تركّزُ السياسةُ الخارجيةُ الباكستانية بشكلٍ متزايدٍ على جمهوريات آسيا الوسطى (كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، وأوزبكستان)، حيث ترى في هذه المنطقة الغنية بالطاقة شريكًا وبوابةً لزيادة الترابط والتأثير في جميع أنحاء أوراسيا. في هذا الصدد، يشير المقال المنشور[1] فى مركز توبتشوباشوف* إلى أن هذا التوجّه يأتي استجابةً للديناميكيات الإقليمية المتغيرة، وإعادة الاصطفافات العالمية، والضرورات المحلية التي تدفع إسلام آباد نحو تعزيز دورها الإقليمي.
الطاقة والتجارة: ركائز التعاون
يوضح المقال أن الطاقة والتجارة يمثلان حجرَ الزاويةِ في علاقات باكستان مع آسيا الوسطى، أحد أبرز المشاريع التي تجسّدُ هذا التعاون هو خط أنابيب تركمانستان-أفغانستان-باكستان-الهند (TAPI)، الذي يهدفُ إلى تزويدِ أسواق جنوب آسيا بالغاز، إلا أن المقال يذكر أن عدم الاستقرار المتكرر في أفغانستان وتوتر العلاقات مع باكستان قد أعاق تقدّمَ هذا المشروع، مما يسلط الضوء على البيئة الإقليمية المتقلبة التي تعقد المشاريع الاستراتيجية، ولكن على عكس ما يشير المقال أن العوامل التي تعوق مشروع خط أنابيب TAPI لا يمكن اختزالُها في توتر العلاقاتِ بين باكستان وأفغانستان بل تتسعُ الأسباب لأكثر من ذلك أولها عدمُ وضوحِ سياساتِ التصدير في تركمانستان حيث توجدُ قيودٌ كبيرةٌ على الاستثمار الأجنبي في قطاع الغاز و غيابٍ للإصلاحات الجوهرية في سياسات الطاقة التقليدية ، مما يعرقل تطوير المشاريع الجديدة وتحديث البنية التحتية.
وبالنظر إلى هذه المؤشرات، فإن من المرجّح أن تعطي تركمانستان الأولويةَ لتعزيزِ صادراتها إلى الصين وأوزبكستان، وربما تدرسُ خياراتٍ أخرى مثل العراق وتركيا وأوروبا، لكن قدرة هذه الدول على المنافسة السعرية قد تكون محدودة ناهيك عن باكستان[2].
القدرة التصديرية والقيود الاقتصادية
على الرغم من التزام باكستان بالدبلوماسية الاقتصادية مع آسيا الوسطى، يشير المقال إلى وجودِ قيودٍ كبيرةٍ على قدرتها التصديرية، إن محدوديةَ القاعدة الصناعية لباكستان، وضعْفَ قدرتها التصديرية، واعتمادها على الصادرات التقليدية ذات القيمة المنخفضة، ليست مجرد إحصائياتٍ اقتصاديةٍ، بل هي قضايا هيكليةٌ متجذرةٌ تحد بشكلٍ أساسيٍ من قدرتها على الاستفادة من موقعها الاستراتيجي والمنافسة بفعالية في أسواق آسيا الوسطى مع اقتصادات أكثر تنوعاً مثل الصين وروسيا.
ولا يزالُ الحجمُ الإجمالي للتجارة مع جمهوريات آسيا الوسطى متواضعاً، حيث يتراوح حوالي 400-500 مليون دولار سنوياً، على الرغم من النمو الأخير.8 يوضح الجدول التالي حجم التجارة الباكستانية مع جمهوريات آسيا الوسطى بين عامي 2020 و2024:
تجارة باكستان مع دول آسيا الوسطى (2024)
المصدر: اعداد الباحث بالاعتماد على بيانات US Comtrade
يُبرز الجدول قوة التوجّه التصديرية في العلاقات التجارية بين باكستان وجمهوريات آسيا الوسطى، حيث بلغت الصادرات 402.33 مليون دولار وتعد كازاخستان وأوزبكستان أبرز شركاء باكستان، إذ تُسهمُ كازاخستان وحدها بأكثر من 276 مليون دولار من الفائض، بينما تبقى التجارة مع قيرغيزستان وطاجيكستان محدودة.[3]
ولكن تقتصرُ الصادراتُ الباكستانية الأساسية إلى آسيا الوسطى على المنسوجات والسلع الرياضية والأدوات الجراحية والأرز وبعض المنتجات الزراعية حيث يُعيق نقْصُ القاعدة الصناعية القوية والتقدم التكنولوجي قدرة باكستان على الاستفادة الكاملة من فرص التصدير في آسيا الوسطى، خاصةً في قطاعاتٍ أكثر ربحيةٍ مثل الآلات والإلكترونيات والصناعات عالية التقنية. على الرغم من الحديث عن “الدبلوماسية الاقتصادية”، فإن هذه القيود الهيكلية تعني أن باكستان قد لا تكونُ قادرةً على ملء الممرات التجارية التي تسعى لإنشائها بسلعها الخاصة، مما يحد من الفوائد المتبادلة على المدى الطويل ويجعلها أقل جاذبية كشريك تجاري مقارنة بالآخرين
السياسة الخارجية المركزية والتأثير العسكري
ينوّه المقال إلى أن السياسةَ الخارجيةَ الباكستانيةَ تتسمُ بمركزيةٍ عميقةٍ وتتأثرُ بشكلٍ كبيرٍ بالمؤسسة العسكرية، حيث تلعب وكالة الاستخبارات الداخلية (ISI) والجيش الباكستاني أدوارًا محوريةً في تشكيل العلاقات الخارجية، يوضح المقال أن هذا التأثير غالبًا ما يكون مدفوعًا باعتباراتٍ أمنيةٍ، وشرعيةٍ دينيةٍ، ومنافسةٍ جيوسياسيةٍ، خاصةً مع الهند. ومع ذلك، أنه في سياق آسيا الوسطى، يجب على إسلام آباد أن توازنَ بين التضامن الأيديولوجي والدبلوماسية الاقتصادية البراغماتية، نظرًا للطبيعة العلمانية لحكومات آسيا الوسطى.
التطلعات الإقليمية والدبلوماسية الاقتصادية
يُشير المقال إلى أن باكستان تتبنّى مجموعةً من الأهداف الاستراتيجية في آسيا الوسطى، تتمثل في تعزيز الاتصال والتجارة الإقليمية، وتأمين إمدادات الطاقة، وموازنة النفوذ الهندي المتزايد، إضافةً إلى توسيع حضورها في أفغانستان وما بعدها، مع السعي لترسيخِ موقعها كبوابةٍ تربطُ بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا. وتنعكس هذه التطلعات في الانخراط الباكستاني في شراكاتٍ ثنائيةٍ، لا سيَّما مع كازاخستان التي تمثّل محورًا لتوسيع التجارة والاستثمار، إلى جانب العلاقات التجارية المتنامية مع أوزبكستان.
في ضوء ذلك، تبرز إمكاناتٌ كبيرةٌ غير مستغلة لتوسيع وتنويع التجارة بين باكستان وجمهوريات آسيا الوسطى، خصوصًا عبر الاستفادة من مبادرات الاتصال الإقليمي والشراكات الاستراتيجية، وتشمل الفرص المتاحة تعزيزَ صادراتِ المنتجات ذات القيمة المضافة، مثل الأغذية المصنعة، والمواد الكيميائية الصناعية، والمعدات الطبية، والأدوية، والقمح، وتسعى باكستان إلى زيادة صادراتها إجمالًا إلى 50 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، وإلى أكثر من 100 مليار دولار على المدى الطويل، وهو ما يتطلب تجاوزَ التركيزَ التقليدي على المنسوجات لصالح قطاعاتٍ مثل تكنولوجيا المعلومات، والصناعات الدوائية، والهندسية. ويُعد استكشافُ أسواقٍ جديدةٍ في إفريقيا وأمريكا اللاتينية جزءًا محوريًا من استراتيجية تنويع الصادرات الباكستانية[4].
القيود والمنافسة الجيوسياسية
يبرز المقال أن طموحات باكستان في آسيا الوسطى تواجهُ قيودًا وتحدياتٍ جيوسياسيةً كبيرةً وتعد الحواجز الجغرافية، مثل التضاريس الأفغانية الوعرة، تشكل عائقًا طبيعيًا، كما أن التقلبات الأمنية، خاصةً في أفغانستان بعد سيطرة طالبان، تزيدُ من المخاطر، ويوضح المقال أن باكستان تواجهُ منافسةً إقليميةً قويةً من الصين حيث الصين: تُعد الصين الشريك الاقتصادي المهيمن في آسيا الوسطى، متجاوزةً روسيا في حجم التجارة، حيث بلغ حجم التجارة بين الصين وآسيا الوسطى 89.4 مليار دولار في عام 2023، بزيادة 27% عن العام السابق[5] تستثمر بكين بكثافة في البنية التحتية عبر مبادرة الحزام والطريق، مثل سكة حديد الصين-قيرغيزستان-أوزبكستان، وفي قطاع الطاقة من خلال خط أنابيب الغاز بين الصين وآسيا الوسطى. يتوسع نفوذها، مما يسد الفجوات التي خلفتها روسيا.
وغيرها من المنافسين في المنطقة روسيا وتركيا وإيران، التي تقدمُ هي الأخرى طرقَ اتصالٍ وتجارةٍ بديلةٍ والنفوذ الهندي المتزايد في المنطقة يمثل تحديًا لباكستان، حيث تسعى نيودلهي أيضًا لبناء شراكاتٍ في مجال الطاقة والتجارة مع دول آسيا الوسطى.
العامل الخليجي: استثمارات دول مجلس التعاون والتقارب الاستراتيجي
يلفت المقال الانتباه إلى دور دول مجلس التعاون الخليجي، خاصةً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين، التي تستثمرُ بكثافةٍ في باكستان كبوابةٍ استراتيجيةٍ لآسيا الوسطى الغنية بالموارد، يؤكد المقال أن هذا يعكس طموحًا خليجيًا أوسع لتنويع الشراكات الاقتصادية وتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية وتوسيع ممرات التجارة و هذا التوافقُ المتزايدُ بين باكستان وآسيا الوسطى والخليج يؤدي إلى ظهورِ شبكةٍ ثلاثيةٍ تقوم على المصالح المشتركة في التجارة، أمن الطاقة، والتكامل الإقليمي، مما يوفر لدول الخليج عوائد اقتصادية ونفوذًا استراتيجيًا، ولآسيا الوسطى وصولًا حيويًا إلى الأسواق العالمية عبر الموانئ الباكستانية.
في الختام:
يشير المقال إلى أن انخراطَ باكستان المتطور مع دول وآسيا الوسطى ودول مجلس التعاون الخليجي يمثّلُ تحولًا براغماتيًا نحو الدبلوماسية الاقتصادية، وتطوير البنية التحتية، والتعددية وعلى الرغم من الروابط التاريخية والأيديولوجية التي تمهدُ الطريق، فإن التعاونَ المستقبلي سيتحددُ بالتجارة والنقل واتصال الطاقة، وللاستفادة الكاملة من هذا الزخم، يجبُ على باكستان معالجةُ التحدياتِ المحليةِ الحرجة، بما في ذلك عدم الاستقرار السياسي والتهديدات الأمنية وتضارب المصالح الإقليمية، ومن خلال نهْجٍ متوازنٍ يستفيدُ من الشراكات مع كلٍ من الصين والخليج، يمكن لباكستان أن تضعَ نفسها كمركزٍ رئيسيٍ في ممرٍ اقتصاديٍ واستراتيجيٍ أوراسيٍ جديدٍ، مما يُعيدُ تشكيل دورها في النظام الإقليمي.
* مركز أبحاث مستقل غير ربحي أذربيجاني، تأسس عام 2018، يركز على تحليل الشؤون الدولية والإقليمية، مع اهتمام خاص بقضايا ما بعد الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط، ويستند إلى مبادئ البحث الموضوعي ودعم المصالح الوطنية عبر رؤية تحليلية عالمية.
[3] Atr-un-Nisa, Pakistan’s Trade Potential with Central Asian Republics (CARs), BIPP Policy Brief Series, Policy for Peace, Centre for Predicting, Reducing Deficits, Producing Results, PB-101-2025.pdf
المصدر: اعداد الباحث بالاعتماد على بيانات US Comtrade