في ظلِ التحولاتِ الإقليمية المتسارعة والتنافس المتزايد على مصادر الطاقة في منطقة شرق المتوسط وإفريقيا، تبرزُ اتفاقيةُ التعاون بين المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا (NOC) وشركة البترول التركية (TPAO) كإحدى الخطوات اللافتة التي تستدعي الوقوفَ عندها. وقد دفعنا إلى تناول هذه الاتفاقية بتحليل ما ورد بشأنها في مقال منشور بمركز دراسات الشرق الأوسط[1]، حيث سلط الضوء على أبعادها المختلفة، ليس فقط بوصفها مشروعًا فنيًا لاستكشاف الموارد البحرية، بل باعتبارها أيضًا أداةً استراتيجيةً تنعكس على أمن الطاقة، وموازين النفوذ الجيوسياسي، ومسارات التعافي الاقتصادي في ليبيا.
اتفاقية TPAO-NOC في السياق الإقليمي
تُشكّلُ الاتفاقيةُ المبرمةُ بين المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا (NOC) وشركة البترول التركية (TPAO)، والتي تنصُ على إجراءِ مسوحاتٍ جيولوجيةٍ في أربع مناطق بحرية، تطورًا ذا أبعادٍ استراتيجيةٍ متعددة. فهي لا تقتصرُ على كونها خطوةً تقنيةً في مجال استكشاف الموارد الطبيعية، بل تنطوي على دلالاتٍ أعمق تتصلُ بأمن الطاقة، وترسيخ النفوذ الجيوسياسي، وتعزيز آليات التكامل الاقتصادي.
وتكتسب هذه الاتفاقية أهميتها من السياق الذي جاءت فيه، إذ تتزامن مع سعي ليبيا إلى النهوض باقتصادها المتعثّر في مرحلةِ ما بعد الصراع، ومع جهود تركيا لتوسيع استراتيجيتها الطاقوية في شرق البحر المتوسط وإفريقيا.
وتعمل ليبيا، التي تحتفظُ بأكبر احتياطيٍ نفطيٍ مؤكدٍ في القارة الإفريقية يُقدَّر بنحو 48 مليار برميل[2]، على إعادة تنشيط قطاعها النفطي في ظل ما تواجههُ من اضطراباتٍ سياسيةٍ داخليةٍ ومعوقاتٍ بنيويةٍ حادة. في المقابل، تواصل تركيا—التي تعتمد في أكثر من 90% من استهلاكها على واردات الطاقة[3]—تنفيذ خطة طموحة لتنويع مصادرها وتعزيز نفوذها الإقليمي. وتُعد اتفاقية التعاون بين TPAO وNOC تجسيدًا لهذا التقاطع في المصالح بين الطرفين، في منطقة تتسم بمستوى عالٍ من التنافس الدولي.
الدوافع الاستراتيجية لليبيا
تُمثّلُ اتفاقية التعاون بين المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا (NOC) وشركة البترول التركية (TPAO) ركيزةً أساسيةً في جهود ليبيا الرامية إلى التعافي الاقتصادي وتعزيز قدراتها في مرحلة ما بعد النزاع. وفي ظل ما تعيشهُ البلادُ من انتقالٍ سياسيٍ معقّد، تبرز أهمية الشراكات الخارجية كعاملٍ رئيسيٍ في إعادة هيكلة قطاع الطاقة، وزيادة الطاقة الإنتاجية، واستعادة ثقة المجتمع الدولي. وتُعد هذه الاتفاقية أداةً جوهريةً لإعادة بناء القدرات الاقتصادية والفنية التي تضررت على مدى سنوات من الصراع الداخلي.
يُعتبر إنتاج الطاقة من المصادر البحرية من أكثر العمليات تكلفة وتعقيدًا من الناحية التقنية. وبالنظر إلى ما خلّفه النزاعُ الليبيُ الطويل من تراجعٍ في البنية التحتية، فإن الدولةَ ليست في وضعٍ يسمح لها بتحمّل الأعباء المالية الكبيرة اللازمة لهذه المشاريع. إذ تتراوح الكلفة التقديرية الإجمالية للعمليات البحرية، بما في ذلك إنشاء المنصات وخطوط النقل ومرافق المعالجة، بين 3 و5 مليارات دولار، في حين تُقدّر تكلفة عملية الحفر البحرية الواحدة بما بين 60 و120 مليون دولار. وبالتالي، فإن الدخولَ في شراكةٍ مع طرفٍ يتمتعُ بقدراتٍ فنيةٍ قويةٍ، ودعمٍ سياسيٍ، ورؤيةٍ استراتيجيةٍ طويلة الأمد مثل TPAO، يمثّل مكسبًا جوهريًا لليبيا. كما يُتوقع أن تساهم هذه الشراكة في بثّ رسائل طمأنةٍ للمستثمرين الأجانب، مما قد يُعزز فرص دمج الحقول الليبية في الأسواق العالمي[4]
تسعى الاتفاقية إلى تنفيذِ بحوثٍ زلزاليةٍ أساسيةٍ وتوليد بيانات حفر مهمةٍ، تسهم بشكلٍ فعالٍ في إعادة رسم خريطة الثروات الطاقوية في ليبيا. ويُنتظر من هذا التعاون أن يرفعَ من الكفاءة الفنية للمؤسسة الوطنية للنفط، ويُعيد تقديم ليبيا كمصدر موثوق للطاقة في الأسواق الدولية.
ولا يُنظر إلى هذا الاتفاق باعتباره مجرد تعاونٍ تجاريٍ، بل يُفهم ضمن سياقٍ أوسع يربط بين مسار التعافي الليبي وبين الأهداف الجيوسياسية وأولويات أمن الطاقة التركية. فنجاح مساعي ليبيا في استعادة عافيتها الاقتصادية يتقاطع مع الطموح التركي لتعزيز الحضور الإقليمي وتنويع مصادر الطاقة. وتعكسُ الأبعادَ المتعددةَ للاتفاق—من أمن الطاقة إلى النفوذ الإقليمي والتكامل الاقتصادي—أن الجانب الفني والاقتصادي هو مجرد أداة لتحقيق أهداف استراتيجية أعمق للطرفين.
بالنسبة لليبيا، يُعد الاتفاقُ وسيلةً مركزيةً لبناء القدرات وجذْب الاستثمارات، وهو خطوةٌ ضروريةٌ على طريق الاستقرار بعد الحرب. أما بالنسبة لتركيا، فهو يخدمُ مباشرةً أهدافها في تقليل اعتمادها على الواردات وتعزيز موقعها في مناطق ذات أهمية جيوسياسية متقدمة
الدوافع الاستراتيجية لتركيا
تُعتبر استراتيجيةُ تنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد المرتفع على الواردات—الذي يتجاوز في الوقت الراهن 90%—أحد الأعمدة الأساسية في سياسة تركيا لأمن الطاقة. وفي هذا السياق، تمثّل الاكتشافاتُ الأخيرةُ لشركة البترول التركية (TPAO) للغاز الطبيعي في البحر الأسود، إلى جانب توسّع عملياتها الاستكشافية في الصومال، بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ .لانخراط تركيا الخارجي في مجال الطاقة. وتأتي الاتفاقية مع ليبيا كخطوةٍ محوريةٍ تُعزز هذا التوسع من الناحيتين الجغرافية والجيوسياسية.
وقد تزايدت جهود تركيا لتثبيت حضورها في شرق البحر المتوسط، لاسيَّما منذ توقيعها اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا في عام 2019، والذي أثار حينها جدلًا إقليميًا ودوليًا واسعًا، وما يثيرُ قلقاً أوسع لأطرافٍ دوليةٍ في مقدمتها اليونان ومصر في ظل استعداد البرلمان الليبي في طبرق، المدعوم من خليفة حفتر، للمصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، ويأتي ذلك على الرغم من الضغوط الدولية على حفتر لمنْع إقرار الاتفاقية، وهو ما يجعلُ المشاريع المتعلقة بالاستكشاف الزلزالي وأعمال الحفر المرتقبة من قبل TPAO في المياه الليبية، يمثل قلقًا كبيرًا لكل من اليونان ومصر.
ولا يمكن النظر إلى انخراط تركيا في قطاع الطاقة الليبي بمعزلٍ عن تدخلها العسكري والدبلوماسي والاقتصادي السابق، ما يدلُ على وجودِ استراتيجيةٍ متكاملةٍ ومدروسةٍ تهدفُ إلى بسْطِ النفوذ التركي في المتوسط وإفريقيا. فالصفقة الطاقوية مع ليبيا لا تُعد تحركًا منعزلًا، بل هي جزءٌ من عقيدةٍ خارجيةٍ أشمل تتسم بالترابط بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية. والربط التركي بين هذه الاتفاقية ومجمل تدخلاتها السابقة في ليبيا يؤكد وجود استمرارية في نهجها الاستراتيجي[5].
الفوائد المتوقعة والتحديات الأولية
رغم أن الاتفاقيةَ يُتوقع أن تُساهمَ بصورةٍ ملموسةٍ في رفع الكفاءة الفنية لليبيا وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية، إلا أنه ينبغي التأكيد على أنها ما تزالُ في طور البحث والاستكشاف. وبناءً عليه، فهي لن تُسهمَ بشكلٍ مباشرٍ في تحقيق هدف ليبيا المعلن بإنتاج 2 مليون برميل يوميًا في المستقبل القريب.
إلى جانب ذلك، فإن استمرارية هذا التعاون ونجاحه على المدى البعيد يعتمدان إلى حدٍ كبيرٍ على معالجة المشكلات البنيوية العميقة التي يعاني منها قطاع الطاقة الليبي، ويُعد الانقسام السياسي من أبرز العوائق التي تمثّل تحديًا رئيسيًا أمام تحقيق التقدم المطلوب.
الجدول 1: الأهداف الرئيسية والفوائد المعلنة لصفقة TPAO-NOC
التحديات المستمرة أمام استقرار قطاع الطاقة في ليبيا
رغم تسجيل ليبيا أعلى معدل إنتاجٍ نفطيٍ منذ 12 عامًا (1.23 مليون برميل يوميًا في مايو 2025)، لا يزال القطاع هشًا للغاية نتيجة التوترات السياسية والانقسام الداخلي. النزاع المستمر بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس ومجلس النواب في الشرق، إلى جانب تدخلات الميليشيات، أدى في السابق إلى تعطيلات كبيرة في الإنتاج (2014–2020)، ولا تزال الخلافاتُ حول تقاسم الإيرادات والسيطرة على الحقول تُهدد استمرارية العمليات.
تعاني البنيةُ التحتيةُ النفطية من تدهور شديد، حيث تحتاج الموانئ وخطوط الأنابيب إلى تحديثات تُقدَّر بـ30 مليار دولار، في حين تعمل المصافي بأقل من طاقتها (90 ألف برميل يوميًا). ويُضاف إلى ذلك تعثر هيئةِ الاستثمار الليبية، التي تُحتجز نصف أصولها البالغة 70 مليار دولار تحت عقوباتٍ أمميةٍ، رغم السماح الجزئي بإعادة استثمارها منذ يناير 2025، إلا أن العائدات لا تزالُ غيرَ متاحةٍ فعليًا. كما أن دعم الطاقة المفرط يُثقل الموازنة العامة ويغذي الفساد والتهريب.[6]
ورغم الخطط لرفْع الإنتاج إلى 1.6 مليون برميل يوميًا بنهاية 2025 ثم إلى 2 مليون في [7]2028، فإن الإنتاج يظل متقلبًا بشدةٍ بسبب الصراعات والقيود المالية والتقنية، حيث تراجع لأقل من 700 ألف برميل في 2022، و600 ألف في منتصف [8]2024. كما أن اتفاقية TPAO-NOC، ما تزال في مرحلة الاستكشاف، ولن تُسهم مباشرة في تحقيق هذه الأهداف القريبة.
ليبيا، رغم امتلاكِها أكبر احتياطيٍ نفطيٍ مؤكدٍ في إفريقيا وإعفائها من قيود أوبك+، تعاني من فجوةٍ كبيرةٍ بين إمكاناتها وواقعها التشغيلي نتيجة الانقسام السياسي، وضعف البنية التحتية، وصعوبة جذب الاستثمار. ويُشكل هذا تناقضًا بين وفرة الموارد وضعف الاستفادة منها.
ويُفاقم الأمر الاعتماد شبه الكلي على النفط، الذي يُشكل أكثر من 95% من النشاط الاقتصادي، ما يجعلُ أي اضطرابٍ في الإنتاج مؤثرًا بشدة على الاقتصاد الوطني. وبينما تهدف اتفاقية TPAO-NOC إلى تعزيز الخبرة الفنية والاستكشاف، إلا أنها لا تقدمُ حلًا لتقليل هذا الاعتماد المفرط، بل تعزز استمراره.
نظرة مستقبلية لمستقبل الطاقة في ليبيا والدور الاستراتيجي لتركيا
تمثّلُ اتفاقيةُ التعاون بين المؤسسة الوطنية للنفط الليبية (NOC) وشركة البترول التركية (TPAO) خطوةً ثنائيةً بارزةً تحملُ في طياتها إمكانياتٍ كبيرةً لتعزيز القدرات الفنية لليبيا، وجذب الاستثمارات الأجنبية الضرورية، والمساهمة في إعادة رسْمِ خارطة مواردها الهيدروكربونية. ومع ذلك، فإن تحقيقَ هذه الأهداف على المدى البعيد يظل مشروطًا بقدرة ليبيا على تجاوز الانقسامات السياسية العميقة، ومعالجة التدهور الكبير في بنيتها التحتية، والتوصل إلى حلولٍ فعالةٍ لمُعضلةِ تجميد الأصول. وعلى الرغم من الإمكاناتِ الطاقويةِ الهائلة التي تمتلكها البلاد، إلا أن حالةَ عدم الاستقرار المزمنة والتحديات الهيكلية المستمرة تفرضُ قيودًا تتجاوزُ قدرةَ أي اتفاقٍ استكشافيٍ منفردٍ على معالجتها.
أما بالنسبة لتركيا، فلا تُعد اتفاقيةُ TPAO-NOC مشروعًا تجاريًا منفصلًا، بل تأتي كجزءٍ أساسيٍ من عقيدة “الوطن الأزرق”، التي تمثّلُ استراتيجيةً تركيةً أوسع لتوسيع نفوذها الجيوسياسي وتلبية احتياجاتها الطاقوية. وتركز هذه العقيدة متعددة الأبعاد على تأمين مصادر الطاقة والموارد الطبيعية، بالتوازي مع تطوير البنية التحتية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتفعيل أدوات الدبلوماسية القوية، بما يعززُ من قدرة أنقرة على توسيع نفوذها السياسي والعسكري وضمان وصولها إلى الموارد الحيوية.
وتُعد هذه الصفقة أيضًا نقطةَ توترٍ إضافيةً في شرق البحر الأبيض المتوسط، المنطقة التي تشهدُ نزاعاتٍ متجذرةً ترتبط بمعاهدة لوزان القديمة وتفسيراتٍ متضاربةٍ للقانون الدولي بخصوص ترسيم الحدود البحرية وحقوق استغلال الطاقة. وتُفاقم هذه الديناميكيات المعقدة تدخلات القوى الخارجية التي تستثمر في الانقسامات الليبية الداخلية، مما يُنتج مشهدًا إقليميًا محفوفًا بالتحديات يصعبُ التوصل فيه إلى تسويةٍ شاملةٍ في المستقبل القريب.
وتشيرُ التقديراتُ المستقبليةُ إلى استمرار بيئةٍ محفوفةٍ بالمخاطر المحسوبة أمام المستثمرين الأجانب في قطاع الطاقة الليبي، في ظل غياب حلول دائمة للنزاعات الأساسية. وبالتالي، تبرزُ الحاجة إلى استمرارِ نهْجٍ دبلوماسيٍ متأنٍ من جانب الأطراف الإقليمية والدولية، يهدف إلى إدارة التوترات ومنع تصاعدها، بدلًا من توقّع نتائج حاسمةٍ أو حلول نهائيةٍ في المدى المنظور.
