أفْرَزَتْ حرْبُ غزَّةَ ملامحَ تبايُنٍ واضحٍ داخلَ الموقفِ الأوروبيِّ، كان أبرزها تموْضع إسبانيا في موقعٍ مغايرٍ للاتجاه السائد الداعم لإسرائيل دون شروط، وعلى عكس الاكتفاء بتصريحات إنسانية تقليدية، تحرَّكت مدريد استنادًا إلى قناعات سياسية واجتماعية عميقة؛ لترجمة موقفها إلى خطواتٍ ملموسةٍ، بدْءًا من الاعتراف بدولة فلسطين ودعْم التحقيقات الدولية، وصولًا إلى المطالبة العلنية، بوقْف تصدير السلاح إلى تل أبيب، ويعكس هذا النَّهْج مَزِيجًا من الإِرْث السياسي المُؤَيِّد لحقوق الشعوب، والضغط الشعبي المحلي، إلى جانب سعْيها لتعزيز موقعها المستقل داخل الاتحاد الأوروبي؛ ومن ثَمَّ؛ بات الدورُ الإسبانيُّ في هذه الحرب جديرًا بالتقييم لمعرفة أبعاده، حدوده، وفرص استدامته.
الجذور السياسية للموقف الإسباني حِيَالَ القضية الفلسطينية:
منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، بدأت تتجلَّى تدريجيًّا مواقف إسبانية داعمة للقضية الفلسطينية، مدفوعة بعوامل سياسية وأخلاقية أكثر منها استراتيجية، خصوصًا مع التحوُّل الديمقراطي الذي شهدته البلاد بعد نهاية حِقْبَة “فرانكو”، وفي إطار سعْي مدريد لتأكيد دورها كدولة أوروبية حديثة تلتزم بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، شكَّلْ دعم القضية الفلسطينية إحدى الأدوات لترسيخ هذا النَّهْج، خاصَّةً مع صعود الأحزاب اليسارية، مِثْل “الحزب الاشتراكي العمالي”، الذي لَعِبَ دورًا مِحْوَرِيًّا في تبنِّي مواقف واضحة تِجَاهَ الحقوق الفلسطينية، وعلى الرَّغْم من الطابع الرمزي لهذه السياسات خلال فترات طويلة، إلَّا أن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين عام 2014 من قِبَلِ البرلمان –رغم عدم إلزامه للحكومة – عزَّزَ الطابع المؤسسي لهذا التوجُّه، ومنذ ذلك الحين، أصبحت مدريد تتخذ مواقف أكثر تقدُّمًا مقارنةً بدولٍ أوروبيةٍ أخرى في قضايا، مثل إدانة الإحتلال الإسرائيلي والتأكيد على “حلِّ الدولتين”، باعتباره الإطار الشرعي الوحيد للتسوية.[1]
إلى جانب العامل السياسي، كان للبيئة الاجتماعية والثقافية تأثيرٌ ملموسٌ على تشكيل الرأْي العام الإسباني تِجَاه القضية الفلسطينية؛ إذ تحتفظ إسبانيا بتقاليد فكرية يسارية وأكاديمية تُعارض الاستعمار والإمبريالية، وأسْهَمَتْ هذه التقاليد في إنتاج نُخَبٍ ثقافيةٍ وإعلاميةٍ داعمةٍ للحقوق الفلسطينية، علاوةً على ذلك، ساهم وجود الجاليات المسلمة والمغاربية – خاصَّةً المغربية – في رفْع مستوى الوعْي الشعبي حول عدالة القضية الفلسطينية؛ مما شكَّلَ ضغطًا اجتماعيًّا على صُنَّاع القرار لتبنِّي مواقف تتجاوز النَّهْج الأوروبي التقليدي المتسم بالصمت أو الحِيَاد تِجَاه السياسات الإسرائيلية، ولم يقتصر هذا التأثير على الجانب الرمزي، بل تُرْجِمَ إلى احتجاجات شعبية واسعة في مدن، مثل “مدريد وبرشلونة”، خصوصًا عقب الحروب السابقة على غزة، وقد دفعت هذه التحرُّكات الحكومات الإسبانية المتعاقبة إلى اتخاذ مواقف أكثر وضوحًا، ومع صعود قوى اليسار الراديكالي، مثل حزب “بوديموس”، تُعزِّزُ دعْم القضية الفلسطينية داخل النقاش البرلماني الرسمي؛ حيث تمَّ الانتقال من مجرد خطابات أخلاقية إلى طرْح مبادرات ملموسة، مثل “حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل ودفْع الحكومة للاعتراف الرسمي بدولة فلسطين”[2].
هذا التراكُم السياسي والاجتماعي عزَّزَ التصعيد في موقف إسبانيا خلال حرب غزة الجارية؛ حيث تجاوز الخطاب التقليدي المحايد الذي انتهجته العديد من الدول الأوروبية نحْو موقفٍ أكثر صراحةً وانحيازًا للحقوق الفلسطينية.
مواقف مدريد الرسمية إبَّان الحرب على غزة:
مع اندلاع الحرب في غزة، في 7 أكتوبر 2023، بدا أن إسبانيا تتبنَّى موقفًا مُتَحَفِّظًا تِجَاه التصعيد السريع للأحداث دون الانزلاق إلى الموقف التقليدي الموالي لإسرائيل الذي تبنَّتْه العديدُ من الدول الغربية، وبينما سارعت دول كُبْرَى، مثل “ألمانيا وفرنسا” إلى تقديم “دعم غير مشروط” لـ “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، اختارت مدريد لغةً أكثرَ اعتدالًا، داعيةً إلى التهدئة وضبْط النَّفْس مع التشديد على ضرورة الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيِّين في كلا الجانبيْن، غير أن هذا النَّهْج المتوازن لم يَدُمْ طويلًا؛ إذ بدأت النَّبْرَة الإسبانية في التغيُّر مع تصاعُد العُنْف، بما في ذلك المجازر في غزة، والتوسُّع في العمليات البرية الإسرائيلية واستخدام أسلوب “الأرض المحروقة”.
كان وزير الخارجية الإسباني “خوسيه مانويل ألباريس” من أوائل المسؤولين الأوروبيِّين الذين أعربوا علنًا عن قلقهم بشأن التزام إسرائيل بالقانون الدولي، مشيرًا إلى أن الرَّدَّ الإسرائيلي غير متناسبْ ووضع حماية المدنيين الفلسطينيين كأولويةٍ أخلاقيةٍ وقانونيةٍ مُلِحَّة.
التصريحات لم تكن منعزلةً؛ إذ إن شريحةً واسعةً داخل الحكومة الائتلافية، لا سيما من اليسار الراديكالي، دعمت هذا الطَّرْح وطالبت بوقْف تصدير الأسلحة لإسرائيل، واعتبرت سياسات الأخيرة في غزة جرائم حرب.[3]
التحرُّك السياسي بلغ ذروته، في مايو 2024، عندما أعلنت إسبانيا، بجانب أيرلندا والنرويج، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، في خطوةٍ أغضبت إسرائيل التي ردَّتْ باستدعاء سفراء هذه الدول، ووصفت القرار، بأنه “مكافأة للإرهاب”، رغم ذلك، دافع رئيس الوزراء الإسباني “بيدرو سانشيز” عن الخطوة، معتبرًا أنها ليست مُوَجَّهةً ضِدَّ أيِّ طَرَفٍ بل تُمثِّلُ استحقاقًا تاريخيًّا لتحقيق السلام، مُشدِّدًا على أن تأجيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية لعقود طويلة ساهم في تأجيج مشاعر الإحباط والعُنْف، على إثْرِ ذلك، اقترحت مدريدُ أن يتبنَّى الاتحاد الأوروبي موقفًا مُوَحَّدًا فيما يتعلق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية؛ بهدف تعزيز الضغط الدبلوماسي على إسرائيل ونقْل النقاش من “الاعتراف أو عدم الاعتراف” إلى مستويات سياسية أكثر تأثيرًا.[4]
وفي موازاة ذلك، أظهرت مدريدُ جرأةً واضحةً في مواقفها داخل المؤسسات الأوروبي؛، إذ صوَّتَتْ لصالح قرارات أممية تدين السياسات الإسرائيلية، وأيَّدَتْ تحقيقات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة في غزة، كما دعمت فتْح تحقيق حول استخدام التجويع كسلاح حرب، ورفضت ترويج رواية “الحقّ في الدفاع عن النفس”، باعتبارها ذريعةً لارتكاب جرائم جماعية، هذه المواقف وضعت إسبانيا في مواجهةٍ صامتةٍ مع بعض الحلفاء الأوروبيين، خاصَّةً ألمانيا التي كانت الأكثر انحيازًا للموقف الإسرائيلي، لكنها – في الوقت نفسه – عزَّزَتْ مكانة مدريد كطرف فاعل في إعادة تشكيل مقاربة أوروبية أقلّ تبعيةً لواشنطن وتل أبيب.[5]
على الصعيد الشعبي، شَهِدَتْ المُدُنُ الكُبْرَى في إسبانيا مَسِيرَات ضخمة مؤيدة لفلسطين ومناهضة لجرائم الحرب الإسرائيلية، ومَنَحَ هذا الزَّخَم الشعبي الحكومة غطاءً قويًّا لمواصلة مواقفها الجريئة، واستثمرت حكومة “سانشيز” هذا الدعم الداخلي لتعزيز خطاب إنساني يجمع بين الاعتراف الرسمي بفلسطين، رفْض الحرب أخلاقيًّا، ودعْم التحقيقات الدولية قانونيًّا.
وفي الجانب الإنساني، ركَّزَتْ مدريدُ على تقديم مساعدات عاجلة لغزة عبْر الوكالة الإسبانية للتعاون الإنمائي الدولي؛ حيث وصف وزير الخارجية “ألباريس” الوضْع في القطاع بـ”العار الجماعي”، مُحذِّرًا من تهديد الموت جُوعًا لعشرات الآلاف من الأطفال والرُّضْع، ودعا الحكومة الإسرائيلية إلى ضمان تدفُّق الإغاثة بشكلٍ دائمٍ وسريعٍ، هذه التحرُّكات لم تعُدْ مجرد تعبير عن التضامن، بل شكَّلَتْ نقْدًا واضحًا للمجتمع الدولي؛ بسبب تقاعُسِهِ عن اتخاذ خطوات حاسمة لوقْف الأزمة.[6]
حدود وفُرَص التأثير الإسباني في مسار الحرب:
بعد أن نجحت إسبانيا في فتْح نافذة سياسية للقضية الفلسطينية داخل المشهد الأوروبي، عبْر كسْر هيْمنة السَّرْدِيَّة الإسرائيلية على الموقف الغربي، يظلُّ السؤالُ المطروحُ، هو ما إذا كانت مدريد قادرةً على استثمار هذا الزَّخَم في صياغة تأثيرٍ عمليٍّ يُغيِّرُ من مسار الحرب أو يرسخ رُؤْيةً أوروبيةً أكثرَ توازُنًا تِجَاه الصراع.
بالنظر إلى الواقع، يُدرك صانع القرار الإسباني، أن وزْنَ بلاده داخل الاتحاد الأوروبي يُعتبرُ متوسطًا، وأن القرارات الكبرى تعتمد على التوافُق مع القوى الرئيسية، كـ”ألمانيا وفرنسا”، ومع ذلك، استطاع الموقف الإسباني – عبْر خطابٍ واضحٍ ودبلوماسيةٍ نَشِطَةٍ – أن يضع القضية الفلسطينية كبندٍ رئيسيٍّ على أجندة المناقشات الأوروبية، في وقتٍ كانت فيه القارَّة تميلُ إلى التركيز على قضاياها الداخلية أو السَّيْر وفْق النَّهْج الأمريكي، هذا الدور الإسباني خَلَقَ نَوْعًا من الضغط السياسي عن بعض العواصم الأوروبية، وأجبرها على اتخاذ موقفٍ علنيٍّ أو تقديم توضيحات؛ ما يعكس قدرة مدريد على التأثير في توجُّه الخطاب الأوروبي تَجَاه غزة، حتى وإن لم يصل ذلك بعْدُ إلى تغييرٍ عمليٍّ في السياسات.
على الصعيد الإقليمي، تُنظر إلى إسبانيا كطَرَفٍ غربيٍّ يتمتع باستقلالية نسبية عن دوائر القرار التقليدية، وقادر على بناء جسور مع العالم العربي والإسلامي، هذا التصوُّر يُتيح لمدريد فرصةً لتعزيز دورها كوسيطٍ مستقبليٍّ في المسار السياسي للحرب، خصوصًا إذا استثمرت في علاقاتها الوثيقة مع بلدان المغرب العربي، والسلطة الفلسطينية، وبعض الأطراف الإقليمية التي تبحث عن شركاء أوروبيين أقلّ انحيازًا لإسرائيل، ورغم محدودية نفوذها في المجالات الأمنية والعسكرية، فإن قدرتها على الدَّفْع بمبادرات سياسية وتوفير دعم أوروبي للمطالب المتعلقة بوقْف الحرب ورفْع الحصار تجعلها عُنْصرًا مهمًا في الحسابات الدبلوماسية.
في المقابل، تبقى حدود هذا الدور واضحةً؛ فإسبانيا لا تستطيع بمفردها فرْض تغييرٍ جذريٍّ في ميزان القوى العسكرية بغزة أو إجبار الأطراف الكبرى على تعديل مواقفها، خصوصًا مع الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل الذي يحدُّ كثيرًا من أيِّ جهود أوروبية – بما فيها الإسبانية – للحصول على نتائج فعَّالة، لكن أهمية التحرُّك الإسباني تكْمُنُ في قُدْرته على تشكيل سابقة سياسية يمكن البناء عليها، ضمن مواقف أكثر قوة داخل الاتحاد الأوروبي مستقبلًا؛ مما يُعيد صياغة صورة أوروبا أمام الرأْي العام العربي الذي غالبًا ما يُصَنِّفُ القارَّةَ كشريكٍ صامتٍ أو متواطئٍ مع الاحتلال.
انعكاسات الموقف الإسباني على العلاقات الإقليمية والدولية:
لم يمرّ الموقف الإسباني من حرب غزة دون تداعيات على شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، بل سُرْعَان ما تحوَّلَ إلى عنصرٍ فاعلٍ في إعادة تشكيل صورتها لدى أطراف متعددة، بعضها اعتبر هذا التوجُّه تعزيزًا لجسور الثقة، وبعضها الآخر قرأه كمُؤَشِّرٍ على ابتعاد مدريد عن الاصطفاف الغربي التقليدي.
فيما يتعلق بعلاقات مدريد مع إسرائيل، جاءت تصريحات رئيس الوزراء “بيدرو سانشيز”، التي أدانت استهداف المدنيين في غزة والحصار المفروض عليها؛ لتُثير أزمة دبلوماسية هي الأشدّ في السنوات الأخيرة؛ حيث قامت تل أبيب بسحْب سفيرها من مدريد كإجراءٍ احتجاجيٍّ، وردَّتْ الحكومة الإسبانية بالمِثْل، معلنةً تجميد التواصُل السياسي القائم بين البلديْن، هذه التطوُّرات تُشيرُ إلى أن مدريد انتقلت من مرحلة الانتقاد الدبلوماسي إلى ما يمكن اعتباره مواجهةً سياسيةً واضحةَ المعالم، ورغم أن العلاقات لم تصِلْ إلى حَدِّ القطيعة التَّامَّة، إلَّا أن التعاون الأمني والعسكري بين الطرفين أصبح أكثر تعقيدًا، وفتحت هذه الأحداث الباب أمام احتمالات استمرار التوتُّر مع استمرار جرائم الحرب الاسرائيلية على غزة.[7]
على صعيد العلاقات مع واشنطن، وضع الموقف الإسباني الإدارة الأمريكية أمام تحدٍّ مزدوجٍ، فمن جهةٍ، تُعَدُّ إسبانيا شريكًا أساسيًّا في الناتو ولها وزنٌ جيوسياسيٌّ مهمُّ في البحر المتوسط، ومن جهةٍ أُخرى، تتخذ موقفًا يبدو منفصلًا عن الإجماع الغربي المؤيد بلا تحفُّظٍ لإسرائيل، وحتى اللحظة، تتعامل الولايات المتحدة مع هذا التحوُّل باعتباره “استثناءً قابلًا للاحتواء” داخل البيت الأوروبي، لكن إذا تحرَّكت مدريدُ نحو خطوات أُخرى ملموسة؛ فربما تجدُ نفسها تحت وطأةٍ الضغوط الأمريكية المباشرة، خصوصًا إذا أدَّى موقفها إلى تأثيرٍ ممتدٍّ داخل أوروبا.
على المستوى الإقليمي، مهَّدَ الموقف الإسباني الطريق لتعزيز علاقتها مع الدول العربية، خاصَّةً في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وقد لَقِيَ الخطاب الرسمي الإسباني ترحيبًا من دول، مثل “الجزائر والمغرب ومصر”؛ حيث رأت فيه فرصةً لتوسيع نطاق التعاون السياسي والدَّفْع بالقضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
أمَّا العلاقات مع المغرب؛ فهي تخضع لاعتبارات مُعقَّدة، تتعلق بقضايا مثل “الصحراء الغربية والهجرة”، لكن تبنِّي مدريد لموقف أكثر انسجامًا مع الطَّرْح العربي بشأن غزة قد يفتحُ الباب لتفاهمات جديدة، ويمنحها أدواتٍ إضافيةً للتفاوض حول ملفاتٍ مشتركةٍ.
على المستوى الدولي، استفادت إسبانيا من هذا الموقف لترسيخ صورتها كدولة غربية تمتلك استقلالية في صُنْع القرار الخارجي وتسعى للالتزام بالقانون الدولي والشرعية العالمية، هذه الصورة أكسبتها دعْمًا معنويًّا من دول العالم الداعمة منها للقضية بشكلٍ عامٍ، وفي المجتمعات العربية والإسلامية بشكلٍ خاصٍ، ومنحتها مساحةً أكبرَ للتحرُّك في قضايا الشرق الأوسط الحسَّاسة، مِثْل “الوساطات السياسية أو محاولات التهدئة”، ومع ذلك، يبقى تحقيق فعالية طويلة الأمد مرتبطًا بمدى قدرة مدريد على بناء تحالُفات مستدامة تدعم رُؤْيتها وتجعلها بمنأى عن العُزْلة داخل الاتحاد الأوروبي أو أمام ضغوط الشركاء الأطلسيِّين.
الخاتمة:
من خلال تتبُّع جذور الموقف الإسباني وتطوُّراته أثناء حرب غزة، يتضح أن مدريد تجاوزت اعتبارَ الحرب مجرد أزمة إنسانية عابرة أو ملفًا سياسيًّا بعيدًا عن دوائر نفوذها، بل بوصفه ساحة اختبار لمصداقية خطابها الخارجي وقدرتها على اتخاذ مواقف تتخطَّى القالب التقليدي الأوروبي.
فقد امتزجت السياسة الإسبانية بموروث تاريخي يميل لدعم قضايا التحرُّر، مع قاعدةٍ شعبيةٍ نَشِطَةٍ تُحفِّزُ على مواقف أكثر جرأةً، وقيادة حكومية استثمرت هذا الزَّخَم لترسيخ صورة إسبانيا كصوتٍ مستقلٍّ نِسْبِيًّا في المنظومة الغربية.
وعلى الرَّغْم من أن أدوات التأثير الإسباني في مُجْرَيات الحرب أو صياغة القرارات الأوروبية تظلُّ محدودةً بفِعْل موازين القوى، إلَّا أن قدرتها على إبراز القضية الفلسطينية كمحورٍ رئيسيٍّ في النقاشات الأوروبية، وتحويل نقْد إسرائيل من خطابٍ هامشيٍّ إلى جُزْءٍ أساسيٍّ من المداولات الرسمية، يُعَدُّ إنجازًا سياسيًّا ملحوظًا.
هذه الجهود لا تعبِّرُ فقط عن موقفٍ أخلاقيٍّ ولكن تتضمَّنُ بُعْدًا براغماتيًّا، يظهر في إدراك مدريد، أن الانحياز لمبادئ القانون الدولي يُعزِّزُ موقعها ضِمْنَ محيطها المتوسطي ويمنحها أوراقًا إضافيةً في علاقاتها الإقليمية.
بناءً عليه، يمكن القول:إن قيمة الموقف الإسباني تكْمُنُ في نجاحه في خلْق “مساحة سياسية” داخل أوروبا لصالح القضية الفلسطينية، وهي مساحة قابلة للتوسُّع أو التضييق، وفْقًا لقدرة مدريد على تحويل خطابها إلى أدوات ضغط وتحالفات عملية، وإذا أحسنت إدارة هذا المشهد، فقد تُمثِّلُ حرب غزة نقطة تحوُّلٍ لتأسيس دورٍ إسبانيٍّ متميزٍ كفاعلٍ أوروبيٍّ مختلفٍ في قضايا الشرق الأوسط، بَدَلاً من أن تبقى مجرد محطَّة خطابية عابرة، في ظِلِّ الضغوط الأمريكية والأوروبية التقليدية.
[5] Albares rejects an “illegal annexation” of Gaza and admits that “Europe has done too little, too late”, La sexta, Aug 2025. https://linksshortcut.com/yaHUe
[6] إسبانيا تتحرك لإنقاذ غزة: مساعدات إنسانية مرتقبة وتصف الوضع بـ “العار”، اليوم السابع، يوليو 2025.
