المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > القمة الثلاثية في إسطنبول: تقاطع المصالح التركية–الإيطالية في الساحة الليبية
القمة الثلاثية في إسطنبول: تقاطع المصالح التركية–الإيطالية في الساحة الليبية
- أغسطس 3, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أحمد فهمي
منسق وحدة دراسات الدول التركية
شهدتْ مدينةُ إسطنبول التركية، في الأول من أغسطس 2025، انعقادَ قمةٍ ثلاثيةٍ جمعت بين تركيا وليبيا وإيطاليا، بمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة. ركّزت القمةُ على تعزيز التعاون الإقليمي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ولا سيَّما في ملفات الهجرة غير النظامية، ودعْمِ الاستقرارِ السياسيِ في ليبيا، إضافةً إلى دفْع مشاريعِ التنمية الاقتصادية المشتركة. وتأتي هذه القمة في سياقٍ إقليميٍ معقّدٍ؛ إذ لا تزالُ ليبيا تعاني انقساماتٍ داخليةً، في وقتٍ تسعى فيه كلٌ من تركيا وإيطاليا إلى ضبط تدفق المهاجرين عبر المتوسط، ودعمِ مسارٍ سياسيٍ يُفضي إلى إخراج ليبيا من أزمتها المزمنة.
تطورات المشهد الليبي ودور تركيا وإيطاليا:
منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011، انزلقتْ ليبيا في صراعٍ على السلطة أدّى إلى انقسامها بين حكومتين متنافستين في الغرب (طرابلس) والشرق (بنغازي)، تدعم كلًا منهما أطرافٌ وقوى خارجيةٌ مختلفةٌ، وبرزت تركيا خلال هذه الفترة كداعمٍ رئيسيٍ لحكومة الوفاق الوطني سابقًا، ثم لحكومة الوحدة الوطنية الحالية في طرابلس، وقد تدخلت عسكريًا عام 2020 لدعمها في مواجهة قوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر، بما في ذلك إرسالُ مستشارين عسكريين وطائراتٍ مسيّرةٍ تركيةٍ. من جهتها، ترتبط إيطاليا تاريخيًا بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع ليبيا بحكم الإرث الاستعماري والمصالح النفطية، وهي تدعم استقرار البلاد ووحدتها عبر الحل السياسي، لكنها تميلُ إلى التعاون مع طرابلس لضمان استمرار تدفق النفط والغاز الليبيين والاستفادة من الشراكة الاقتصادية.
في الأشهر الأخيرة، برزت تركيا وإيطاليا كشريكين يسعيان إلى رسْمِ مقاربةٍ مشتركةٍ حيال الملف الليبي، فتركيا رغم تعاونها المستمر لطرابلس، انفتحتْ بحذرٍ على التواصل مع معسكر الشرق بهدف الحفاظ على نفوذها الشامل في ليبيا، ومنْعِ انفرادِ قوى أخرى بالساحة. على سبيل المثال، استأنفت أنقرة اتصالاتها مع مسؤولي “الجيش الوطني الليبي”، حيث التقى وزير الدفاع التركي يشار جولر بصدام حفتر، رئيس أركان القوات البرية بالجيش الليبى ونجل قائد الجيش خليفة حفتر، على هامشِ معرضٍ دفاعيٍ في إسطنبول في يوليو 2025، ويُنظر إلى هذا الانفتاحِ التركي كجزءٍ من محاولةٍ لِلَعبٌ دور الوسيط بين الفرقاء الليبيين؛ إذ يسعى الرئيس أردوغان إلى تقديم نفسه كجسرِ تواصلٍ بين غرب ليبيا وشرقها، في ظلّ جهودٍ أمميةٍ لجمْعِ الفُرقاء على طاولة انتخابات وإنهاء الانقسام.
أما إيطاليا، بقيادة جورجيا ميلوني، فقد وضعت استقرار ليبيا وأمن المتوسط في صدارة أولويات سياستها الخارجية منذ توليها السلطة في أواخر عام 2022، وجاءتْ هذه القمة امتدادًا لمسارٍ من التحركاتِ الإيطالية النشطة تجاه ليبيا؛ إذ قامت ميلوني بزيارة طرابلس في يناير 2023، ووقّعتْ اتفاقاتِ تعاون شملتْ استثماراتٍ ضخمةً في قطاع الغاز الليبي لصالح شركة “إيني” (ENI) الإيطالية، وتؤكد روما دومًا دعمها لـ”وحدة ليبيا واستقلالها واستقرارها” عبر عمليةٍ سياسيةٍ ليبيةٍ–ليبيةٍ برعاية الأمم المتحدة، تُفضي إلى انتخاباتٍ وطنيةٍ.
كما حرصتْ إيطاليا على تنسيقٍ وثيقٍ مع تركيا في الشأن الليبي خلال الأشهر الماضية؛ فقبل هذه القمة بثلاثة أشهر فقط، عقد أردوغان وميلوني قمةً ثُنائيةً في روما في أبريل 2025، جدّد فيها الطرفان دعمهما لخارطة الطريق الأممية في ليبيا، وأكدا التزامهما المشترك بالحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها، ودعم مؤسساتها الشرعية. بالتالي، يمكنُ فهْمُ القمةِ الثلاثية في إسطنبول على أنها تتويجٌ لجهود أنقرة وروما لتوحيد الرؤى إزاء ليبيا، وإشراكٌ الحكومة الليبية في هذه الرؤية، لضمانِ شراكةٍ ثلاثيةٍ تُسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
الدوافع وراء القمة الثلاثية:
هناك مجموعةٌ من الدوافع التي تقف خلف عقد القمة الثلاثية، ويمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
أهداف تركيا ومصالحها الإقليمية في ليبيا: تسعى أنقرة من خلال هذه القمة إلى ترسيخ نفوذها في ليبيا وتعزيزِ شراكتها مع طرابلس، لا سيَّما في مجالي ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط، وقد سبق أن وقّعت مع حكومات طرابلس اتفاقياتٍ مثيرةً للجدل في عامي 2019 و2022 لترسيم الحدود البحرية بينهما. وفي يونيو 2025، اتخذ التعاون التركي–الليبي بُعدًا عمليًا من خلال توقيعِ اتفاقٍ بين المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا (NOC) وشركة النفط التركية (TPAO) لإجراءِ مسوحاتٍ جيولوجيةٍ وجيوفيزيائيةٍ مشتركةٍ في أربع مناطق بحريةٍ قُبالة السواحل الليبية، وهو ما يعكسُ تعمّقَ الشراكةِ النفطيةِ بين البلدين، وتراهن أنقرة على خبراتها التقنية لكشف احتياطيات الغاز الليبي في البحر، بينما تظل إيطاليا شريكًا محوريًا في تصدير الغاز الليبي إلى أوروبا عبر خط أنابيب “جرين ستريم” (Greenstream).
أولويات إيطاليا ودوافعها في الملف الليبي: تعكسُ القمةُ سعْيَ روما، إلى لَعِبِ دورٍ قياديٍ في منطقة المتوسط بالتعاون مع تركيا، وتُعد الهجرة غير النظامية أولويةً قصوى بالنسبة لروما، خصوصًا مع تزايد أعداد الوافدين من السواحل الليبية بنسبة 80% خلال النصف الأول من عام 2025، ما دفع ميلوني إلى تعزيز التنسيق مع كلٍ من تركيا وليبيا لضبط التدفقات، ونقل الخبرات التركية إلى طرابلس في هذا المجال. كذلك تولي إيطاليا أهميةً كبرى لأمن الطاقة، حيث ترتبطُ بمشروعاتٍ استراتيجيةٍ مع ليبيا، أبرزُها استثمارُ شركة “إيني” نحو 8 مليارات دولار في حقول الغاز البحرية. لذلك، يُعد استقرار ليبيا شرطًا أساسيًا لحماية المصالح الإيطالية الطاقوية. كما تنظر روما إلى تركيا باعتبارها شريكًا دفاعيًا واقتصاديًا مهمًا، في ظل مشاريع التعاون المشترك، مثل الشراكة بين شركتي “ليوناردو” الإيطالية و”بايكار” التركية، ومساعي أنقرة لشراء مقاتلاتٍ Eurofighter بمساهمةٍ إيطاليةٍ، ويأتي هذا التقارب ضمن رغبة إيطاليا في لَعِبِ دورٍ محوريٍ في الملف الليبي والأمن الإقليمي، ضمن إطارٍ أوروبيٍ ومتوسطيٍ أوسع.
موقف حكومة الوحدة الوطنية الليبية وتطلعاتها: جاءتْ مشاركةُ رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة في القمة الثلاثية تأكيدًا على سعي طرابلس إلى تعزيز شرعيتها الدولية وتنويع شراكاتها الخارجية، وقد اعتبر الدبيبة أن القمة تمثّل دعمًا سياسيًا لمسار حكومته، مستعرضًا خلال اللقاء جهود تفكيك الميليشيات كخطوةٍ نحو ترسيخ سلطة الدولة، كما دعا إلى تعزيز التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية، وربْطِ ليبيا بالمشاريع الإقليمية، مشددًا على حاجة بلاده إلى تحديث الموانئ، وتطوير قطاع الكهرباء، وزيادة إنتاج النفط والغاز. وفي سياق توسيع التحالفات، اقترح الدبيبة إشراك قطر في دعم هذه الجهود من خلالِ عقْدِ اجتماعٍ رباعيٍ يضمّ تركيا وإيطاليا وليبيا وقطر، سعيًا لتأمين دعمٍ ماليٍ ولوجستيٍ أوسع. وبذلك، يسعى الجانب الليبي من خلال القمة إلى ضمان استمرار دعم تركيا وإيطاليا له في مواجهة خصومه الداخليين، مقابل الانخراط بمرونةٍ في مجالات التعاون، سواء عبر ضبط الهجرة لصالح أوروبا، أو توقيع اتفاقاتِ طاقة تعود بالفائدة على أنقرة وروما.
مجالات التعاون بين الدول الثلاث:
تتعدد مجالات التعاون بين تركيا وليبيا وإيطاليا، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
التعاون في ملف الهجرة غير النظامية والأبعاد الإنسانية: شكّلت الهجرةُ غير النظاميةُ محورًا رئيسيًا في قمة إسطنبول، في ظلّ تصاعد أعداد المهاجرين المنطلقين من ليبيا نحو إيطاليا ووقوع حوادث غرقٍ مأساويةٍ، وشدد القادة الثلاثة على ضرورة معالجة هذه الظاهرة عبر حلولٍ شاملةٍ تراعي الأبعادَ الأمنيةَ والإنسانيةَ في آنٍٍ معًا، حيث دعا أردوغان إلى إطلاق تعاونٍ متعدد الأطراف لمعالجة جذور الهجرة، فيما اقترحت ميلوني الاستفادة من النموذج التركي في ضبط السواحل، لدعم ليبيا على المستويين الأمني واللوجستي، بينما استعرض الدبيبة جهود حكومته في مكافحة شبكات التهريب، مؤكدًا العمل على تحسين أوضاع مراكز الإيواء وتعزيز العودة الطوعية للمهاجرين، كما تعهد بأن تكونَ السلطات الليبية أكثر قدرةً على ضبط الحدود الجنوبية التي تُعد مسارًا رئيسيًا لتدفّق المهاجرين، مستفيدًا من تحسن الأوضاع الأمنية في الداخل الليبي بعد الحملة الأخيرة ضد الميليشيات.
التعاون الاقتصادي ومشاريع الطاقة والبنية التحتية: حازتْ القضايا الاقتصادية ومشاريعُ الطاقة والبنية التحتية على اهتمامٍ واسعٍ في قمة إسطنبول، حيث رأت الدول الثلاث في تعزيز التكامل الاقتصادي فرصة لتحقيق منفعةٍ متبادلةٍ ودعم الاستقرار على المدى الطويل. وتُعد ليبيا، التي تمتلكُ أكبر احتياطياتٍ نفطيةٍ في إفريقيا، شريكًا حيويًا لكل من تركيا وإيطاليا، فقد عززت إيطاليا استثماراتها في قطاع الغاز من خلال شركة “إيني”، بينما توسعت تركيا في هذا القطاع مؤخرًا، خاصةً بعد توقيع اتفاقيات استكشاف بحرية مع طرابلس. ومع ذلك، يواجهُ هذا التعاونُ تحدياتٍ سياسيةً، أبرزُها اعتراضاتُ اليونان وقبرص على التنقيب في مناطق متنازع عليها شرق المتوسط، لكن قد يُسهم إشراكُ إيطاليا كشريكٍ مباشرٍ في تخفيف حدة التوتر وفتْحِ المجالِ أمام التفاوض. كذلك يُنظر إلى التعاون في قطاع الطاقة بوصفه فرصة لتوحيد المؤسسات الليبية وضمانِ توزيعٍ عادلٍ للعائدات، وإن كان هذا التعاون قد يثير توترات جديدة في حال شعرتْ أطرافٌ داخليةٌ بالتهميش أو الإقصاء.
البنية التحتية “الموانئ وشبكات الكهرباء والربط الإقليمي”: ناقشتْ القمةُ آفاقَ إعادة إعمار البنية التحتية الليبية المتضررة جرّاء النزاع، مع التركيز على تطوير الموانئ وشبكات الكهرباء، وقد أبدتْ كلٌ من تركيا وإيطاليا اهتمامًا خاصًا بتطوير الموانئ الليبية، لتعزيز الرقابة البحرية ودعم عمليات البحث والإنقاذ. وفيما يتعلق بالكهرباء، تسعى ليبيا إلى إنهاء الانقطاعاتِ المزمنةِ من خلال إنشاء محطاتٍ جديدةٍ وتأهيل الشبكات، بدعمٍ من شركاتٍ تركيةٍ وإيطاليةٍ، كما طُرحت فكرة ربط ليبيا كهربائيًا بدول الجوار وأوروبا، ما يفتحُ المجالَ لتحويلها مستقبلًا إلى مصدر للطاقة النظيفة. كما ناقشت القمة أيضًا إمكانية استئناف مشاريع تنموية سابقة، مثل الطريق الساحلي والمطارات ومشروعات الإسكان، بما قد يؤدي إلى بلورةِ خُطةٍ ثلاثيةٍ لإعادة الإعمار بتمويل دولي، ويُسهم هذا التعاون ليس فقط في إعادة البناء، بل أيضًا في تعزيز الترابط الاقتصادي، وتوجيهِ رسالةٍ إيجابيةٍ إلى الليبيين مفادُها أن الاستقرارَ سيؤدي إلى مكاسبَ ملموسةٍ.
وبشكل عام، يمكن تلخيص أبرز مخرجات القمة في النقاط التالية:
التوافقُ على خطةٌ عمل مشتركة لمكافحة الهجرة غير النظامية، تشمل الجوانب الأمنية والإنسانية والتمويلية.
التأكيدُ على دعم العملية السياسية الليبية برعاية الأمم المتحدة، وصولًا إلى تنظيم الانتخابات في أقرب وقت ممكن.
تعميقُ التعاون في قطاع الطاقة، من خلال المضي قدمًا في مشاريع الاستكشاف والاستثمار في النفط والغاز، وضمان استقرار الإمدادات الحالية وخاصة إلى إيطاليا.
إطلاقُ مبادراتٍ في البنية التحتية كالموانئ والكهرباء لدمج ليبيا في الاقتصاد الإقليمي، مع بحث آليات تمويل مبتكرة بمشاركة دولية.
تشكيلّ آلية متابعة ثلاثية (ورباعية في بعض الملفات مع قطر)، لضمان استمرارية الزخم السياسي لهذه التفاهمات.