل في منظومات القيادة والتحكُّم والاتصالات التي تديرها؛ فالرادارات المتقدمة مثل EL/M-2084 وGreen Pine تُوفر الإنذار المبكر، وتُنسق بين الطبقات المختلفة ضمن دائرة استجابة لا تتعدَّى بضع ثوانٍ، ويتم تمرير البيانات من هذه الرادارات إلى وحدات القرار العسكري التي تقرر مسار الاعتراض، إن لزم.
5- المنظومة الدفاعية الأميركية (ثاد)
بالرغم من أن “ثاد” لا تُعدُّ جزءًا بنيويًّا من المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، بل تُستخدم في إطار الدعم الطارئ من الولايات المتحدة خلال فترات التصعيد الكبرى؛ حيث نسقت إسرائيل عمليات الدفاع مع الولايات المتحدة، كما حدث في الحرب مع إيران، عندما شاركت بطاريات أمريكية في التصدِّي لصواريخ إيرانية.
تقوم هذه المنظومة على تصوُّرٍ ردْعيِّ مُرَكَّبٍ: كل طبقة تحمي الطبقة التي تحتها؛ ما يُوفِّرُ وقتًا ومساحة لردٍّ متعدد المراحل، وتُعدُّ من بين أكثر المنظومات تعقيدًا ودمْجًا في العالم، مع بنية سيطرة وتحكُّم شِبْه آلية متصلة بشبكات استخباراتية وتحذير مبكر.
لكن؛ رغم هذا التفوق البنيوي، تبقى فعالية المنظومة مرهونةً بمدى جاهزيتها للتعامل مع هجمات هجينة ومتزامنة، وهو ما شكَّلَ جوهر اختبار الهجمات الإيرانية.[3]
ثانيًا: تقييم أداء المنظومة الدفاعية الإسرائيلية في التصدِّي للهجمات الإيرانية
مع الإعلان عن وقْف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، الثلاثاء 24 يونيو الجاري، بات من الممكن إجراء تقييم أوَّلِي لأداء المنظومة الدفاعية الإسرائيلية متعددة الطبقات، خلال هذه الجولة غير المسبوقة من التصعيد المباشر، فقد مثَّلَتْ الهجمات الإيرانية، التي تواصلت على مدار أكثر من عشرة أيام، أول اختبار عملي وشامل لهذه المنظومة في مواجهة هجوم مُكثَّف ومُنسَّق من دولة تملك قدرات صاروخية وطائرات مُسيَّرة متقدمة.
ولأن العقيدة الدفاعية الإسرائيلية لطالما افتخرت بنموذج “المناعة التقنية المطلقة”، فإن الاختراقات التي سُجِّلَتْ – رغم الكفاءة الظاهرة – تحمل دلالات عسكرية وسياسية تتجاوز الخسائر المادية المباشرة.
يمكن تقييم الأداء الدفاعي الإسرائيلي خلال هذه الجولة وفْق ثلاث معايير رئيسية:
1- النجاح التكتيكي في الاعتراض مقابل اختراقات ذات أثر رمزي واستراتيجي
وفْقًا لما نشرته صحيفة واشنطن بوست في 20 يونيو 2025، فإن المنظومة نجحت في اعتراض ما يقرب من 90 إلى 92% من المقذوفات التي كانت مُوَجَّهة نحو أهداف مدنية أو عسكرية حسَّاسة داخل الأراضي الإسرائيلية.
هذا الرقم – بحدِّ ذاته – يُعَدُّ مرتفعًا في معايير الدفاع الجوي التقليدي، ويدل على أن النظام لا يزال فاعلًا في مُجْمل عملياته الاعتراضية.[4]
مع ذلك، فإن الاختراقات المحدودة التي سُجِّلت جاءت ذات طابع رمزي بالغ الحساسية؛ فقد أصابت إحدى الضربات مستشفى “سوروكا” في بئر السبع؛ ما أدى إلى وقوع إصابات عديدة، وتضررت منشآت طاقة فرعية بالقُرْب من تل أبيب، فضْلًا عن إصابة مباشرة في مدينة بات يام، [5] مثل هذه الأحداث، وإن لم تكن مدمرة عسكريًّا، إلا أنها زعزعت صورة الرَّدْع الإسرائيلي، وأظهرت أن المنظومة غير مُحصَّنة أمام ضربات دقيقة؛ مما ترك أثرًا نفسيًّا داخليًّا لا يمكن تجاهله.
2- الفعالية تحت هجوم مُركَّب ومتزامن
منذ بدء التصعيد في 13 يونيو، لُوحِظَ تصاعُدٌ ملحوظٌ في سرعة ودقة الضربات الإيرانية؛ حيث جمعت الهجمات الإيرانية بين صواريخ باليستية عالية السرعة، مثل “عماد” و”خيبر شكن”، وصواريخ كروز ذات قدرات مناورة منخفضة الارتفاع، بالإضافة إلى مُسيَّرات انتحارية منخفضة البصمة الرادارية. وأظهر هذا المزْج الزمني بين الوسائط المختلفة، والذي يُعرف عسكريًّا بـ”اختبار التشبُّع المُرِكَّب”، أن الطبقات المختلفة في المنظومة الدفاعية الإسرائيلية لا تعمل دائمًا بتناغُمٍ كاملٍ تحت الضغط المكثف.[6]
كما أظهرت صواريخ مثل “سِجيل” و”فتاح” حضورًا لافتًا في الهجمات؛ مما ساهم في زيادة تحديات الدفاعات الإسرائيلية؛ حيث اضطرت بعض المنظومات، مثل “مقلاع داوود”، للتعامل مع أهداف لم تكن مصممة لها، مثل الصواريخ الباليستية؛ مما كشف عن ارتباك في توزيع الأدوار داخل المنظومة الدفاعية. هذا التداخُل بين المهام الدفاعية أضعف الأداء الجزئي لبعض الوحدات، وكَشَفَ عن ثغرات في التكامُل الوظيفي للمنظومة، والتي لم تظهر إلا في ظِلِّ سيناريوهات هجومية مُعَقَّدة ومُرَكَّبة. [7]
3- الإرهاق البشري والتِّقَنِيّ في وحدات التشغيل
إلى جانب المُعطيات التقنية، برزت خلال المواجهة معضلة الإرهاق في وحدات التشغيل؛ حيث تشير تسريبات إعلامية، أبرزها من صحيفتيْ “هآرتس، ومدار”، إلى أن أطْقُمَ بطاريات “مقلاع داوود” استقبلت في بعض الليالي أكثر من 140 إنذارًا خلال ساعةٍ واحدةٍ، وأدَّى هذا الضغط إلى ارتباكٍ في القرارات، وسُجِّلَتْ حالات اعتراض خاطئ لأهداف لم تكن تستحق؛ ما أدَّى إلى هدر صواريخ باهظة الكلفة.
كما لا يقتصر الإرهاق على الوحدات التقنية، بل يشمل مستوى القيادة والسيطرة؛ إذ إن اتخاذ القرار في سياق هجوم متعدد الوسائط يتطلب يقظة دائمة وقرارات متزامنة في غضون ثوانٍ، وكلما طالت مدة الحرب، ارتفعت احتمالات الوقوع في أخطاء بشرية قد تكون باهظة الثمن في بيئة تُبْنَى فيها الثقة على دِقَّة الأداء.
في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن أداء المنظومة الدفاعية في الحرب الحالية يتسم بثنائية دقيقة: نجاح في امتصاص الضربة الأولى، وفشل جزئي في منْع الاختراقات الرمزية.؛ فالمنظومة لم تنْهَر، لكنها لم تعُدْ حصينة بالكامل، وقد استطاعت امتصاص الموجات الأولى دون أن تفقد السيطرة، لكنها دفعت ثمنًا سياسيًّا ونفسيًّا كبيرًا؛ جرَّاء كل صاروخٍ اخترق مجالها ووصل إلى هدفه، خصوصًا في المدن المركزية.
رغم أن العمليات العسكرية تُقاس غالبًا بنتائجها الميدانية المباشرة، إلا أن المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران كشفت عن تحوُّلاتٍ أعمق تمسُّ بنية التفكير الاستراتيجي لدى الأطراف المنخرطة.
وفي الحالة الإسرائيلية، لا يقتصر أثر هذه الجولة من التصعيد على الأداء التكتيكي أو العملياتي، بل يمتدُّ ليطالَ مفاهيم جوهرية في العقيدة الأمنية والدفاعية للدولة.
فمع توالي الضربات وتعدُّد أنماط التهديد، بدأت ملامح تآكل تدريجي في بعض ركائز “التفوُّق النَّوْعي” الذي طالما شكَّلَ حجر الأساس في العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
هذا التآكل، وإن لم يُترجم إلى إخفاق ميداني حاسم، إلا أنه يفتح الباب أمام انعكاسات بنيوية وتحديات استراتيجية، قد تُعيد رسْم العلاقة بين إسرائيل وأمنها القومي على المديَيْن “المتوسط، والبعيد”.وتتمثل أبرز هذه الانعكاسات في النقاط التالية:
1- تآكُل مفهوم “المناعة الكاملة” وتراجُع مركزية الرَّدْع
لطالما روَّجت إسرائيل لفكرة أن العُمْق الإسرائيلي مُؤَمَّنٌ بالكامل؛ بفضل بنية دفاعية متعددة الطبقات مدعومة بقدرات استخباراتية وشبكات إنذار مبكر.
لكن واقع التصعيد الأخير مع إيران، أثبت أن هذه “المناعة” ليست مطلقةً، بل نسبية ومحدودة زمنيًّا وجغرافيًّا؛ فنجاح عدة صواريخ في الوصول إلى منشآت مدنية ومراكز استراتيجية، رغم تشغيل كافَّة طبقات المنظومة، أضعف صورة الرَّدْع أمام الخصوم، وبثَّ شكوكًا في صفوف الحلفاء الإقليميِّين، الذين يرون في إسرائيل مرجعًا في تقنيات الدفاع.
هذا التآكُل في الهالة الدفاعية، وإن لم يُترجم – حتى الآن – إلى انهيار عسكري كامل، إلا أنه أثَّرَ على ثقة الداخل الإسرائيلي في قدرة الجيش على حماية الجبهة الداخلية بالكامل، كما هزَّ موقع إسرائيل في معادلة الرَّدْع الإقليمي، خصوصًا في مواجهة خصوم يراكمون بدائل هجومية منخفضة التكلفة.
2- استنزاف الذخائر والمخزون الاستراتيجي
أحد أبرز تحديات المرحلة الحالية هو النزيف المتسارع في مخزون الذخائر الاعتراضية، لا سيما في منظومات، مثل “حيتس 3” و”مقلاع داوود”، التي تُستخدم لمواجهة صواريخ باليستية وكروز متطورة، ومع ارتفاع تكلفة الاعتراض مقابل انخفاض كُلْفَة الهجوم، تجد إسرائيل نفسها أمام معادلة غير مستدامة على المدى المتوسط؛ ما دفعها لاعتماد سياسة “الاعتراض الانتقائي”.
ورغم ما توفره الولايات المتحدة من دعْمٍ مباشرٍ عبْر منظومات “ثاد” ” و”SM-6″، إلَّا أن الاعتماد المُفْرِط على الدعم الخارجي يُثيرُ تساؤلات حول الاستقلالية الدفاعية لإسرائيل؛ في حال نشوب نزاع متعدد الجبهات أو تراجُع الالتزام الأمريكي لأيِّ سببٍ سياسيٍّ أو لوجستيٍّ.
وفي هذا السياق، يُمكن القول: إن استنزاف الذخائر وعدم وضوح أفق إعادة التزوُّد بها بوتيرة كافية شكَّلَا أحد العوامل الضاغطة التي دفعت صانع القرار الإسرائيلي إلى القبول بوقْف إطلاق النار؛ تفادِيًا لانزلاق قد يخلُّ بتوازن الرَّدْع، أو يؤدي إلى انكشاف استراتيجي أوسع في حال استمرار القتال.
3- ارتباك في البنية العقائدية للانتشار الدفاعي
أظهرت الأيام الأولى للحرب محدودية قدرة إسرائيل على حماية كافَّة الجبهات في آنٍ واحد؛ إذ إن منظومات الدفاع متركزة بالأساس حول المراكز السكانية الكُبْرَى ومواقع البنية التحتية الحيوي؛، ما خلق فراغات جغرافية في مناطق الأطراف، خصوصًا في الشمال الشرقي والنقب.
هذا التوزيع القائم على مبدأ “المخاطر المقبولة” يطرح سؤالًا جِدِّيًّا حول مدى عدالة التغطية الدفاعية، وقد يؤدي إلى نقاش داخلي حول إعادة هيكلة انتشار البطاريات ومنظومة الرادارات، بناءً على تغيُّر طبيعة التهديدات.
4- تفوُّق الخصم في “هندسة الفجوات”
بالرغم من أن إيران لم تُظهر تفوُّقًا كًمِّيًّا في ضرباتها، لكنها تفوَّقت في استثمار الفجوات البنيوية والنفسية؛ فالهجمات الإيرانية اعتمدت على ديناميكية “الإرهاق المركب” بدلًا من الحسْم، وراهنت على تثبيت صورة إعلامية، بأن المنظومة الدفاعية الإسرائيلية ليست عَصِيَّةً على الاختراق.
وقد نجحت في ذلك – ولو جزئيًّا – عبْر إصابة مواقع حيوية، وتأخير استئناف الحياة الطبيعية في تل أبيب وبئر السبع والوسط.
ومع استمرار هذا النَّمَط من الضغط النفسي والإعلامي، ارتفع منسوب القلق داخل إسرائيل، ليس فقط من استمرار الاستنزاف العسكري، بل من تحوُّل “الاختراق الرمزي” إلى حالة دائمة تهزُّ ثقة الرأي العام.
وبمرور الوقت، تحوَّلَتْ معضلة الرَّدِّ من مسألة عسكرية إلى معضلة “سياسية – صورية”؛ إذ تصاعدت المطالب بالرَّدِّ لاستعادة الهيبة، لا لتحقيق مكاسب ميدانية.
وفي ظل هذا التوازن الحَرِج، بات خيار وقْف إطلاق النار مخْرجًا مناسبًا لتفادِي ردود فِعْلٍ انتقاميةٍ قد تكون مُكْلِفَةً وغير محسوبة، وتجنُّب الانزلاق إلى نزاع إقليمي واسع النطاق لا تملك إسرائيل رفاهية خوْضه حاليًا.
5- إرباك في العلاقة مع الحلفاء والأسواق العسكرية
إسرائيل لا تعتمد فقط على منظومتها للدفاع الذاتي، بل تُسوِّقُها كمنتج دفاعي عالمي، يُشكِّلُ ركيزةً من ركائز اقتصادها العسكري، وأي فشل أو اختراق ملحوظ يُؤثر على سُمْعة هذه المنظومات في الأسواق العالمية، خصوصًا في ظِلِّ منافسة دولية شَرِسَة، كما أن الاعتماد المتزايد على تدخُّل المنصَّات الأمريكية يُحْرِجُ المؤسسة العسكرية أمام حلفائها الإقليميِّين الذين يراهنون على “الاعتماد الإسرائيلي الذاتي” كنموذج.
الخاتمة
في ضوء وقْف إطلاق النار المُعْلَن بين إسرائيل وإيران بعد هجمات متبادلة استمرت لأكثر من 10 أيام، تبيّن ضعْف السردية التي سادت داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بشأن قدرتها على احتواء التهديدات الاستراتيجية المُعقَّدة؛ فبالرغم من امتلاكها منظومة دفاعية متعددة الطبقات وتفوُّق تقني ظاهر، كشفت هذه الجولة عن حدود قدرة تلك المنظومة على مواجهة هجمات مركبة ومتزامنة، قادرة على إحداث اختراقات دقيقة ومتكررة، لا تقتصر خسائرها على الجانب المادي فحسب، بل تمسُّ أيضًا البنية النفسية والسياسية للدولة.
كما شكَّلَتْ الهجمات الإيرانية تحوُّلًا نوْعِيًّا في نَمَط الاشتباك؛ إذ انتقل من حروب بالوكالة إلى مواجهة مباشرة بين دولتيْن، إحداهما تتمتع بسمعة عسكرية واستخبارية متفوقة، ولم يكن مجرد وصول عددٍ من الصواريخ إلى أهداف استراتيجية في قلْب تل أبيب وبئر السبع ورحوفوت انتكاسة تكتيكية فحسب، بل خَرْقًا واضحًا لما اعتُبر “خطًّا أحمر” ضِمْن العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي استمرت لعقود.
وعليه؛ سيفرض هذا الواقع على إسرائيل مراجعة شاملة لصورة الأمن القومي التي بناها صُنَّاع القرار، وأبَرَزَ هشاشة القدرات الذاتية في ظِلِّ اعتمادها الكبير على الدعم الأمريكي.
فقد أصبح واضحًا، أن الاكتفاء الذاتي الدفاعي لا يزال هَدَفًا بعيد المنال، رغم الميزانيات الضخمة والتحالُفات الاستراتيجية.
من هنا؛ فإن إسرائيل تجد نفسها أمام تحدِّيات جسيمة تقتضي إعادة صياغة عقيدتها الأمنية والدفاعية، بالتركيز على تطوير منظومتها الاعتراضية، تعزيز الجاهزية الفنية والتشغيلية، وتقليل الاعتماد على الدَّعْم الخارجي، كما ستستدعي التجربة الأخيرة من التصعيد مع إيران إلى تبنِّي آليات أكثر مرونة واستباقية للتعامل مع سيناريوهات الهجمات المركبة والمتزامنة، إلى جانب إعادة النظر في استراتيجيات الرَّدْع؛ بما يتناسب مع التحوُّلات الميدانية والمخاطر الإقليمية المتزايدة.
وهكذا، لم تعُدْ مسألة الرَّدْع ترتكز فقط على التفوُّق التكنولوجي، بل على القدرة على الحفاظ على استمرارية الرَّدْع نفسيًّا وسياسيًّا؛ بما يحُولُ دون قبول الداخل والخارج بفكرة أن منظومة الأمن الإسرائيلية قابلة للاختراق؛ إذ يكفي ضربة واحدة لتظهر أن الخصْم قادر على الوصول، وهو ما تحقق بالفعل.
في المحصلة؛ تمثل هذه المواجهة محطَّةً فاصلةً تُلْزِمُ إسرائيل بإعادة البناء الاستراتيجي لمنظومتها الدفاعية، وتحويل وقْف إطلاق النار إلى فرصةٍ لإعادة التمركز وتعزيز القدرات؛ تمهيدًا لمواجهة تحديات المستقبل على أُسُسٍ أكثر صلابةً واستدامةً.
[3] قريباً تعمل في إسرائيل.. ماذا نعرف عن المنظومة الدفاعية الأميركية “ثاد”؟، الشرق، 13 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://shorturl.at/ULBPr
[4] Iranian missile strikes show Israel’s aerial defense array is not ironclad, Washington post, 20 June 2025, Available at: https://www.washingtonpost.com/
[7] منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية تواجه اختباراً حقيقياً أمام الهجمات الصاروخية الإيرانية، مركز مدار، 20 يونيو 2025، متاح على الرابط: https://shorturl.at/VnmVw
