نجح السياسي التقدمي زهران ممداني -في ٢٤ يونيو ٢٠٢٥- في الفوز بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في مدينة نيويورك، متقدمًا على مرشحين تقليديين ومدعومًا بقاعدة شبابية نشطة وشبكات دعم مجتمعي واسعة. ومن خلال هذا الفوز، أصبح رسميًا مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك في الانتخابات المقرر إجراؤها في نوفمبر المقبل، في واحدة من أكثر السباقات المحلية إثارة هذا العام.
علاوة على ذلك، فرغم نجاحه في امتلاك قاعدة شعبية داعمة في نيويورك، إلا أن هذا الفوز أثار موجة من ردود الفعل المتباينة، جاء أبرزها من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصف فوز ممداني بأنه “إشارة خطيرة على اختطاف الحزب الديمقراطي من قبل اليسار الراديكالي” في تصريح يعكس حجم التوتر الأيديولوجي الذي يسيطر على المشهد السياسي الأمريكي، بالإضافة إلى انتقادات حادة من قبل نواب جمهوريين حيث وصل الأمر بمطالبة البعض إلى التحقق من جنسيته. علاوة على ذلك، فإن لدى البعض ممن ينتمون للحزب الديمقراطي -الذي ينتمي إليه ممداني- عدد من التحفظات عليه بعضها بتعلق بمواقفه الاقتصادية الحادة والبعض الآخر يتعلق بموقفه من إسرائيل.
في هذا السياق، يفتح فوز ممداني الباب أمام تحولات أعمق، حيث أن صعود سياسي من أصول مهاجرة ويحمل خطابًا تقدميًا واضحًا، يمثل تحديًا للأنماط التقليدية للسلطة في واحدة من أكبر مدن الولايات المتحدة، كما يسلط الضوء على التغيرات الجيلية والعرقية والثقافية التي تعيد تشكيل التحالفات الانتخابية في البلاد.
دلالات الفوز
يعكس فوز زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية تحولًا لافتًا في المزاج السياسي داخل المدن الأمريكية الكبرى، خاصة تلك التي تضم مزيجًا متنوعًا من الأقليات والمهاجرين. حيث أن هذا الانتصار لا يمكن قرائته فقط باعتباره نجاحًا لمرشح غير تقليدي، بل كعلامة فارقة على تصدع الأنماط التقليدية للتمثيل السياسي، وتراجع نفوذ التيار الوسطي داخل الحزب الديمقراطي لصالح تيارات أكثر راديكالية وجذرية.
حيث يمثل ممداني نموذجًا جديدًا لسياسي يجمع بين الجذور الثقافية المتعددة من ناحية، والارتباط المباشر بقضايا الشارع والقدرة على مخاطبة الفئات المهمشة بلغة صادقة بعيدة عن الشعارات المكررة من ناحية أخرى.
كما يُعد فوزه مؤشرًا على صعود ما يمكن تسميته ب“الديمقراطية القاعدية”[1]، حيث تلعب شبكات المجتمع المحلي ومواقع التواصل دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، بعيدًا عن دعم المؤسسات الكبرى أو رجال الأعمال.
ومن جهة أخرى، فإن فوز مرشح يعبر صراحة عن مواقف مناوئة لإسرائيل، ورافضة لسياسات الهجرة الرسمية، وناقدة للمنظومة الاقتصادية الأمريكية، كل هذا يعكس تغيرًا واضحًا في سقف ما يمكن طرحه سياسيًا داخل الساحة الليبرالية الأمريكية، بعد أن كانت هذه المواقف مستعبدة لدى النخب السياسية هناك.
وعليه، فإن دلالات فوز ممداني تتجاوز لحظة انتخابية، لتفتح الباب أمام موجة سياسية جديدة تفرض تحديات على الحزبين التقليدين، وتعيد رسم ملامح الصراع داخل المجتمع الأمريكي نفسه.
عوامل الفوز
لا يمكن فهم فوز زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية بمعزل عن التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأقليات والهجرة والسياسات الاقتصادية والموقف من إسرائيل. حيث جاء هذا الفوز تتويجًا لمزيج من المواقف الجريئة والخطاب غير التقليدي والتواصل الفعال مع الشارع، في ظل سياق سياسي مشحون داخليًا وخارجيًا، وهو ما يمكن الإشارة إليه في السياق التالي:-
1- تبني قضايا الأقليات
أظهر ممداني اهتمامًا ملحوظًا بقضايا الأقليات العرقية والدينية في وقت تتعرض فيه هذه الفئات لهجمات متكررة، خصوصًا في ظل خطاب الكراهية الذي تصاعد في عهد ترامب. وهذا التوجه جذب له دعمًا واسعًا من مجتمعات مهاجرة ومسلمة وأفريقية خصوصا وأنه ينتمي لهذه المجتمعات في المقام الأول.
2- موقفه صدامي من سياسات الهجرة
عارض ممداني بشدة سياسات الهجرة القمعية التي تتبعها الإدارة الجمهورية، وصرح علنًا بأنه لن يتعاون مع إدارة الهجرة الأمريكية في حال فوزه، وهو ما دفع ترامب إلى التهديد العلني باعتقاله[2]، وهو الأمر الذي عزز صورته كمدافع عن حقوق المهاجرين في نظر كثير من الناخبين.
3- رؤية اقتصادية مناهضة للرأسمالية
يطرح ممداني سياسة اقتصادية تركز على العدالة الاجتماعية، عبر دعم الفقراء وفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، وهذه الرؤية شكلت عامل دعم رئيسي له من قبل الشرائح الانتخابية الداعمة له،في المقابل وصفه ترامب ب“الشيوعي”[3]، وهي تهمة تحولت – بشكل عكسي – إلى وسام شرف في أعين التيارات التقدمية.
4- موقف معادي لإسرائيل
اتخذ ممداني موقفًا واضحًا ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، وذهب إلى أبعد مدى حين أعلن أنه – لو امتلك السلطة – سيأمر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك[4]، وهو وجد صدى واسعًا في أوساط الجاليات العربية والإسلامية والتيارات اليسارية.
5- اختلاف جذري عن الخط الديمقراطي التقليدي
تميز ممداني بخطاب وأسلوب مغاير لما تمثله المؤسسة الديمقراطية التقليدية، فعلى عكس خصمه أندرو كومو الحاكم السابق لنيويورك، والذي بدا كمرشح نمطي ومنفصل عن الواقع حيث لم يركز على القضايا الشعبية، استطاع ممداني أن يقدم نفسه كصوت بديل يعبر عن الغضب الشعبي والرغبة في التغيير الحقيقي.
6- استخدام ذكي لمنصات التواصل الاجتماعي
أدار ممداني حملته بفاعلية عالية على مواقع التواصل الاجتماعي مستفيدًا من قدرته على التواصل المباشر، وتقديم محتوى بصري وشعارات مؤثرة، مما ساعده في الوصول إلى فئات عمرية متنوعة، وخصوصًا الشباب[5].
7- خطاب صدامي وشعبوي
تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي يتسم فيه كثير من السياسيين بالتوازن والمواربة، يمكن ملاحظة تميز خطاب ممداني بوضوح شديد وصدام مباشر مع خصومه، وهو ما جعله يبدو أكثر صدقًا وأصالة أمام جمهور فقد ثقته في الخطاب السياسي التقليدي.
من هذا المنطق فإن فوز زهران ممداني لم يكن مجرد انتصار انتخابي عابر، بل تجلي واضح على تحول المزاج السياسي داخل قطاعات من المجتمع الأمريكي، التي أصبحت أكثر ميلًا للمواقف الصريحة، والرؤية التقدمية التي تتحدى فكرة “المؤسسة”.
التحول العام داخل الحزب الديمقراطي
شهد الحزب الديمقراطي خلال العقد الأخير تحولات جوهرية في بنيته الفكرية وقاعدته الشعبية، أدت إلى صعود تيار تقدمي جديد أكثر جرأة واشتباكا مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية. وهذا التحول بدوره مثل بيئة سياسية خصبة لصعود مرشحين من طراز زهران ممداني، الذين يمثلون الوجه الجديد للحزب في كثير من الدوائر. في ضوء ما سبق، فإن هذا يلفت النظر إلى عدد من التحولات داخل بنية الحزب يمكن الإشارة إليها في السياق التالي:-
1- تراجع هيمنة التيار الوسطي التقليدي
سيطر على الحزب الديمقراطي لسنوات طويلة تيار وسطي يتبنى خطابًا معتدلًا، ويراعي حسابات السوق والطبقة الوسطى البيضاء. لكن هذا التوجه بدأ يفقد بريقه بعد أزمات اقتصادية وتفاقم التفاوت الاجتماعي وعجز المؤسسة الديمقراطية عن تقديم حلول جذرية. في المقابل، فمنذ حملتي بيرني ساندرز في 2016 و2020، ظهر بوضوح تيار تقدمي داخل الحزب يرفع شعارات مثل الرعاية الصحية للجميع وإلغاء ديون الطلاب والعدالة الضريبية والحقوق المدنية. وقد أنتج هذا التيار وجوهًا بارزة مثل إلهان عمر وغبرها، وصولا إلى زهران ممداني.
2- تحولات القاعدة الشعبية للحزب
لم يعدالحزب الديمقراطي معتمدًا فقط على “الناخب الأبيض المعتدل”، بل بات يرتكز بشكل متزايد على دعم الأقليات العرقية والشباب والناخبين الجدد والمهمشين. وكل هؤلاء يميلون بطبيعتهم إلى الأصوات الجريئة غير التقليدية التي تعبر عن كمشاكلهم
3- اتساع هامش التعبير عن القضايا “المحرمة”
بناءً على النقطة السابقة، وبفضل التيار التقدمي، أصبح بالإمكان داخل الحزب مناقشة قضايا كانت تعد حساسة أو محرمة مثل انتقاد إسرائيل، أو المطالبة بإصلاح شامل للشرطة والهجرة، وهو ما مهد الطريق لأمثال ممداني للتعبير عن مواقف غير معتادة دون أن يتم إقصائهم سياسيًا.
4- انقسام داخلي يعيد رسم ملامح الحزب
تقابل سلسلة التحولات السابقة مقاومة من داخل الحزب نفسه، خاصة من القيادات التقليدية واللوبيات الاقتصادية. لكن مع الوقت، أصبح من الواضح أن الحزب يتجه نحو إعادة تعريف ذاته، وأن الأصوات التقدمية لم تعد استثناءً بل باتت قوى صاعدة تؤثر في نتائج الانتخابات.
في هذا السياق من التغيير والتحولات، يبدو صعود زهران ممداني طبيعيًا بل متوقعًا، ويعبر عن مرحلة “ما بعد الخطاب التقليدي”.
مناخ سياسي أمريكي متحول (صعود الخطابات الراديكالية)
لا يمكن فصل صعود زهران ممداني عن المناخ السياسي المتحول في الولايات المتحدة، حيث يتزايد التباعد بين القواعد الشعبية والمؤسسات الحزبية التقليدية، وتتعزز فرص الشخصيات “الخارجة عن السياق” في تحقيق اختراقات انتخابية غير متوقعة.
من هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى هذه المفارقة، وهي أن ممداني رغم جذوره اليسارية وخطابه التقدمي الجريء، فإنه يسلك من الناحية السياسية مسارًا مشابهًا – وإن كان نقيضًا أيديولوجيًا – للمسار الذي سلكه دونالد ترامب، حيث كلاهما يقدم نفسه كصوت المقموعين في مواجهة النخب، ويعتمد على منابر غير تقليدية في الوصول إلى جمهوره ويتبنى خطابًا صداميًا مع المؤسسة السياسية. وعليه، فإن صعود ترامب لم يكن مجرد حادثة استثنائية، بل كان نتيجة لتراكم مشاعر التهميش والاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي، تمامًا كما أن بروز ممداني يأتي في ظل تنامي الإحباط بين قطاعات واسعة من الناخبين التقدميين خاصة من الشباب، إزاء أداء الحزب الديمقراطي وتردده في تبني مواقف حاسمة من القضايا الحقوقية والاجتماعية.
في سياق متصل أيضا، فإنه كلما ازدادت هيمنة التيارات القومية واليمينية على السلطة، كما هو الحال في عهد ترامب الراهن، ارتفعت في المقابل احتمالات بروز مرشحين يساريين جذريين كرد فعل مضاد يحاول إعادة تشكيل الخطاب العام داخل الحزب الديمقراطي نفسه.
من هذا المنطلق، يمثل ممداني تجسيدًا حيًا لديناميكية سياسية أمريكية باتت متكررة، وهي مفادها أنه كلما ضاقت المساحة الوسطية وتزايد الاحتقان لدى الحزبين التقليديين، زادت فرص صعود خطابات راديكالية من داخل الحزبين لكنها مخالفة للخطاب السائد فيهما. لذا فإن ما يجمع بين ظواهر مثل ترامب وممداني هو قدرتها على كسر المألوف وإعادة رسم خطوط الصراع السياسي داخل الساحة الأمريكية.
إمكانية الفوز بمنصب عمدة نيويورك
رغم الزخم الإعلامي والدعم الشعبي الذي حظي به زهران ممداني بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية، فإن طريقه نحو الفوز بمنصب عمدة نيويورك لا يزال محفوفًا بالتحديات. فمن الناحية الحزبية، يعد الفوز في الانتخابات التمهيدية خطوة هامة في مدينة يغلب عليها الطابع الديمقراطي، وهو ما يمنحه أفضلية نسبية أمام منافسيه الجمهوريين، خاصة في ظل غياب مرشح جمهوري قوي حتى الآن.
لكن على الجانب الآخر، يواجه ممداني حملة شرسة من وسائل الإعلام المحافظة التي تصفه ب“المتطرف” و“الشيوعي”، كما أن مواقفه التقدمية من عدة قضايا قد تثير جدلًا واسعًا بين شرائح من الناخبين، حتى داخل الحزب نفسه. إضافة إلى ذلك، فإن نفوذه يتركز حتى الآن بين الشباب والناخبين التقدميين، بينما يُعد من الضروري توسيع قاعدته الشعبية لتشمل فئات أوسع من المجتمع مثل كبار السن والناخبين الوسطيين إذا أراد ضمان الفوز في الانتخابات العامة.
في سياق متصل، تشير العديد من استطلاعات الرأي إلى ترجيح كفة ممداني في الانتخابات المقرر إجراؤها في نوفمبر القادم، وهو ما يعزز فرصه في الفوز حتى هذه اللحظة[6].
إجمالًا:
على الرغم من أن زهران ممداني قد لا يكون محل إجماع داخل الحزب الديمقراطي نفسه، إلا أن ترشحه وفوزه بالانتخابات التمهيدية يسلطان الضوء على نقطة جوهرية يجب أن يتوقف أمامها الحزب -خاصة في أعقاب خسارته للبيت الأبيض– وهي ضرورة الخروج من العباءة التقليدية والانفتاح على مرشحين يعبرون عن تحولات الجيل الجديد، سواء في قضايا الهوية أو العدالة الاجتماعية أو نمط الخطاب نفسه. وعليه، فإنه سواء تكللت تجربة ممداني بالنجاح أم لا فإنها تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الحزب الديمقراطي على قراءة الواقع الأمريكي المتغير والانفتاح على قوى سياسية صاعدة باتت تمثل روح المرحلة الجديدة.
