تمتلكُ أفريقيا ثرواتٍ معدنيةً هائلةً؛ إذ تضُمُّ حوالي 30% من احتياطات العالم من المعادن، مثل “الكوبالت والليثيوم والنحاس وخام الحديد والبوكسيت” وغيرها من المعادن الاستراتيجية؛ مما يجعلها محورًا حيويًّا في سلاسل التوريد العالمية، وفي خِضَمِّ التحوُّلات العالمية نحو الطاقة النظيفة، دخلت أفريقيا مرحلةً جديدةً من التنافُس الجيوسياسي؛ حيث تحوَّلَتْ معادنها النادرة من موارد طبيعية إلى أدوات استراتيجية ترسم ملامح النفوذ الدولي، لم تعُدْ القارة تُستحضر فقط في سياقات الفقر أو الأزمات، بل باتت في صلْب المعركة العالمية حول مستقبل الطاقة وسلاسل الإمداد، إلى جانب التكنولوجيا الخضراء، هذا التحوُّل فَتَحَ الباب أمام تصاعُد التنافُس الجيوسياسي بين القوى الدولية الكُبْرَى في محاولة لتأمين النفوذ، وسط محاولات أفريقية متزايدة لإعادة تعريف السيادة الوطنية والاقتصادية، والتحكُّم بشروط استغلال الموارد.
تحوُّل الطاقة في أفريقيا
تزْخَرُ القارةُ الأفريقيةُ بوفْرةٍ استراتيجيةٍ من موارد الطاقة المتجددة؛ مما يمنحها موقعًا محوريًّا في معادلات التحوُّل العالمي نحو الطاقة النظيفة؛ حيث تشير التقارير الدولية، إلى أن إمكانات الطاقة الشمسـية فـي أفريقيا تبلــغ حوالي %40 مــن الإجمالــي العالــمي، وحوالي %32 من إجمالــي طاقــة الريــاح فــي العالــم، وتقريبًا %12 مــن إجمالــي الطاقــة الكهرومائيــة، بقدرات بلغت 330 جيجــاوات، ويشهد تحوُّل الطاقة في أفريقيا ديناميكيةً جديدةً في سياق تصاعُد التحديات السياسية والاقتصادية المرتبطة بـ “أمْن الطاقة” و”العدالة المناخية”؛ إذ تسعى الحكومات الأفريقية إلى إعادة تشكيل سياساتها الطاقية ضمن مقاربةٍ تنمويةٍ مستدامةٍ، تراعي السيادة الوطنية على الموارد.
يأتي هذا التحوُّل في ظِلِّ استمرار فجْوة الوُلُوج إلى الكهرباء؛ حيث يعاني أكثر من 600 مليون أفريقيٍّ من غيابها؛ مما دفع صُنَّاع القرار إلى تبنِّي استراتيجيات قائمة على تحوُّل الطاقة، من خلال تعزيز الاعتماد على مصادر متجددة، مثل “الطاقة الشمسية والمائية”، إضافةً إلى طاقة الرياح، كمدخلٍ لتعزيز الأمن الإنساني وتقليص الاعتماد على الوقود الأُحْفُوري المستورد، وتلعب المبادرات الإقليمية والدولية دورًا حاسمًا ضمن أجندة الاتحاد الأفريقي 2063، فضْلًا عن الاستثمارات الدولية الواسعة في مشروعات خضراء، في دول مثل “المغرب وكينيا ورواندا”، والتي تعكس ديناميات القوة الناعمة الاقتصادية بين أفريقيا وشركائها الدوليِّين، ويُعَدُّ هذا التحوُّل في جوهره مشروعًا استراتيجيًّا لإعادة رسْم التوازنات الداخلية والخارجية في القارة ضمن نظامٍ دوليٍّ يشهد تحوُّلاتٍ جِذْرِيَّةً في خريطة الطاقة.[1]
تحوُّل الطاقة كأداةٍ لتمكين السيادة الأفريقية
يُشكِّلُ التحوُّلُ العالميُّ نحْو الطاقة النظيفة لحظةً فارقةً تُتيح لأفريقيا فُرْصةً لإعادة تموْضعها داخل النظام الدولي كـ “فاعل مركزي” في سلاسل القيمة العالمية، لا مُجرَّد مُصدِّرٍ للمواد الخام؛ فالقارة تمتلك احتياطات ضخمة من المعادن الحَرِجَة، مثل “الكوبالت، النيكل، الليثيوم، البوكسيت، والنحاس”، وهي عناصر لا غنى عنها في تصنيع البطاريات والسيارات الكهربائية وتوربينات الرياح، إلَّا أن أغلب عمليات التصنيع والمعالجة لا تزال تُدارُ خارج القارة؛ مما يُعَمِّقُ تبعِيَّتَها البُنْيَوِيَّة للقطب الصناعي الآسيوي، خاصَّةً الصين.
في هذا السياق، يُقدِّمُ الهيدروجين الأخضر فُرْصةً استراتيجية لتفكيك هذه التبعِيَّة؛ فعدة دول أفريقية تمتلك ميزات نسبية كبيرة، مثل “ارتفاع إشعاع الشمس واتساع رقعة الأراضي القابلة للرياح”؛ ما يضعها في موقعٍ تنافسيٍّ لإنتاج الهيدروجين الأخضر عبْر تقنية التحليل الكهربائي المدعوم بالطاقة المتجددة، هذه القدرة لا تتيح فقط فُرَص تصدير جديدة، بل تُعزِّزُ من قدرة الدول الأفريقية على تطوير صناعات وطنية خضراء، تُوفِّرُ فُرَص عمل، وتنْقِلُ القارة إلى موقع تفاوضي أقوى داخل الشراكات الطاقية العالمية.
من خلال هذا التحوُّل، يمكن للعديد من الدول الأفريقية تبنّي سياسات صناعية موجهة تعتمد على اشتراطات محلية في عقود الاستثمار (مثل نقل التكنولوجيا، المحتوى المحلي، التدريب المهني)؛ ما يسمح بإعادة بناء أدوات السيادة الاقتصادية والتحرُّر من النموذج النيوليبرالي القائم على اقتصاد الريع الاستخراجي، كما يفتح المجال لتكوين تحالفات طاقية إقليمي تُعزِّزُ الاستقلال الاستراتيجي، وتُعبِّرُ عن طموح سياسي أفريقي مشترك في صياغة ملامح نظام عالمي أكثر توازُنًا.[2]
تصاعُد التنافُس الجيوسياسي بالقارة
لم يعُدْ تحوُّل الطاقة مجرد خيار تنموي أو بيئي، بل تحوَّلَ إلى أداة لإعادة تشكيل خرائط النفوذ الدولي داخل القارة، وهو ما أدَّى إلى إعادة تموْضع القارة كساحة إستراتيجية محورية للتنافُس الجيوسياسي العالمي على المعادن ومصادر الطاقة، والذي ينضمُّ له روسيا والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وغيرهم، لا سيما أن الولايات المتحدة يظلُّ هدفها الأساسي هو السيطرة على الثروات المعدنية خارج أراضيها؛ لذلك اتجه الرئيس الأمريكي ترامب إلى إبرام صفقة معادن مع أوكرانيا وضمّ جزيرة غرينلاند وكندا، إلى جانب موازنة النفوذ الصيني، إذ أن الصين لا تدخر جهدا في تمويل محطات عملاقة ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، إضافةً إلى سيطرة الصين على المعادن الأرضية النادرة؛ حيث أنها تهيمن حاليًّا على السوق؛ إذ تنتج حوالي 60%، وتعالج وتُكرِّرُ حوالي 80% منها، كما أنها اللاعب الرئيسي في سلسلة التوريد العالمية، من ناحية أخرى، تُعَدُّ الصين أكبر لاعب – حتى الآن – في قطاع التعدين الأفريقي، والتي استثمرت في هذا القطاع بالمليارات خلال سنوات قليلة.
أمَّا الاتحاد الأوروبي، فيسعى إلى تعزيز نفوذه الجيوسياسي في أفريقيا، من خلال توسيع حضوره في قطاع التعدين؛ حيث تُدير شركاته 46 منجمًا عبْر القارة، وتملك مؤسسات متوسطة وصغيرة من دول، مثل “فرنسا وفنلندا وقبرص وهولندا والسويد وألمانيا وبلجيكا وأيرلندا ورومانيا والبرتغال” أصولًا تعدينية في مجالات استراتيجية كـ “ـالكروم، والنحاس، والماس”، ويُنتظر أن يُسْهِمَ مشروع “البوَّابة العالمية” في تسهيل الوصول إلى احتياطيات ضخمة من المعادن الأرضية النادرة، في دول مثل “الجزائر وبوروندي والغابون وتنزانيا”، وفي مواجهة الهيْمنة الصينية، تبنَّتْ كُلٌّ من “الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي واليابان” استراتيجيات هجومية مشتركة؛ لتأمين سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على بكين، أبرزها عقْد اجتماع رفيع، في سبتمبر 2022، مع أبرز دول التعدين الأفريقية (جمهورية الكونغو الديمقراطية، زامبيا، موزمبيق، ناميبيا، تنزانيا…)؛ لاستكشاف آليات النفاذ إلى هذه الأسواق والتحكُّم في مواردها الجيواستراتيجية.[3]
أفريقيا من التبعِيَّة إلى الشراكة
شرعت الدول الأفريقية المالكة للثروات المعدنية إلى فرْض سيادتها على مواردها كخطوة لجعْل المصالح الوطنية والإقليمية من أوائل الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، في هذا السياق، اتخذت غينيا خطوةً حاسمةً، في مايو 2025، حينما ألغت 51 رخصة تعدين دفْعةً واحدةً؛ مُبرِّرَةً ذلك بعدم التزام الشركات المعنِيَّة بشروط التوطين الصناعي، وعلى رأسها بناء مصافٍ محلية لتكرير خام البوكسيت، هذا القرار جاء في إطار سياسة رسمية؛ تهدف إلى تعزيز القيمة المضافة محليًّا وتقليص اعتماد البلاد على تصدير المواد الخام غير المعالجة، أمَّا غانا، فقد قامت في يوليو 2025، بإدخال تعديلات جوهرية على قوانين التعدين، تمثَّلَتْ في تقليص مدة تراخيص التعدين، ومنْع تمديدها تلقائيًّا، مع فرْض التزامات على الشركات بتخصيص نسبة من إيراداتها لدعم المجتمعات المحلية المتأثرة بأنشطتها.
وقد أكَّدت وزارة الأراضي والموارد الطبيعية الغانية، أن هذه الإجراءات تأتي في إطار رُؤْيةٍ جديدةٍ؛ تهدف إلى رفْع مستوى الشفافية، وتوسيع قاعدة الفوائد الاقتصادية الناتجة عن استغلال الموارد الطبيعية.
أمَّا زيمبابوي، فقد اختارت نهْجًا قائمًا على التقييد التشريعي لتصدير خام الليثيوم؛ حيث أصدرت الحكومة، منذ عام 2022، قرارًا رسميًّا، يحْظُرُ تصدير الليثيوم الخام من دون معالجته داخل البلاد؛ وذلك في محاولة لإجبار الشركات المستثمرة على إقامة منشآت تصنيع محلية، تساهم في خلْق فُرَص العمل وتعزيز الإيرادات السيادية، وقد دعَّمَتْ الحكومة هذه الخطوة بفرْض نظام إتاوةٍ جزئيةٍ، يتمُّ تسديدها عبْر كميات من الخام المُنتج بَدَلًا من الدَّفْع النقدي، وهو ما يعكس سياسة مَرِنَةً في إدارة الإيرادات، مع الحفاظ على جزء من الإنتاج داخل الحدود الوطنية، هذه السياسات تعكس تحوُّلًا استراتيجيًّا في العلاقة بين الدول المالكة للموارد والشركات الأجنبية، يقوم على إعادة التوازن لصالح الدولة عبْر أدوات قانونية واقتصادية، دون الانسحاب الكامل من سوق الاستثمار العالمي.[4]
التوصيات
1- إدْمَاج ُمبْدأ «المصلحة الوطنية العليا» في تشريعات الاستثمار التعديني
تضمين مفهوم “المصلحة الوطنية” ضمن قوانين الاستثمار التعديني؛ بحيث تكون الموافقة على أيِّ اتفاقيات أو امتيازات مشروطة بتقييم دقيق لمدى توافقها مع أولويات التنمية الوطنية، ومعايير الأمن القومي الاقتصادي، وليس فقط بعائدات المدى القصير.
2- فرْض رسوم تصديرية تصاعُدية على المعادن الخام لتعزيز التصنيع المحلي
تبنِّي الحكومات الأفريقية سياسات جمركية تصاعُدية تُفْرَضُ على تصدير المواد المعدنية غير المعالجة؛ بحيث تُطبَّق رسوم تصدير أعلى على الخام، كلما انخفضت نسبة التصنيع المحلي أو القيمة المضافة؛ بهدف دفْع الشركات الأجنبية نحو الاستثمار في إنشاء مصانع ومراكز معالجة داخل الدولة بَدَلًا من نقْل المواد الخام إلى الخارج؛ ما يُعزِّزُ التصنيع الوطني، ويُوفِّرُ فرص عمل، ويرفع من العوائد الاقتصادية طويلة الأمد.
3- إنشاء أجهزة تنظيم قطاع التعدين مستقلة عن السلطة التنفيذية
لضمان الحوْكمة الرشيدة والحدِّ من تضارُب المصالح، يُوصى بتأسيس هيئات تنظيمية مستقلة ذات طابع شِبْه قضائي، تكون مسؤولة عن منْح التراخيص، مراقبة الامتثال البيئي والاجتماعي، وحل النزاعات المتعلقة بقطاع التعدين، بما يُعزز من استقلالية القرار المؤسسي.
4- تأسيس صناديق سيادية معدنية مُوَجهَّة للتنمية طويلة الأجل
يُستحسن للدول المالكة للمعادن الاستراتيجية تخصيص جزء من العائدات لإنشاء صناديق سيادية مستقلة، تُدارُ وفْق معايير النزاهة المالية، وتُستخدم لتمويل مشروعات البِنْيَة التحتِيَّة، التعليم الفني، والابتكار التكنولوجي في الصناعات المرتبطة بالمعادن.
5- تعزيز التكامل الإقليمي في إدارة الموارد
تفعيل أُطُر التعاون الإقليمي داخل تجمُّعات، مثل “الاتحاد الأفريقي”؛ لتنسيق السياسات الضريبية والتجارية الخاصَّة بالمعادن؛ بما يمنع التنافُسَ الضارَّ بين الدول، ويُعزِّز من الموقف التفاوضي الجماعي في مواجهة الشركات متعددة الجنسيات.
6- تنويع الشراكات الدولية دون الارتهان لطَرَفٍ واحدٍ
تسعى الحكومات الأفريقية إلى بناء شراكات متعددة الأقطاب في مجال الاستثمار التعديني؛ وذلك لتفادي الوقوع في فخِّ التبعِيَّة الجيوسياسية لقوى دولية بعينها، سواء كانت غربية أو صينية، وللاستفادة من تنافُس القوى الكبرى على الوصول إلى المعادن الاستراتيجية.
ختامًا:
يتضح أن سعْي الدول الأفريقية المالكة للمعادن الاستراتيجية إلى تعزيز سيادتها على مواردها الطبيعية لم يعُدْ خيارًا، بل ضرورةً سياديةً وتنمويةً، في ظِلِّ التنافُس الجيوسياسي المتصاعد على الثروات الحيوية؛ فقد تبنَّتْ هذه الدول حِزْمَةً من الإجراءات السياسية والقانونية والاقتصادية؛ تهدف إلى استرداد السيطرة الوطنية على سلاسل القيمة المعدنية، والحدِّ من التبعِيَّة التاريخية لنماذج الاستخراج الخارجي غير العادل، وشملت هذه الإجراءات، فرْض قيود على تصدير الخام، وتشجيع التصنيع المحلي، بالإضافة إلى تأسيس صناديق سيادية وتنمية القدرات المؤسسية.
[2] د. احمد سلطان، صراع القوى العظمى على ثروات القارة السمراء: المعادن الحرجة في قلب التنافس الأمريكي الصيني، مركز الدراسات الاستراتيجية بجمهورية مصر العربية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية (ECSS)، 25 ديسمبر 2024، https://ecss.com.eg/51076.
