شَهِدَتْ الحربُ “الروسية – الأوكرانية” خلال الأيام الأخيرة تطورات ميدانية متسارعة، كشفت عن مرحلة جديدة من التصعيد المحسوب؛ حيث كثَّفَتْ موسكو هجماتها على عدة جبهات في وقت متزامن، بدْءًا من إقليم دنيبروبيتروفسك الذي تحوَّل إلى بؤرة للضربات الجوية والصاروخية، مرورًا بأكبر هجوم جوي تشنه روسيا منذ بداية الحرب، وصولًا إلى تنفيذ مناورات بحرية واسعة في بحر اليابان حملت رسائل استراتيجية واضحة.
وبالتوازي مع ذلك، يتزايد الحديث عن مسارات تفاوضية محتملة، وتصريحات تشير إلى إمكانية عقْد قمة تجمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أكتوبر المقبل؛ ما يعكس مفارقة واضحة بين شدة العمليات على الأرض من ناحية، وبين محاولات التمهيد السياسي لتسوية مستقبلية من ناحية أخرى.
في هذا السياق، تُثار أسئلة مهمة حول أهداف روسيا من تكثيف الهجمات في هذا التوقيت، ودلالات المزْج بين التحرك العسكري واسع النطاق والحديث المتواصل عن قنوات الحوار، وكذلك أبرز التحرُّكات الغربية في هذا الصدد
مؤشرات التصعيد الروسي الأخير
شهدت الأيام الأخيرة تصعيدًا عسكريًّا روسيًّا كثيفًا في عدة جبهات داخل أوكرانيا بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة، على الرغم من الحديث في سياقات متعددة عن الرغبة في إنهاء الحرب، يمكن الإشارة إلى ذلك في السياق الآتي:-
١- التصعيد في دنيبروبيتروفسك
كان إقليم دنيبروبيتروفسك[1] مركزًا لعمليات ميدانية لافتة للنظر في الفترة الأخيرة. وهذا التصعيد لا يمكن اعتباره مجرد تحرُّك عشوائي أو انفعالي، بل يبدو أقرب إلى عملية محسوبة تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف العسكرية والسياسية في وقت واحد.
فمن الناحية الميدانية، ركزت القوات الروسية على تكثيف الهجمات الجوية والصاروخية التي طالت منشآت حيوية، مثل محطات الكهرباء ومخازن الذخيرة والبنى التحتية للقيادة والسيطرة، وهذه الهجمات لم تكن فقط لتعطيل القدرة القتالية الأوكرانية الفورية وإنما لإحداث ضغوط متراكمة على الشعب والقيادة الأوكرانية على حدٍّ سواء، وكذلك على المجتمع الدولي – خاصة الغربي – الداعم لها.
٢- مناورات في بحر اليايان
وبالتوازي مع ذلك، نفّذت موسكو مناورة بحرية واسعة في بحر اليابان شاركت فيها قطع حربية[2]، وهي خطوة تحمل رسائل مركبة؛ حيث تأكد قدرة روسيا على تشغيل قواتها البحرية في أكثر من مسرح عمليات في وقت واحد، مع التأكيد على أن الانشغال بالملف الأوكراني لا يعني غياب القدرة الروسية على اختبار الجاهزية البحرية والرَّدْع في محيطات أخرى قد تكون محلَّ توتُّر مستقبلي.
٣- تكثيف الهجمات الجوية
كثَّفت روسيا ضرباتها الجوية على أوكرانيا بشكل لافت خلال الأيام الأخيرة؛ حيث شنَّت في ٢٩ يونيو ٢٠٢٥، أضخم هجوم جوي منذ بداية الحرب، وفْقا للقوات القوات الجوية الأوكرانية، مستخدمةً أكثر من ٥٣٧ سلاحًا جويًّا من بينها ٤٧٧ طائرة مُسيَّرة و٦٠ صاروخًا[3]، واستهدفت الضربات مناطق حيوية في عُمْق الأراضي الأوكرانية ، بما في ذلك البنية التحتية للطاقة ومواقع عسكرية في، وصولا إلى مناطق غرب البلاد، في محاولة واضحة لإرباك الدفاعات الأوكرانية واستنزاف قدراتها.
بشكل عام، يمكن القول: إن كل هذه العناصر مجتمعة تعكس نمطًا روسيًّا قائمًا على سياسة “التصعيد التراكمي” لتحقيق سلسلة من الإنجازات الصغيرة التي تتراكم بمرور الوقت مكونة وضعًا تفاوضيًا أفضل؛ حيث تدرك القوات الروسية أن التقدم الشامل والسريع صار صعبًا في ظلِّ الدفاعات الغربية المقدمة لأوكرانيا؛ لذا تتبنَّى استراتيجية قد تؤدي إلى التآكُل التدريجي لموارد كييف، مع الحرص على إظهار قدرة موسكو على إدارة معركة طويلة الأمد مهما كانت التكاليف أو القيود.
التوظيف الروسي للحرب الإسرائيلية الإيرانية
يبرز في قلب التصعيد الروسي الأخير عاملا بالغ الأهمية يتمثَّلُ في تزايد تركيز واشنطن على التوتر المتصاعد في الشرق الأوسط، لاسيما بين إسرائيل وإيران؛ حيث شهدت الآونة الأخيرة تحوُّلات كبيرة في هذا الملف، ابتداءً من الهجمات المتبادلة بالوكالة إلى الضربات المباشرة من كلا الجانبين؛ ما دفع الإدارة الأمريكية إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية ولو جزئيًّا، ومن ثمَّ التدخُّل وتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران:-
١- مفارقة الدعم
برزت مفارقة واضحة، وهي أن أوكرانيا على الرغم من كوْنها أحد أكبر متلقي الدعم العسكري الأمريكي، ليست في موقع مماثل لإسرائيل؛ من حيث الأهمية الجيوسياسية الفورية أو من حيث قدرة واشنطن على ضمان تدفُّق الإمدادات بنفس الوتيرة والسلاسة، كما أن إسرائيل دولة صغيرة جغرافيًّا، وتمتلك بنية تحتية كاملة التسليح والدعم الأمريكي منذ عقود، فضلًا عن وجود تنسيق لوجستي لحظي بين الجيشين. وهذه الخصائص تتيح للإدارة الأمريكية هامشًا أكبر للاستجابة الفورية والتعويض السريع لأي نقْص في الذخائر أو الأسلحة؛ ما انعكس مؤخرًا حين نقلت واشنطن جزءًا من ذخائرها المخصصة سابقًا لدعم أوكرانيا إلى إسرائيل، في ظل التصعيد مع طهران[4]؛ لذا فإن هذا الفارق في القدرة على الاستجابة السريعة منح موسكو نافذة لتكثيف الضغط الميداني، وهي تدرك تمامًا أن الدعم الأمريكي لا يمكن أن يصل دائمًا بالزَّخَم نفسه، وفي التوقيت الذي تحتاجه كييف كما هو الحال مع إسرائيل.
٢- أولوية إسرائيل في حسابات واشنطن
يضاف إلى ذلك، أن الصراع “الإسرائيلي – الإيراني” يرتبط مباشرة بصورة الهيبة الأمريكية في الشرق الأوسط وبتوازن الردع مع خصوم رئيسي؛ ما يجعله ملفًّا مُلِحًّا في حسابات السياسة الخارجية الأمريكية، وهذا الانشغال الجزئي يترك مساحة نسبية لموسكو لمواصلة تقدمها، خاصَّةً وأنها تدرك أن الإدارة الأمريكية – حتى لو كانت مصممة على استمرار دعم أوكرانيا – لا تستطيع توزيع تركيزها الاستراتيجي والموارد المالية والذخائر على جبهتين مشتعلتين بالقوة والاستمرارية نفسها.
لذا؛ فإن الكرملين قد نجح في تبنِّي تكتيك قائم على استغلال انشغال الخصم، من خلال تعزيز المكاسب الميدانية بأسرع ما يمكن قبْل أن يعيد البيت الأبيض تنظيم أولوياته ويجد صيغة لاستعادة التوازن بين دعم إسرائيل ودعم أوكرانيا. وهذا التوقيت قد يكون حَرِجًا للغاية؛ لأن كل شحنة أسلحة أو ذخائر يتمُّ تحويلها من أوكرانيا إلى جبهة أخرى، تعني مزيدًا من الهشاشة في قدرة كييف على الصمود أمام التصعيد الروسي المستمر.
التحرُّكات الغربية الأخيرة
عكست التحرُّكات الغربية على التصعيد الروسي الأخير تصميمًا واضحًا على تجديد الالتزام العسكري تجاه أوكرانيا، وتثبيت صورة الجبهة المُوَحَّدة في مواجهة موسكو، ويمكن الإشارة إلى ذلك في السياق الآتي:-
١- زيارة وزير الخارجية الألماني إلى كييف
حيث كان لافتًا، أن وزير الخارجية الألماني قام بزيارة رسمية إلى كييف برفقة وفد كبير من شركات تصنيع السلاح[5]، في خطوة بدت وكأنها رسالة مركبة، فمن ناحية تدلل على استمرار تدفق الإمدادات الدفاعية النوعية، ومن ناحية أخرى تظهر أن أوروبا لن تكتفيَ بالتصريحات الرمزية بل ستدخل بشكل مباشر في دعم قدرة كييف على شنِّ عمليات هجومية منظمة. وهذا التوجُّه الأوروبي تزامن مع نتائج قمة الناتو الأخيرة، التي خرجت بتعهُّدات صريحة لزيادة الإنفاق الدفاعي[6].
٢- قمة الناتو الأخيرة والدور الأمريكي الحاضر
اكتسبت هذه القمة طابعًا استثنائيًّا؛ بسبب حضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي قدَّمَ نفسه باعتباره محورًا أساسيًّا في بلورة استراتيجية التحالُف. فعلى الرغم أن ترامب كان قد عبَّرَ مرارًا عن تحفُّظه على فكرة “الشيكات المفتوحة” لأوكرانيا، إلا أنه في كلمته خلال القمة، لم يستبعد إطلاقًا إمكانية تزويد كييف بمنظومات صواريخ باتريوت[7]، وهو تصريح حمل دلالات عميقة على المرونة التدريجية في موقفه تجاه استمرار الدعم
٣- استثمار نجاح عملية شبكة العنكبوت
بناءً على ما سبق، فإن الإشارات السابقة لم تكن معزولةً عن سياق التقييم العسكري الأخير لعملية “شبكة العنكبوت” التي نفّذتها أوكرانيا، في يونيو الماضي، والتي اعتبرت نموذجًا ناجحًا لاختراق الدفاعات الروسية وتوجيه ضربات دقيقة لأهداف استراتيجية خلف خطوط التماس؛ حيث عزز نجاح هذه العملية قناعة العواصم الأوروبية بأن الاستثمار في القدرات الاستخباراتية والتسليحية لأوكرانيا لا يقتصر على حماية حدودها، بل يوجه رسائل ردْع مباشرة للكرملين، بأن زمن الحروب التقليدية قد ولَّى، وأن كييف باتت قادرةً على تنفيذ هجمات نوعية مركبة؛ بفضل الشراكة الغربية.
وبشكل عام، فإن الموقف الأوروبي بدا وكأنه متناغمًا إلى حدٍّ كبيرٍ مع إشارات ترامب، حتى وإن كان يختلف أحيانًا في الوتيرة أو درجة الانفتاح. وهذا التلاقي النسبي بينهما سمح بظهور ما يمكن تسميته “توافق الضرورة”؛ حيث إن الأوروبيين يريدون ضمان استمرارية الدعم دون تأثره بالضغوط الداخلية الأمريكية، والإدارة الجمهورية في واشنطن تدرك أن أيَّ انكفاءٍ مُبَالَغٍ فيه قد يفسح المجال لموسكو لتوسيع نطاق هجماتها وإعادة تشكيل المعادلة الميدانية.
رسائل موسكو المزدوجة
كان من الملاحظ، أن روسيا خلال الفترة الأخيرة تتبنى استراتيجية مركبة تجمع بين أقصى درجات التصعيد الميداني، وفي الوقت ذاته، ترسل إشارات دبلوماسية تُوحِي باستعدادها لمناقشة حلول تفاوضية مستقبلية، وهذه المفارقة تبدو أكثر وضوحًا الآن، خصوصًا بعد أن استطاعت القوات الروسية إحراز تقدم تكتيكي في بعض المحاور، بينما كثفت القيادة السياسية جهودها لإبراز استعداد نظري للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولعل الدليل الأبرز على ذلك جاء من خلال الاتصال الهاتفي الذي جرى مؤخرًا بين رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية سيرجي ناريشكين ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون راتكليف[8].
وتجدر الإشارة، أن الاتصال تزامن توقيته بدقة مع تسارع الهجمات الجوية الروسية في دنيبروبيتروفسك وزيادة وتيرة الضربات على المنشآت الحيوية، وهذا التوازي بين تصعيد العمليات وإطلاق قنوات اتصال خلفية تكشف جانبًا من منهج “التفاوض على الأرضية التي تريد روسيا صناعتها”.
الأمر اللافت، أن موسكو حرصت في خطابها الإعلامي الرسمي على ألا تقدم وعودًا صريحة أو جدولًا زمنيًّا محدَّدًا لانتهاء محادثات جدية تهدف إلى وقْف إطلاق النار، بل اكتفت بتصريحات وإشارات عامة تتيح لها مرونة عالية في توظيف هذه الورقة الدبلوماسية وقت الحاجة. فعلى سبيل المثال، تصدر تصريحات روسية متكررة، بعضها يتحدث عن عدم جدوى أي تسوية دون اعتراف الغرب بالمصالح الأمنية الروسية، وبعضها يلمح إلى أن أبواب الحوار لم تغلق بعد. وهذا النَّمَط المزدوج يهدف إلى إرباك الموقف الغربي وخلق تباين داخل الناتو وبين واشنطن وحلفائها الأوروبيين حول كيفية قراءة نوايا موسكو.
إجمالًا:
تبدو آفاق التفاوض الجادّ بين روسيا وأوكرانيا في هذه المرحلة شديدة الضبابية؛ حيث إنه في الوقت الذي ترى روسيا أن أي مفاوضات يجب أن تعترف عمليًّا بمكاسبها الميدانية وضمانات أمنية واسعة النطاق، ترفض كييف أيَّ صيغة تسوية تعني التنازل عن أراضيها أو الاعتراف بشرعية الاحتلال.
وهذا التناقض الجذري في التصورات يجعل فكرة الانطلاق نحو مسار سياسي متكامل لإنهاء الحرب ليست بالأمر السهل على الأقل في الوقت الراهن. بل يمكن القول: إن الطرفين يتبنيان تكتيكًا واضحًا، يتمثل في سياسة الاستمرار في الحشد والحشد المضاد، وشنّ عمليات نوعية متكررة لكسْب أوراق تفاوضية مستقبلية حين يصل الضغط الميداني والاقتصادي إلى مستوى قد يضطر أحد الأطراف – أو كليهما – إلى القبول بالتفاوض كخيار اضطراري. لكن هذه المرحلة لم تأتِ بعد، ولا تظهر في الأفق أي مؤشرات جدية على اقترابها.
في المقابل، يظلُّ الهامش الوحيد الإيجابي والمتاح للمحادثات مرتبطًا بالجوانب الإنسانية، مثل اتفاقات تبادل الأسرى. وهذا النوع من التفاهمات الإنسانية قد يستمر بشكل متقطع؛ لأنه يخدم صورة كل طرف أمام جمهوره الداخلي والمجتمع الدولي، لكنه لا يُعتبر بأيِّ حال مقدمة حقيقية لحلٍّ سياسيٍّ شاملٍ.
المصادر:
[1] الجيش الروسي يتقدم في مقاطعة دنيبروبتروفسك، سكاي نيوز، ١١-٦-٢٠٢٥
