تتناولُ هذه الورقةُ عرضاً لدراسةِ الأستاذ إرجين أرغول الصادرة عن مركز سيتا (SETA) في فبراير 2025، بعنوان “قانون الذكاء الاصطناعي في تركيا: المعايير الدولية والمنهجيات المقارنة”. وتُعد هذه الدراسة من المساهماتِ المهمةِ في النقاش التركي الدائر حول سبل تنظيم الذكاء الاصطناعي تشريعيًا، في ضوء التجارب الدولية المتقدمة وسياقات التحول الرقمي العالمي[1].
تنطلقُ الدراسةُ من فرضيةٍ أساسية مؤداها أن الذكاء الاصطناعي لم يعدْ مجرد مسألةٍ تكنولوجيةٍ، بل تحول إلى ظاهرةٍ بنيويةٍ تؤثر في كل مناحي الحياة المعاصرة. وفي غيابِ تعريفٍ قانونيٍ موحدٍ لهذه التكنولوجيا، تقترح الدراسة التعامل مع الذكاء الاصطناعي كمصطلحٍ جامعٍ لمجموعةٍ واسعةٍ من التطبيقات، مثل الأنظمة التكيفية، الخوارزميات التنبؤية، والذكاء التوليدي.
تُثمن الدراسة إسهام الذكاء الاصطناعي في تسريع الخدمات وتحسين الكفاءة، لكنها لا تغفل عن الإشارة إلى التحديات التي يفرضُها على المبادئ الدستورية، وخصوصًا في مجال الحقوق الأساسية، وتهديداتهِ المحتملةِ لسيادةِ القانون والضوابط الديمقراطية، وتُعد هذه النقطة من الجوانب القوية في الدراسة، إذ تنبّه إلى ما تسميه بـ”العدالة الخوارزمية” التي قد تؤدي إلى ممارساتٍ استبعاديةٍ وتمييزيةٍ إذا لم تُحكمْ بضوابط قانونية دقيقة.
بناء إطار قانوني شامل لمواجهة تعقيدات الذكاء الاصطناعي
أشارتْ الدراسة إلى أن الانتشارَ المتسارعَ لتقنيات الذكاء الاصطناعي منذ عام 2010 في المجالات الاقتصادية والاجتماعية قد أفرز مجموعةً من التحدياتِ القانونية والأخلاقية غير المسبوقة، مما جعلَ من الضروري تطويرَ أُطرٍ تشريعيةٍ جديدةٍ قادرةٍ على مواكبة هذا التطور. وقد أوضحت الدراسة أن المرحلةَ الأولى من الاستجابة الدولية تميزت بإعداد وثائق قانونية مرنةٍ من قٌبلِ عددٍ من المؤسسات الدولية مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، ومنظمة اليونسكو، والاتحاد الأوروبي، ومجلس أوروبا، وهدفت هذه الوثائق إلى التخفيف من التحيزات المحتملة في أبحاثِ الذكاءِ الاصطناعي، وتشجيعِ بناءِ أنظمةٍ موثوقةٍ وقابلةٍ للمساءلة، دون أن تكونَ ملزمةً من الناحية القانونية.
كما بينت الدراسة أن المجتمعَ المدني والجامعات والشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في إعداد مواثيقَ أخلاقيةٍ طوعيةٍ لتوجيه العمل في هذا المجال، إلا أن هذه المواثيق، رغم أهميتها، لا تحتوي على آلياتٍ عقابيةٍ أو إلزاميةٍ، مما يجعلها غير كافية للتعامل مع الانتهاكات الجسيمة التي قد تترتب على استخدام هذه التقنيات، خصوصًا فيما يتعلق بحقوقِ الإنسان. وقد أبرزت الدراسة أن الطريقَ الأساسيَ لبناء الثقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي ومنْعِ إساءةِ استخدامها يتمثل في وجودِ تشريعاتٍ قانونيةٍ ملزمةٍ، وليس فقط نصوصًا أخلاقية غير ملزمة.
كما تناولت الدراسة دور الذكاء الاصطناعي في دعم النظام القضائي، من خلال ما يُعرف بتقنيات القانون، والتي أصبحت أداةً لا غنى عنها للقضاة والمحامين، حيث تُستخدمُ في تسهيل البحث القانوني وتحليلِ السوابقِ القضائية واتخاذ القرار. ورغم ما توفره هذه التكنولوجيا من كفاءةٍ وسرعةٍ، إلا أن الدراسةَ أشارت إلى استمرار الجدل حول المخاطر الكامنة في الاعتماد المفرط عليها، في ظل غياب تنظيم قانوني شامل.
وقد شددت الدراسة على أن التحدي لا يكمنُ فقط في ضرورة التنظيم، وهو أمرٌ يحظى بإجماعٍ عالميٍ، بل في كيفية القيام بذلك. وأوضحت أن النقاشَ القانونيَ الراهنَ يرتكز على نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن التنظيمَ يجب أن يستهدفَ “أنظمة الذكاء الاصطناعي” وليس التقنيةً ذاتها أو تطبيقاتها، والثانية هي ضرورةُ تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين الفرص التي تتيحها هذه التقنيات والمخاطر المصاحبة لها. فالتنظيم المفرط قد يؤدي إلى إعاقة الابتكار، بينما التنظيمُ الضعيف قد يهدد السلامة والحقوق الأساسية.
وأبرزت الدراسة أن قانونَ الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي، باعتباره أولَ تنظيمٍ قانونيٍ شاملٍ وملزمٍ في هذا المجال، إلى جانب الاتفاقية الإطارية للذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان وسيادة القانون الصادرة عن مجلس أوروبا، يعكسان هذا النهجَ القائمَ على تنظيم الأنظمة وليس الذكاء الاصطناعي ذاته، مع اعتماد منظورٍ محايدٍ تجاه التكنولوجيا، وبيّنت الدراسة أن الاتحاد الأوروبي قد اختار تبنّي نهجٍ تنظيميٍ أفقيٍ يضعُ قواعدَ عامةً تنطبق على جميع الأنظمة بغض النظر عن القطاع، وهو ما يسمح بالتعامل مع التحولات التقنية المتسارعة دون الحاجة إلى تنظيمات قطاعية منفصلة.
أطر الحوكمة الدولية للذكاء الاصطناعي
أبرزت الدراسة أن العديدَ من المنظمات الدولية والدول حول العالم تواصلُ وضْعَ وتطبيقَ أُطرٍ قانونيةٍ وسياساتٍ لإدارة الذكاء الاصطناعي، وذلك استجابةً للتطور السريع والمتسارع في هذه التقنية. فعلى الصعيد الدولي، أشارت الدراسة إلى أن مجلس أوروبا كان من أوائل الجهات التي تحركت في هذا المجال، إذ اعتمد في عام 2018 ميثاقًا خاصًا بالاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في أنظمة القضاء وبيئاتها، فيما أصدرت المفوضية الأوروبية في عام 2019 دليلاً للمبادئِ الأخلاقيةِ من أجل تطوير ذكاءٍ اصطناعيٍ موثوقٍ. وفي السياق ذاته، تبنّتْ منظمةُ التعاون والتنميةُ الاقتصاديةُ في العام ذاته مبادئ توجيهية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، كما أصدرتْ اليونسكو عام 2021 توصيةً شاملةً بشأن أخلاقيات استخدام هذه التقنيات، وأخيرًا اعتمدت مجموعة الدول السبع (G7) في عام 2023 مبادئَ إرشاديةً دوليةً تتعلق بالذكاء الاصطناعي.
ووضحت الدراسة أن النقاشاتِ حول حوكمة الذكاء الاصطناعي باتت تحظى باهتمامٍ متزايدٍ على المستوى العالمي، لا سيَّما بين القوى الكبرى في المجال التكنولوجي كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين، حيث تتبنًى كلُ جهةٍ مقارباتٍ تنظيميةً مختلفةً، سواء فيما يخص حماية الخصوصية أو تشجيع الابتكار أو وضع معايير أخلاقية لاستخدام التقنية. وفي ظل هذا التنوع، تبرزُ صعوبةُ مواكبة القانون لسرعة تطور التكنولوجيا، وهو ما يخلقُ تحدياتٍ جدًيةً تتطلب تعاونًا دوليًا ونهجًا تشريعيًا متماسكًا لتقليل المخاطر وتعظيم المنافع.
وفي هذا الإطار، أشارت الدراسة إلى أن الاتحاد الأوروبي قد اتخذَ خطواتٍ سباقةً من الناحية القانونية، حتى وإن لم يكنْ في طليعة السباق التكنولوجي. فقد دخل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي حيز التنفيذ في 1 أغسطس 2024، بعدما تم نشره رسميًا في الجريدة الرسمية للاتحاد الأوروبي بتاريخ 12 يوليو 2024، وذلك بعد مسارٍ تشريعيٍ طويلٍ شمل المفوضية والبرلمان والمجلس، وقد بدأت هذه العملية من وثائق غير ملزمة تتمحور حول المبادئ الأخلاقية، ثم تطورت إلى تنظيمٍ قانونيٍ صارمٍ وملزمٍ يشملُ جميع الفاعلين في مجال الذكاء الاصطناعي داخل السوق الأوروبية.
وقد بينت الدراسة أن هذا القانون يمثّلُ أولَ بنيةٍ قانونيةٍ متكاملةٍ وملزمةٍ لتنظيم تطوير وتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي، إذ يفرضُ التزاماتٍ قانونيةً مباشرةً على المطورين والمستخدمين، ويهدف في الوقت ذاته إلى تشجيع الابتكار داخل السوق الأوروبية، مع ضمانِ حمايةٍ قويةٍ للصحة العامة، والحقوق الأساسية، والديمقراطية، وسيادة القانون، والبيئة. وقد تبنّى القانون نهجًا أفقيًا في التنظيم، من خلال سنّّ قواعدَ عامةٍ وشاملةٍ تنطبق على جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي، بصرف النظر عن القطاع المستخدم فيه، مما يعزز من مرونة تطبيقه واتساقه مع تطورات التقنية.
وأوضحت الدراسة أن القانونَ يمتدُ بتطبيقه خارج حدود الاتحاد، حيث يشملُ أيضًا الأطراف التي تتعاملُ مع السوق الأوروبية، سواء كانوا أشخاصًا طبيعيين أو اعتباريين، ما يزيدُ من تأثيره العالمي. كما رُصد في القانون اهتمام خاص بقضايا مثل حماية الخصوصية، والملكية الفكرية، ومكافحةِ التمييز، وهي قضايا حديثةٌ نسبيًا في إطار الذكاء الاصطناعي، لكنها تُعد أساسية في البناء القانوني المتكامل.
أما على مستوى مجلس أوروبا، فقد لفتت الدراسة النظر إلى تطورٍ نوعيٍ تمثّل في اعتماد اتفاقية الإطار الخاصة بالذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون بتاريخ 17 مايو 2024، والتي فُتحت للتوقيع في 5 سبتمبر من العام ذاته. وتمَّ إعداد هذه الاتفاقية بمشاركةٍ شاملةٍ من الدول الأعضاء الـ 46، إلى جانب الدول المراقبة مثل الولايات المتحدة، وكندا، واليابان، والمكسيك، والفاتيكان، بالإضافة إلى دولٍ من خارج القارة مثل أستراليا وإسرائيل والأرجنتين وغيرها، ما يعكسُ الطموح في بلورةِ اتفاقٍ عالميٍ لاحقٍ قد يتم تحت مظلة الأمم المتحدة.
وقد بينت الدراسة أن هذه الاتفاقيةَ الإطاريةَ تهدف إلى ضمان حماية حقوق الإنسان في جميع مراحل دورة حياة أنظمة الذكاء الاصطناعي، بدءًا من التصميمِ إلى جمْعِ البيانات والتشغيل، عبر إدخالِ أنظمةٍ تنظيميةٍ وطنيةٍ ودوليةٍ متوافقة. وهي، مثل قانون الاتحاد الأوروبي، تعتمد على نهْجٍ قائمٍ على تقييم المخاطر، حيث يُطلب من الأطراف اتخاذُ تدابيرَ قانونيةٍ متدرجةٍ تتناسب مع احتمالية وقوع الضرر وخطورته. وتشملُ المبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقية احترامَ الكرامةِ الإنسانية، وضمانَ الشفافية، والمساءلة، والمساواة، وعدمَ التمييز، وحقَّ الخصوصيةِ، وحماية البيانات الشخصية.
اتجاهات الدول في وضع قوانين للذكاء الاصطناعي
أشارتْ الدراسة إلى أن التطوراتِ في القانون المقارن تكشفُ عن جهودٍ متناميةٍ لدى العديد من الدول والمؤسسات في التعامل مع التحديات التي تفرضها التقنياتُ المعتمدةُ على الذكاء الاصطناعي، وهو ما انعكسَ في توجّهاتٍ تشريعيةٍ متباينةٍ تهدف إلى خلْقِ أطرٍ قانونيةٍ وأخلاقيةٍ تواكبُ طبيعة هذا العصر الرقمي المتسارع. لوحظ أن عددَ الدول التي بدأت في سنِّ تشريعاتٍ أو تبنّي أُطرٍ قانونيةٍ تتصلُ بشكلٍ مباشرٍ بمفهوم الذكاء الاصطناعي قد ازداد بشكل كبير، حيث ارتفع من 25 دولة فقط عام 2022 إلى 127 دولة خلال عام 2023، ما يعكس إدراكًا عالميًا متزايدًا بالحاجة إلى تنظيم هذا المجال.
أوضحت الدراسة أن هناك تباينًا في المقاربات القانونية بين الدول، خاصة تلك التي لا تنتمي للاتحاد الأوروبي. ففي حين يفضّل البعضُ التوجّهَ إلى تنظيماتٍ قطاعيةٍ محددة، تسعى دولٌ أخرى إلى وضْعِ أطرٍ عامةٍ أو قوانين شاملةٍ تتعلق بالذكاء الاصطناعي. كما أن بعض الدول ما زالت تكتفي بإعداد وثائقَ غير ملزمةٍ، كالأُطرِ الأخلاقية أو الاستراتيجيات الوطنية، في حين تتجهُ دولٌ أخرى إلى سنِّ قوانين ملزمةٍ تُعرف باسم “القوانين الصارمة”، بهدف تجنّبِ إشكالياتِ التناقض التنظيمي الناتج عن الطابع العابر للحدود لتقنيات الذكاء الاصطناعي. وقد نبهت الدراسة إلى أن غيابَ التوافقِ الدولي في التشريعات قد يُفضي إلى مشكلاتٍ في الأمن، وتحدياتٍ في الابتكار، وتفاوتٍ في الالتزام بالمعايير الأخلاقية والقانونية.
كما بيّنت الدراسة أن الولايات المتحدة، رغم ريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، لا تزال تفتقر إلى إطارٍ قانونيٍ شاملٍ على المستوى الفيدرالي، إلا أنها بدأت منذ عام 2021 باتخاذ خطواتٍ تنظيميةٍ، مثل “قانون المبادرة الوطنية للذكاء الاصطناعي” الذي يسعى إلى توحيد جهود البحث والتطوير على المستوى الوطني، وكذلك الإعلان عن “وثيقة حقوق الذكاء الاصطناعي” ومسوّدة المرسومِ الرئاسيِ الموقّع في 2023، واللذين يضعان مبادئ توجيهيةً لحماية الحقوق الأساسية في سياق التحول الرقمي.
في المقابل، تبنت الصين قوانينَ أكثر تحديدًا، كان أبرزها تشريعاً صدر في مارس 2022 ينظم استخدام خوارزميات التوصية على الإنترنت، ويُلزم المنصاتِ باحترامِ المبادئ الأخلاقية والشفافية والمسؤولية الاجتماعية. ومع أن الأُطرَ الصينية لا تزالُ تتوزع بين قوانين فردية، فإن كل تطورٍ تقَنيٍ جديدٍ يواجَهُ بتشريعٍ نوعيٍ خاصٍ به، مثل التشريعات المتعلقة بالخوارزميات أو المحتوى الاصطناعي العميق أو الذكاء الاصطناعي الإنتاجي.
كذلك رصدت الدراسة جهودًا بارزةً في كوريا الجنوبية، حيث تمَّ تقديمُ مشروعِ قانونٍ في أوائل 2023 يستهدف تحفيزَ الابتكار في الذكاء الاصطناعي مع فرض التزاماتٍ صارمةٍ على الأنظمة المصنفة باعتبارها عالية الخطورة، وذلك من خلال آليات إشراف وشهادات موثوقية، بما يعزز سلامة الاستخدام ويحد من المخاطر.
أما كندا، فبرزت كإحدى الدول الرائدة التي بادرت بطرحِ مشروعِ قانونٍ أمام البرلمان لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع الخاص، خصوصًا فيما يتعلق بالتجارة الدولية والتقليل من الأضرار أو التحيز المرتبط بالتقنياتِ ذاتِ المخاطرِ العالية. ويقوم هذا المشروع على تحقيق توازنٍ بين الابتكار والمسؤولية، ويدمج بين متطلبات واضحة للمطورين وآليات مساءلة قانونية من خلال فرض عقوبات على المخالفات.
كما تناولتْ الدراسة المثال الإيطالي، الذي يعكسُ توجهًا داخل بعض دول الاتحاد الأوروبي نحو إدراجِ اعتباراتٍ وطنيةٍ إضافيةٍ إلى جانب التشريعات الأوروبية الموحدة. ففي مايو 2024، تمَّ تقديمُ مشروعِ قانونٍ في البرلمان الإيطالي يُلزم مزودي الذكاء الاصطناعي الإنتاجي الذين يستخدمون مراكز بيانات محلية بمنحهم أولويةً في المناقصات الحكومية، وذلك لضمان حمايةِ ما يُعدُ بياناتٍ حساسةً ذاتَ صلة بالأمن القومي والاستقرار الاقتصادي، رغم أن تعريف هذه البيانات لا يزال قيد التحديد.
وقد خلصت الدراسة إلى أن هذه الأمثلة تعكسُ التوجّه العالمي نحو بناء أُطرٍ قانونيةٍ مخصصةٍ للذكاء الاصطناعي، لكن في سياقاتٍ قانونيةٍ ومؤسسيةٍ تختلف وفقًا لخصوصيات كل دولة، وهو ما يستدعي تعزيز التعاون الدولي من أجل الحدّ من التباينات التنظيمية وتفادي بناء بيئة رقمية غير متسقة.
الإرادة التركية نحو تنظيم الذكاء الاصطناعي
أشارت الدراسة إلى أن تركيا بدأت بالفعل خطواتٍ جادةً نحو بلورة سياسةٍ وطنيةٍ متكاملةٍ في مجال الذكاء الاصطناعي، انطلقت بإعداد “الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي”، وقد حددت الاستراتيجية رؤيتها في إنتاج قيمةٍ مضافةٍ عالميةٍ من خلال بناء نظامٍ بيئيٍ مَرنٍ ومستدامٍ يخدم نهضة تركيا. تضمنت هذه الاستراتيجية، الممتدة للفترة ما بين 2021 و2025، عددًا من الأهداف بلغ 24 هدفًا و119 تدبيرًا تنفيذيًا، وارتكزت على مبادئ أساسية مثل احترامِ حقوق الإنسان، وسيادةِ القانون، إلى جانبِ مبادئ أخلاقية تتعلق بالحيادية، والخصوصية، والشفافية، والمساءلة. وقد تمَّ لاحقًا تحديثُ خطةِ العمل لتتوافقَ مع خطة التنمية الثانية عشرة، لتصبح خطة 2024–2025 أكثر اتساقًا مع التحولات السياسية والاقتصادية المستجدة.
ولفتت الدراسة إلى أن هذه الاستراتيجية، التي تُعد الأولى من نوعها في تركيا، أسهمت في إدراجِ البلاد ضمن قائمةِ الدول التي تبنّت أطرًا استراتيجيةً وطنيةً خاصةً بالذكاء الاصطناعي. كما أبرزت الوثيقةُ أهميةَ متابعة الجوانب القانونية والأخلاقية المرتبطة بالتقنيات الناشئة، مع التأكيد على ضرورة تكييف اللوائح المحلية مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، ومتابعة الاتجاهات الدولية ذات الصلة.
وأوضحت الدراسة أن هذه النقلةَ الاستراتيجيةَ قد وجدت صدىً داخل البرلمان التركي، حيث تمَّ تشكيلُ لجنةٍ بحثيةٍ مختصةٍ بدراسة الأبعاد القانونية للذكاء الاصطناعي، وتحديدِ الخطواتِ التشريعية المطلوبة لصياغةِ إطارٍ قانونيٍ فعّالٍ يراعي خصوصيةَ السياق التركي دون أن يغفلَ الالتزاماتِ والمعاييرَ الدوليةَ. وقد اعتُبر هذا التوجّهُ تعبيرًا عن إرادةٍ سياسيةٍ واضحةٍ نحو بناء منظومةٍ تشريعيةٍ متكاملةٍ في هذا المجال.
كما تناولت الدراسة مبادرة وزارة العدل التركية، التي أعلنت في يناير 2025 عن تشكيلِ لجنةٍ علميةٍ متعددة التخصصات تُعنى بملف الذكاء الاصطناعي، بهدف تقديم الدعم المعرفي والخبراتي للبرلمان في هذا المجال. وقد أشارت الدراسة إلى أن هذه اللجنة استلهمت نموذجًا مماثلًا من فرنسا، التي شكّلت لجنةً علميةً عام 2023 قدمت لرئيس الجمهورية تقريرًا تضمن 25 توصيةً استراتيجيةً، كان من أبرزها: إطلاقُ خطةٍ وطنيةٍ للتوعية المجتمعية، ودعم التحول الرقمي للشركات، والاستثمار في بنية الحوسبة الفائقة، وتطوير إدارة البيانات الشخصية بطريقةٍ توازنُ بين الابتكار والحماية، إضافةً إلى تعزيز الدور الثقافي الفرنسي عالميًا، وتبنّي البحث التجريبي، وصياغةِ سياسةٍ دبلوماسيةٍ دولية لتنظيم الذكاء الاصطناعي.
وركزت الدراسة على أن التوجّهَ التركيَ نحو رقمنةِ النظام القضائي ودمْجِ تقنياتِ الذكاء الاصطناعي لا يُختزلُ في كونه مشروعًا تقنيًا أو وظيفيًا فقط، بل يُعدُّ جزءًا من مشروعٍ إصلاحيٍ أوسع يسعى إلى إعادة هيكلة منظومة العدالة بما يتلاءم مع تحولات العصر الرقمي. وقد استعرضت الدراسة التجارب الدولية، خاصةً في أوروبا والولايات المتحدة والصين، لتؤكد على أهمية وجودِ أطرٍ قانونيةٍ وأخلاقيةٍ منظمة تضمنُ حمايةَ الحقوق الأساسية، وتَحدُّ من مخاطر التحيزات أو سوء استخدام الخوارزميات.
وفي هذا السياق، أوضحت الدراسة أن إدماجَ أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي يتطلبُ بالضرورة بنيةً تحتيةً قانونيةً ومؤسسيةً قادرةً على تأمين الرقابة البشرية، وضمان الشفافية، وتوفير آليات فعالة للمساءلة. وقد اعتبرت الدراسة أن تشكيلَ لجنةِ علوم الذكاء الاصطناعي داخل وزارة العدل يمثّلُ خطوةً نوعيةّ على طريق بناء منظومةِ حوكمة تقنية تعنى بتوجيه وتقييم السياسات الرقمية في المجال القضائي، لا سيَّما في ظل غياب تشريع وطني محدد ينظم هذه التكنولوجيا.
كما أكدت الدراسة أن نجاحَ تركيا في بناء “عدالةٍ رقمية” حقيقية مرهونٍ بقدرتها على تحقيقِ توازنٍ دقيق بين الاستخدامات التقنية ومبادئ سيادة القانون، وعدم التمييز، وضمان الحق في محاكمة عادلة. واعتبرت أن هذه المبادئ، التي تشكل جوهر التشريعات الأوروبية، ينبغي أن تكونَ بمثابة معايير مرجعيةٍ في بناء أي إطارٍ قانونيٍ وطنيٍ في هذا السياق.
وتطرقت الدراسة إلى أهمية ترسيخ الثقة المجتمعية في عملية التحول الرقمي، من خلال إشراك الفاعلين من المجتمع المدني، وتنظيم حوارٍ مجتمعيٍ موسّعٍ حول استخدامات الذكاء الاصطناعي، والعمل على تطوير الوعي العام بمخاطره ومنافعه. كما أوصت بأن ترتكز أي تشريعاتٍ أو لوائح مستقبلية على عملية تشاركية تضم خبراء القانون والتقنية وحقوق الإنسان، من أجل ضمان عدالةٍ تكنولوجيةٍ قائمةٍ على الشفافية والإنصاف.
وعليه، بينت الدراسة أن غايتَها لا تقتصرُ على رصد ما التجربة التركية أو مقارنتها بنماذجَ دوليةٍ أخرى، بل تهدف في الأساس إلى التأكيد على أن التحول الرقمي في قطاع العدالة لا يمكن أن ينجحَ دون تصورٍ قانونيٍ واستراتيجيٍ شاملٍ، يراعي خصوصياتِ السياق المحلي من جهة، ويستفيد من الخبرات والمعايير الدولية من جهةٍ أخرى، ويُعيد رسْمَ العلاقة بين التكنولوجيا والعدالة على أسس ديمقراطية وإنسانية.
التوصيات
تشيرُ الدراسة إلى أن التطوراتِ المتسارعةَ في كل من القانون الدولي والقانون المقارن بشأن الذكاء الاصطناعي تفرضُ على تركيا ضرورةَ متابعة هذه الاتجاهات عن كثب، والعمل على تطوير بنيتها القانونية بالتوازي مع التقدم التكنولوجي والعلمي. وتؤكد أن تحقيقَ توازنٍ دقيقٍ بين الابتكار من جهةٍ، ووضْعَ أطرٍ تنظيميةٍ شاملةٍ من جهةٍ أخرى، يعد أمرًا أساسيًا لوضع تشريعات وطنية فعالة تحمي المصالح الوطنية. وفي هذا الإطار، توضح الدراسة أن التكيف مع المعايير الدولية لا يقل أهميةً عن مراعاة الخصوصيات الوطنية والديناميكيات المحلية.
ومن منظور “تقنيات القانون”، تؤكد الدراسة أن إدماج الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل تحليل العرائض القانونية، وإجراء الأبحاث، وتحليل الاجتهادات القضائية، يمكن أن يُحسّنَ من كفاءة النظام القضائي في تركيا. كما تنبه إلى أن لهذه التقنيات القدرة على توقّعِ نتائج القضايا بناءً على أنماط الأحكام السابقة والإحصائيات، وهو ما من شأنهِ أن يخففَ من العبء الواقعِ على القضاة وأعضاء النيابة ويدعم اتخاذ القرار القضائي. ومع ذلك، تُشير الدراسة إلى أن الاستخدامَ المتزايدَ للذكاء الاصطناعي في القضاء وفي مختلف نواحي الحياة المجتمعية قد يؤدي إلى مشكلاتٍ حقيقيةٍ تتعلقُ بالسلامة والأخلاقيات وحقوق الإنسان، وهو ما يفرضُ ضرورةَ تبنّي تنظيمٍ قانونيٍ دقيق ومحسوب.
وتسجل الدراسة ثلاثَ خطواتٍ إيجابية اتخذتها تركيا عام 2025 تُعد مشجّعةً في هذا السياق؛ أولها بدءُ أعمال لجنة البحث في الذكاء الاصطناعي داخل البرلمان التركي، وثانيها إعلانُ استراتيجيةِ إصلاحِ القضاء التي تضمنت أهدافًا واضحةً لاستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في منظومة العدالة، وثالثها إطلاقُ مبادرة تشكيل لجنةٍ علميةٍ للذكاء الاصطناعي داخل وزارة العدل.
وتؤكد الدراسة أهميةَ مواكبةِ تركيا للوثائق والتعديلات القانونية التي تضعها الدول الأوروبية الأعضاء بهدف الامتثال لقانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، مع ضرورةِ مراعاة الظروف الوطنية والمصالح التركية الخاصة عند مواءمة هذا القانون. كما تُشدد على أن نجاحَ هذه العملية التشريعية لا يمكن تحقيقهُ من خلال جهود الدولة وحدها، بل يعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ على الشراكة النشطة بين القطاع العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني.
وفي هذا الإطار، ترى الدراسةُ أن البيانات قد أصبحت الموردَ الاستراتيجيَ الأهمَّ في عصر الذكاء الاصطناعي، بما يماثلُ أهميةَ الطاقة في القرون الماضية. ومن ثمَّ، فإن قدرةَ تركيا على إدارة بياناتها الوطنية واستثمارها بطريقةٍ آمنةٍ وفعالةٍ، إلى جانب تعزيز قدرتها على الوصول إلى البيانات العالمية، يمثّلُ أحدَ الشروط الأساسية للنجاح في هذا المجال. وترى الدراسة أن تبنّي نهج شامل ومتكامل، يركز على الإنسان ويتضمن أبعادًا مثل التحول الرقمي والملكية الرقمية، أمر بالغ الأهمية.
وتخلص الدراسة إلى أن مستقبلَ الدول مرهونٌ بقدرتها على نقل هويتها الحضارية إلى الفضاء الرقمي، وهو ما يفرضُ على تركيا أن تنظرَ إلى التشريعات الوطنية الخاصة بالذكاء الاصطناعي بوصفها جزءًا من استراتيجيةِ التحول الرقمي الحضاري الأشمل. ومن خلال بنيةٍ قانونيةٍ قويةٍ وفعالةٍ، ستتمكن تركيا من ضمان تطوير واستخدام منصفٍ وآمنٍ وشفافٍ لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بما يعززُ مكانتها الدولية كمصدرٍ موثوقٍ لهذه التكنولوجيا، ويُمكّنها من تصدير حلول تقنية تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي إلى الأسواق العالمية.
المصدر:
[1] Ergin Ergül, Türkiye’nin Yapay Zeka Hukuku: Uluslararası Standartlar ve Mukayeseli Yaklaşımlar (Ankara: SETA, Şubat 2025), Analiz No. 402.
