المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تأثير التطورات السياسية في سوريا على الاستراتيجية والمصالح التركية في سوريا
تأثير التطورات السياسية في سوريا على الاستراتيجية والمصالح التركية في سوريا
- يوليو 30, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أحمد فهمي
منسق برنامج دراسات الدول التركية
المقدمة
تقفُ سوريا اليوم أمام مفترقِ طرقٍ تاريخيٍ بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، حيث تتجاذبُها سيناريوهاتٌ متباينةٌ بين استقرارٍٍ هشٍّ أو تقسيمٍٍ فِعليٍ أو فوضى ممتدة، ولم يعدْ مستقبل البلاد رهينَ إرادة دمشق أو القوى المحلية فحسب، بل بات مرهونًا أيضًا بتشابك مصالح قوى إقليمية ودولية تتصارع على النفوذ داخل الأراضي السورية.
لقد أدى انهيار النظام إلى فراغٍ سياسيٍ ملأته ترتيباتٌ انتقاليةٌ جديدةٌ مدعومةٌ خارجيًا، ومن أبرز التحولات ما تمثّلَ في تراجعِ النفوذ الإيراني على الأرض السورية وانكفاء طهران ضمن ما يشبه الانسحاب، مقابل صعود النفوذ التركي كلاعبٍ محوريٍ في إعادة رسْمِ المشهد السوري. في هذا السياق، أصبح من الضروري فهم كيف تعيد تركيا تموضعها الاستراتيجي لتحقيق مصالحها في ظل مشهد سوري جديد يتسم بالهشاشة السياسية والتنافس الإقليمي على ترتيب أوضاع ما بعد الأسد.
التطورات السياسية الراهنة داخل سوريا
منذ سقوط نظام الأسد، تشهدُ سوريا مرحلةً سياسيةً غير مسبوقة، سرعان ما بدأت القوى المحلية والإقليمية بمحاولة ملئها عبر مساراتٍ متشابكةٍ تهدف إلى إعادة تنظيم السلطة وبناء ترتيبات جديدة للحكم، ويمكن رصْدُ أبرز التطورات الراهنة من خلال عدد من المسارات المتداخلة:
سقوط النظام وتفكك الدولة المركزية: شكّل انهيارُ نظام بشار الأسد لحظةً مفصليةً أنهت حكم العائلة الممتد لنحو نصف قرن، وجاء هذا السقوطُ على يدِ تحالفٍ موسّعٍ لقوى المعارضة، مستفيدًا من تغيرات في موازين القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك دعمٌ تركيٌ نَشِطٌ للفصائل المعارضة وضعف قبضة إيران وميليشياتها نتيجة ضربات إسرائيلية وتراجع تركيز موسكو بسبب حرب أوكرانيا، وخلف انهيار النظام تفككًا في مؤسسات الدولة المركزية وأوجد فراغًا أمنيًا وإداريًا في العديد من المناطق، ما جعلَ البلادَ مفتوحةً على ترتيباتٌ حكمٍ جديدةٍ بقرار داخليٍ وخارجيٍ في آنٍ واحد.
تأسيس حكومة انتقالية ومؤسسات دستورية مؤقتة: في يناير 2025، تبلورتْ سلطةٌ انتقاليةٌ جديدةٌ برئاسة أحمد الشرع، عقب مؤتمر وطني للقوى المسلحة المعارضة، أعلن فيه الشرع رئيسًا انتقاليًا للبلاد، وفي مارس 2025 تمَّ إقرارُ إعلانٍ دستوريٍ مؤقّتٍ يؤسس لمرحلةٍ انتقاليةٍ مدتها خمسُ سنوات، وينص هذا الإعلان على نظام حكم شامل يضمن تمثيلًا للمكونات الدينية والإثنية كافة في المؤسسات الجديدة. وبالفعل، شهدت التشكيلة الحكومية الانتقالية تمثيلًا متنوعًا يضم غالبيةً سنّيةً إلى جانب ممثلين عن الأقليات من مسيحيين وكرد ودروز وعلويين، كما حل الإعلان الدستوري محل دستور 2012 ورسم خريطة طريق مبدئية لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة.
إعادة تموضع القوى الإقليمية والدولية: أفضى تغير موازين القوى إلى إعادة انتشار الفاعلين الخارجيين على الأرض السورية، فقد تراجعَ الدورُ الإيراني بشكلٍ ملحوظٍ وصولًا إلى انسحابٍ تدريجيٍ لعناصر الحرس الثوري والفصائل الموالية لطهران من الداخل السوري. وفي الوقت نفسه، انكفأتْ روسيا إلى حضورٍ رمزيٍ يتركز في القاعدة الساحلية مع تراجع تأثيرها السياسي إثر انهيار حليفها. بالمقابل، توسع الدور التركي سياسيًا وعسكريًا، حيث انتقلت أنقرة من مجرد إسناد جماعات المعارضة إلى الانخراط المباشر في دعم السلطة الانتقالية الناشئة وترسيخ نفوذها داخل المؤسسات الأمنية والإدارية الجديدة، كما تدرس أنقرة إبرامَ اتفاقٍ دفاعيٍ مع الحكومة الانتقالية يسمح بنشر قوات تركية في قواعد وسط سوريا مثل مطار الـT-4 في حمص لضمان الأمن الاستراتيجي، كذلك تسعى دول عربية كالسعودية وقطر والإمارات لدعم الاستقرار الجديد في سوريا كمدخلٍ لتعزيز نفوذها الاقتصادي، لاسيَّما عبر المشاركة في جهود إعادة الإعمار، وإن كان ذلك بحذرٍ وسط ترقبٍ لطبيعةِ النظام الانتقالي واتجاهاته السياسية.
احتجاجات واضطرابات مجتمعية متصاعدة: شهدتْ الشهورُ الأولى بعد سقوط النظام اهتزازاتٍ أمنيةٍ ذات طابعٍ طائفيٍ ومناطقي. في الجنوب، انفجرت احتجاجاتٌ واسعةٌ في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، تطالبُ بمزيدٍ من الحكم الذاتي المحلي وضمانات لعدم تهميشها في العهد الجديد، وسرعان ما تطورتْ هذه الاحتجاجاتُ إلى اشتباكاتٍ عنيفةٍ بين مجموعاتٍ درزيةٍ مسلحة وقوات أمنية محسوبة على السلطة الانتقالية في مناطق متفرقة. وفي الساحل ذي الأغلبية العلوية، اندلعت اضطراباتٌ أمنيةٌ بعد أن هاجمت عناصر موالية للنظام السابق مواقع للسلطة الجديدة في مارس 2025، فردّت ميليشياتٌ إسلاميةٌ مواليةٌ للحكومة الانتقالية بهجمات انتقامية أسفرت عن مقتل ما يزيد على 1,600 من المدنيين العلويين والمسلحين المحليين، وهذه الأحداث الدامية فاقمت حالة الاستقطاب وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع، وأشاعت مخاوف الأقليات من هيمنة التشكيلات الإسلامية المتشددة المرتبطة بالنظام الانتقالي.
استجابات الفاعلين المحليين للتطورات:
السلطة الانتقالية (نظام أحمد الشرع): يسعى الشرع إلى ترسيخِ شرعيةٍ سياسيةٍ شاملةٍ تستند إلى إعلان دستوريٍ مؤقتٍ ومؤسساتٍ تمثيليةٍ جامعةٍ، مع وعودٍ بإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية لتكونَ معبّرةَ عن جميع مكونات المجتمع السوري، إلا أن حكومته تواجهُ صعوباتٍ حقيقيةَ في بسط السيطرة الكاملة، خصوصًا في الجنوب والشرق والساحل، حيث تصاعد التوتر الطائفي وضعف الاندماج، كما أن وجود ميليشيات سلفية في صفوف قواته يثير قلق الأقليات، ما يعوق عملية بناء الثقة والانخراط الوطني، ويضع السلطة الانتقالية أمام تحدي كسْبِ الشرعية والاستقرار في زمن قصير.
الأكراد (قسد والإدارة الذاتية): تُعد المسألة الكردية اختبارًا رئيسيًا لمدى شمول الترتيبات الانتقالية، فبالرغم من التوتر التاريخي مع أنقرة، دخل الأكراد – ممثلين بقسد والإدارة الذاتية – في تفاهماتٍ مع الحكومة الانتقالية تضمنُ لهم تمثيلًا سياسيًا واستمرارًا نسبيًا للحكم المحلي، مقابل دمْجٍ تدريجيٍ لقواتهم في الجيش الوطني، وقد أفضى ذلك إلى اتفاق رسمي في مارس 2025 بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، ورغم الانخراط الرسمي لا تزالُ شكوكُ الأكراد قائمةً حِيالَ نوايا تركيا، التي تُصر على نزْعِ سلاح قسد ودمْجها دون استقلالية، وهذا الواقع يُبقي الأكراد في وضعٍ حذرٍ، يدفعهم للإبقاء على قنوات اتصال مع واشنطن والسعي لضمانات دولية تكفل استمرار دورهم ضمن سوريا موحدة وتحد من النفوذ التركي.
الدروز: اتخذ الدروز موقفًا سياسيًا متمايزًا بعد سقوط النظام، مطالبين بحكمٍ ذاتيٍ محليٍ في السويداء ضمن دولةٍ لا مركزيةٍ، واحتفظت فصائلهم المسلحة، كرجال الكرامة باستقلال أمني نسبي، وقد زادت أحداث السويداء الدامية من انقسام الطائفة بين تيار اندماجي وآخر يلوح بالانفصال أو الحماية الخارجية، ويطالبُ زعماؤهم بضماناتٍ دوليةٍ تحمي حقوقهم، وسط قلقٍ من تَحولهمِ إلى ورقة في صراعات إقليمية، لاسيَّما في ظل محاولات إسرائيل تقديم نفسها كحامٍ للدروز، وأمام هذا الواقع تجد السلطة الانتقالية نفسها مطالبة بطمأنة الدروز، بينما يسعى الدروز لضمان حقوقهم دون الانجرار إلى محاور خارجية.
العلويون: أثار سقوطُ النظام صدمةً كبيرةً لدى الطائفة العلوية التي شكّلت لعقودٍ العمود الفِقَري للحكم، مع زوال السلطة واجهت الطائفة فراغًا سياسيًا وأمنيًا، وتفاوتت ردودُ فعلها بين من سعى للتقارب مع الحكومة الانتقالية أملاً في المصالحة، وبين من دعا لعزلةٍ مناطقيةٍ في الساحل، وهي فكرةٌ لم تلقْ قبولًا واسعًا، وتصاعدت مخاوف العلويين بعد تعرضهم لهجمات مسلحة، ما دفع البعض للنزوح أو اللجوء، ويتوقف اندماجهم في سوريا الجديدة على توفير ضمانات لحقوقهم، وإطلاق عدالة انتقالية متوازنة لا تستهدفهم جماعيًا، كما أن إدماجَ الكفاءاتِ العلوية في مؤسسات الدولة سيكون ضروريًا لبناء الثقة، ومع استمرار هيمنة فصائل متشددة على مفاصل السلطة، يبقى مستقبل العلويين مرهونًا بقدرة الدولة على إرسال إشاراتِ تطمينٍ فِعليةٍ، وتفادي منطق الإقصاء أو الانتقام.
الانعكاسات المحتملة على الاستراتيجية والمصالح التركية في سوريا
شهدت الاستراتيجية التركية تجاه سوريا تحولًا جذريًا في ضوء المتغيرات الأخيرة، فأنقرة وجدت نفسها أمام مشهد جديد يُتيح لها نفوذًا غير مسبوق، لكنه يفرض عليها أيضًا تحدياتٍ ومسؤولياتٍ كبيرةٍ، وفيما يلي أبرز انعكاسات التطورات السورية الراهنة على المصالح التركية:
تعزيز النفوذ السياسي والعسكري التركي: مثّل سقوطُ النظام فرصةً استراتيجيةً لتركيا للتحول من داعمٍ غير مباشر إلى فاعلٍ رئيسي في رسْمِ مستقبل سوريا، فأنقرة تدعم تشكيل/بناء الجيش الجديد، وباتت اليوم القوة الخارجية الأكثر حضورًا بعد تراجع روسيا وإيران، مع سعيها لتوسيع النفوذ المؤسسي عبر دعم الحكومة الانتقالية والتفاوض على اتفاقياتٍ دفاعيةٍ تضمن تموضعًا طويل الأمد، وهذا النفوذُ يمنحُ تركيا موقعًا حاسمًا في ملفات الأمن والإعمار والسياسة، ويجعلها طرفًا أساسيًا في تحديد مستقبل سوريا.
تحييد الخطر الإيراني وتغيير ميزان القوى الإقليمي: مثّل انسحابُ إيران من سوريا تحولًا استراتيجيًا خفف الضغط عن تركيا، التي لطالما اعتبرت الوجود الإيراني تهديدًا أمنيًا، فبعد انكفاء الحرس الثوري وحزب الله، تلاشت شبكات التغلغل جنوب سوريا، ما أتاح لتركيا التحركَ بحريةٍ أكبر وتركيز جهودها على ترسيخ نفوذها دون منافسةٍ مباشرةٍ، كما عزّز هذا التراجعُ الإيراني موقع أنقرة إقليميًا، خاصةً لدى دول الخليج التي باتت تراها عنصرَ توازنٍ. ومع ذلك، تبقى أنقرة حذرة من عودة طهران عبر قنواتٍ غير مباشرةٍ، لذا تسعى لترسيخ وقائع ميدانية تمنع أي ارتداد إيراني في المستقبل.
فرض نموذج تركي للحكم المحلي: تسعى تركيا لترسيخ نموذج “المركزية المرنة” في سوريا، بما يضمن بقاء الدولة موحدةً اسميًا، مع تحجيم النفوذ الكردي ومنْعِ قيام كياناتٍ مستقلةٍ على حدودها، وتدعم أنقرة توجّهَ الحكومة الانتقالية نحو سلطةٍ مركزيةٍ قويةٍ في دمشق، مع منْحِ هامشٍ من الإدارة المحلية لبقية المناطق، فأنقرة تنظر بعين الريبة إلى مفهوم الفيدرالية أو اللامركزية العميقة، إذ تخشى أن تمنحَ مثل هذه الصيغ استقلاليةً واسعةً للمناطق الكردية تشجّع بدورها تطلعات الانفصال لدى الأكراد داخل تركيا، وبهذا تضمن تركيا عدم نشوء أي كيانات معادية مستقلة.
توسيع الحضور الإقليمي والدبلوماسي التركي: من خلال دعمها المبكر للسلطة الانتقالية، عززت تركيا موقعها دبلوماسيًا وإقليميًا، لا سيَّما في علاقاتها مع دول الخليج التي باتت ترى في أنقرة عنصر توازن مقابل إيران. تبلور محورُ تعاونٍ تركيٍ-خليجيٍ لدعم الاستقرار في سوريا، تجلى في ملف إعادة الإعمار الذي يشكّل فرصةً اقتصاديةً واختراقًا استراتيجيًا لتركيا في المشرق، كما تحسن موقعها في قضايا إقليمية مثل اللاجئين وضبط الحدود، وبرزتْ كفاعلٍ رئيسيٍ في الأمن الإقليمي، ما عزز صورتها كقوةٍ مسؤولة أمام شركاء دوليين، خاصة الغرب.