المقالات
قراءة في آفاق العلاقات الأمريكية – المصرية: توازن المصالح في ظل السياسة الخارجية لترامب
- أغسطس 9, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد: إسراء عادل
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
تُعدُ العلاقاتُ الأمريكيةُ المصرية إحدى الركائز الثابتة في معادلات الاستقرار الإقليمي والسياسة الدولية، إذ تشكّلُ نموذجاً لشراكةٍ استراتيجيةٍ طويلة الأمد ترتكز على مصالحَ متشابكةٍ وتفاهماتٍ متراكمةٍ. ورغم تبدل الإدارات في واشنطن وتغير أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، تظلُ العلاقةُ مع مصر محكومةً بمنظومةٍ من الثوابت الاستراتيجية التي لم تتأثرْ كثيراً بعوامل التغيير. فقد رسّخت مصر مكانتها كحليفٍ موثوقٍ للولايات المتحدة بفضل موقعها الجيوسياسي الحيوي ودورها الفعال في قضايا الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب، إلى جانب التزامها باتفاقيات السلام والاستقرار في المنطقة.
وفي ظلِّ تعقّدِ المشهد الدولي وتزايدِ التنافسِ بين القوى الكبرى، تبرزُ أهميةُ العلاقة بين القاهرة وواشنطن بوصفها ركيزةَ توازنٍ إقليميٍ، تستند إلى مصالحَ متبادلةٍ تجعل من مصر شريكاً لا غنى عنه في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية، بصرف النظر عن طبيعة الإدارة الحاكمة في البيت الأبيض أو السياقات الدولية الطارئة. ومن هنا يبرز السؤال الرئيسي: إلى أي مدى تشكّلُ الثوابت الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ومصر ضمانةً لاستمرار العلاقات بين الجانبين في ظل التحولات الدولية المتسارعة وتبدل أولويات السياسة الخارجية الأمريكية؟
أولاً: المحددات الحاكمة للعلاقات الأمريكية – المصرية
تستندُ العلاقاتُ بين الولايات المتحدة ومصر إلى مجموعةٍ من المحددات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية التي أسهمت في تشكيل مسارات التفاعل بين البلدين على مدى عقود. ورغم اختلافِ الإدارات في واشنطن وتباين أولوياتها، فإن هذه العلاقات تظلُ قائمةً على أسسٍ ثابتةٍ تحكمها مصالحُ متبادلةٌ وحساباتٌ جيوسياسيةٌ دقيقة، لتشكّل الهيكل الأساسي للشراكة بين الطرفين. ويمكن تحديد أبرز هذه المحددات على النحو التالي:
التعاون في مكافحة الإرهاب: يُعد التعاون الأمنيُ والعسكريُ في مواجهة الإرهاب أحد أبرز ركائز العلاقات الأمريكية – المصرية، حيث تنظر واشنطن إلى القاهرة بوصفها شريكاً موثوقاً في التصدي للتنظيمات الإرهابية المتطرفة، نظراً لموقعها الجغرافي الحيوي وحدودها المترامية مع بؤر التوتر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد تعزّزَ هذا التعاون منذ عام 2013، مع تبنّي مصر سياسةً أمنيةً صارمةً تجاه هذه التنظيمات خاصةً في شمال سيناء. وفي هذا السياق، قدمت الولايات المتحدة دعماً فنياً ولوجستياً للقوات المصرية، شَمُلَ تبادلَ المعلومات الاستخباراتية وتحديثَ قدراتِ الجيش المصري، إلى جانب التعاون المشترك في تأمين الحدود، بما يخدم مصالح الطرفين في تعزيز الاستقرار الإقليمي والتصدي للتهديدات العابرة للحدود.[1]
الطاقة وممرات الملاحة: تمثّل مصر نقطةَ ارتكازٍ مهمة في حسابات واشنطن المتعلقة بأمن الطاقة وحركة التجارة العالمية، بفضل موقعها الاستراتيجي وتحكّمِها في قناة السويس التي تُعدُ من أهم الممرات الملاحية الدولية. وقد ازدادت أهمية مصر في هذا السياق مع تحوّلها إلى مركزٍ إقليميٍ لتسييل وتصدير الغاز، لا سيَّما في ظل التوترات المتكررة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، مما يشكّلُ دافعاً أساسياً للولايات المتحدة لتعزيز التعاون مع القاهرة لضمان استقرار تدفقات الطاقة وتأمين خطوط الملاحة الحيوية.
المصالح الاقتصادية والتجارية: تلعبُ المصالحُ الاقتصادية دوراً مهماً في تعزيز العلاقات المصرية – الأمريكية، حيث تُعد الولايات المتحدة أحد أكبر الشركاء التجاريين لمصر، وتغطي الاستثماراتُ الأمريكيةُ قطاعاتٍ حيويةً مثل الطاقة، البنية التحتية، التكنولوجيا، والصناعات الغذائية. كما يُعد السوق المصري نقطةَ جذْبٍ للشركات الأمريكية الراغبة في التوسع نحو إفريقيا والشرق الأوسط، في حين تستفيد مصر من نقل التكنولوجيا، وتسهيل الوصول إلى الأسواق الدولية، وبرامج الدعم الفني والتمويل.
الدور الإقليمي لمصر: تتمتعُ مصر بثِقَلٍ سياسيٍ وتاريخيٍ في المنطقة، وهو ما يجعلها فاعلاً محورياً في ملفاتٍ إقليميةٍ معقّدةٍ مثل القضية الفلسطينية والأزمة الليبية والتطورات في البحر الأحمر. وقد يُشكّل هذا الدور ركيزةً مهمةً في إدراك الولايات المتحدة لمكانة مصر، إذ تحرصُ واشنطن على إبقاء مصر ضمن دائرة شركائها لضمان إدارة هذه الملفات بما يخدم الاستقرار الإقليمي ويحققُ التوازنَ مع مصالحها في المنطقة.
التحولات الدولية وموازين القوى: تتأثر العلاقات المصرية – الأمريكية بالتحولات الجارية في النظام الدولي، خاصةً مع تصاعد نفوذ قوى دولية كبرى مثل الصين وروسيا، واتجاه بعض الدول إلى تنويع شراكاتها الاستراتيجية معهم في مجالاتٍ تشمل الدفاع والطاقة والاقتصاد. وفي هذا السياق، تحرص واشنطن على الحفاظ على موقعها داخل معادلةِ النفوذ في الشرق الأوسط، من خلال تعزيز علاقاتها مع القاهرة ضمن معادلةِ ردْعِ التغلغل الاستراتيجي للقوى المنافسة.
ثانياً: ديناميكيات السياسة الخارجية الأمريكية وانعكاساتها على مصر
اتّسمت السياسةُ الخارجيةُ الأمريكيةُ خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب الثانية بمزيجٍ من البراغماتية والتعامل الانتقائي مع الأزمات الدولية، مع تركيزٍ واضحٍ على المصالح القومية المباشرة للولايات المتحدة، لا سيَّما في مجالات الأمن والتجارة ومواجهة القوى المنافسة كروسيا والصين. وقد مثّلت هذه الرؤية امتداداً جزئياً لنهْجِ ترامب في ولايته الأولى، لكنها جاءت في سياقٍ دوليٍ أكثرَ تعقيداً، فرضَ مستجداتٍ جديدةً على أولويات السياسة الأمريكية، خصوصاً مع تصاعد الأزمات في أوكرانيا وغزة والبحر الأحمر، إلى جانب استمرار الملفات المفتوحة في ليبيا وسوريا واليمن والسد الإثيوبي. وفي ضوء هذه المتغيرات، أعادت واشنطن ضبط أدوات سياساتها الخارجية تجاه تلك الأزمات الراهنة، مما تركَ انعكاساتٍ مباشرةً وغيرَ مباشرة على المصالح المصرية. وذلك على النحو التالي:
– الحرب الروسية الأوكرانية: تتبنّى الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب الثانية مقاربةً أكثر براغماتية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية، تقوم على الاستمرار في تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا دون الانزلاق في مواجهةٍ مباشرةٍ مع موسكو، مع السعي لفتْحِ مساراتٍ تفاوضيةٍ عبر وساطاتٍ إقليميةٍ. وفي هذا الإطار، دعمت واشنطن مبادرات وساطة غير مباشرة، كان أبرزُها اللقاءاتِ التي رعتها السعودية بين وفودٍ روسيةٍ وأوكرانيةٍ، إلى جانب لقاءٍ مباشرٍ جمعَ ترامب بالرئيس زيلينسكي في مطلع عام 2025، ضمن صفقة أوسع تشمل التعاون في مجال المعادن النادرة مقابل خفض التصعيد. ولكن على أرض الواقع لم يحرزٍ أي تقدمٍ ملموسٍ في هذا الملف وقد يعكس هذا الفشل سوء تقدير لحجم وتعقيد الأزمة، فضلاً عن رغبة ترامب في استثمارها سياسياً دون نيةٍ حقيقيةٍ لإنهائها لتحقيق مصالح اقتصادية هامة.
وقد انعكست هذه السياسات على مصر، باعتبارها دولةً تسعى إلى الحفاظ على توازنٍ دقيقٍ في علاقاتها مع كلٍ من واشنطن وموسكو. فقد مارست واشنطن خلال السنوات الماضية، ضغوطاً على القاهرة لتقليص تعاونها الدفاعي مع روسيا خاصةً في مجال التسليح، وذلك ضمن سياسةٍ أمريكيةٍ تهدف إلى الحدٌّ من النفوذ الروسي لدى الشركاء التقليديين للولايات المتحدة. ورغم تراجع حدّةِ هذه الضغوط نسبياً في إدارة ترامب الثانية، إلا أن ملفَ العلاقات المصرية – الروسية لا يزالُ يخضع لرقابةٍ أمريكيةٍ، لا سيَّما فيما يتعلق بالمشتريات العسكرية ومشروعات الطاقة.[2]
ومن جهةٍ أخرى، أتاحَ التوجّهُ الأمريكي الداعم للشركاء الإقليميين في إدارة التوازنات، فرصةً دبلوماسيةً لمصر للمشاركة في مسارات الوساطة انطلاقاً من دورها التقليدي كطرفٍ متوازنٍ في السياسة الدولية. وعليه، فإن السياسةَ الأمريكيةَ تجاه هذه الأزمة فرضت على مصر إعادة ضبط توازناتها الاستراتيجية بعنايةٍ، للحفاظ على علاقتها الوثيقة بواشنطن دون التفريط في الشراكة مع موسكو.
– السياسات الحمائية تجاه الصين: واصلت إدارة ترامب الثانية تبنّي نهجاً تصادمياً تجاه الصين يرتكز على فرضِ رسومٍ جمركيةٍ مشددةٍ، وتشديد القيود على سلاسل الإمداد والتصدير والاستثمار في قطاعات التكنولوجيا والطاقة. ويأتي هذا التوجّهُ في إطار استراتيجيةٍ أوسع تهدف إلى تقليص الاعتماد الأمريكي على الاقتصاد الصيني، وكبح طموحات بكين التوسعية تجارياً وتقنياً.
وقد تركت هذه السياسات انعكاساتها على مصر التي وجدت نفسها أمام توازنٍ معقّدٍ في ظل احتدام التنافس بين واشنطن وبكين، إذ تسعى القاهرة للحفاظ على شراكتها مع الولايات المتحدة، دون إضعاف تعاونها الاقتصادي والتنموي المتزايد مع الصين، خاصةً في مشروعات البنية التحتية والطاقة. كما ساهمت الضغوط الأمريكية على بكين في دفع الأخيرة إلى توسيع نطاق حضورها في دول الجنوب العالمي ومن بينها مصر، عبر تعزيز التمويلات والاستثمارات كجزءٍ من مبادرة “الحزام والطريق”، وهو ما تعتبره واشنطن مجالاً يستدعي رقابة وتوازناً حذراً. وعليه، فقد فرضت هذه السياسات على مصر إدارةً حذِرةً لعلاقاتها الاقتصادية مع الطرفين، بما يحفظ موقعها في المبادرات الصينية الكبرى، دون الإضرار بعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن التي لا تزال شريكاً تجارياً وأمنياً رئيسياً.[3]
– أزمات الشرق الأوسط: رغم تعهدات الرئيس ترامب في ولايته الثانية بإنهاء الحروب في الشرق الأوسط وإحلال السلام في العالم، فإن الواقعَ أظهر استمرار التوترات وتعقيدَ الأزمات الإقليمية، حيث اتّسمت إدارته بالتعامل الانتقائي والتصريحات المتناقضة مع تغليب المصالح الأمريكية على الحلول الشاملة. وقد أدّى هذا النهجُ إلى إطالة أمد تلك الأزمات بدلاً من تسويتها، الأمرُ الذي ألقى بظلاله القاتمة على الأمن والاستقرار في المنطقة ككل، وعلى المصالح المصرية خصوصاً، نظراً لارتباط الأمن القومي المصري بتلك الملفات. وذلك على النحو التالي:
الحرب في غزة: واصلتْ الإدارةُ الأمريكيةُ دعمها غير المشروط لإسرائيل، سواء عبر الدعم العسكري المباشر أو من خلال الصمت تجاه الممارسات الإسرائيلية في غزة، بما في ذلك العمليات العسكرية التي وصفت بأنها تطهيرْ عرقيْ غير مسبوقٍ. مع تجاهل المطالب الفلسطينية ورفض أي مسار تفاوضي متوازن.
وقد انعكست هذه السياسات على مصر، حيث زادَ الانحيازُ الأمريكيُ لإسرائيل من تعقيد جهود الوساطة المصرية، وأضعف فاعليةَ الدور المصري في التهدئة، كما أدّى إلى ارتفاع التوترات على حدود مصر الشرقية، وزيادة العبء السياسي والإنساني على القاهرة التي وجدت نفسها تتحمل مسؤولية احتواء الانفجار الإقليمي دون دعمٍ دوليٍ فعالٍ، وبين الحفاظ على شراكاتها الاستراتيجية مع واشنطن. وفي ظل هذه المعادلة، تسعى مصر للحفاظ على قنوات التواصل مع واشنطن باعتبارها طرفاً فاعلاً في ملف التسوية، بما يضمنُ الاستقرارَ الإقليميَ والأمنَ القوميَ المصريَ ويحفظ الدور المصري الحيوي في الملف الفلسطيني.
الأزمة الليبية: خلال ولاية ترامب الأولى، تبنّت إدارته سياسة أكثر تحفظاً تجاه الأزمة الليبية؛ ركزت على ضمان استقرار المنطقة ومكافحة الإرهاب دون اتخاذِ خطواتٍ حاسمةٍ، أو تدخلٍ مباشرٍ في الصراع السياسي الداخلي.[4] ومع بداية ولايته الثانية عام 2025، بدا أن السياسة الأمريكية تجاه ليبيا ما زالت تفتقرُ إلى رؤيةٍ واضحةٍ أو انخراطٍ فعالٍ في مسار الحل السياسي، ومالت في بعض الأحيان إلى غضٌّ الطرف عن التدخلات الإقليمية والدولية المتزايدة، خصوصاً من قِبلِ تركيا وروسيا، الأمرُ الذي أفسح المجال أمام تعقيد المشهد الليبي وتوسيع دائرة الفاعلين، مما أثر سلباً على فرص الاستقرار.[5]
ومثّل غيابُ الدور الأمريكي الفعال تحدياً كبيراً بالنسبة لمصر التي تعتبر ليبيا عمقاً أمنياً واستراتيجياً مباشراً لأمنها القومي، فقد وجدت القاهرة نفسها أمام أعباء أكبر لضبط حدودها الغربية ومنع تمدد الفوضى، في ظل تنامي نفوذ الفصائل المسلحة المدعومة خارجياً. كما اضطرت القاهرة إلى تعزيز وجودها السياسي والعسكري على حدودها، في ظل غياب الدعم الأمريكي الفعال للمطالب المصرية بضبط التدخلات الخارجية.
الأزمة السورية: اتّسمتْ السياسة الأمريكية تجاه سوريا خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، بانسحابٍ نسبيٍ من الساحة مع تركيزٍ واضحٍ على مكافحة الإرهاب، وتجنّبِ الانخراط المباشر في مسار التسوية السياسية، مما جعل الموقف الأمريكي متذبذباً وغير حاسم. أما في ولايته الثانية، فقد شهدت سياسته تجاه سوريا تحولاً ملحوظاً نحو ما يمكنُ تسميتهُ بالانفتاح المشروط، حيث أعلن ترامب عزمه تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا لمنحها فرصةً لفتْحٌ صفحةٍ جديدةٍ. وجاء هذا التحولُ في إطارِ دعمٍ خارجيٍ متدرجٍ للحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، مع الإبقاء على القيود المفروضة على رموز النظام والكيانات الإرهابية. وفي خطوة لافتة، أصدرت الإدارة الأمريكية أمراً تنفيذياً في نهاية يونيو يقضي برفع معظم العقوبات الاقتصادية، معتبرة أن ذلك يهدف إلى دعم إعادة الإعمار وتعزيز الاستقرار، في مؤشرٍ على عودةٍ تدريجيةٍ للاهتمام الأمريكي بالملف السوري، لكن ضمن حساباتٍ استراتيجيةٍ ضيقةٍ ومشروطةٍ.[6]
وقد وضع هذا التحول في السياسات الأمريكية تجاه الملف السوري، القاهرة أمام واقعٍ استراتيجيٍ جديدٍ، حيث يُتاح لها المجال للتعاون في جهود إعادة الإعمار والدفع باتجاه استقرار الدولة السورية، وتحاولُ مصر استثمار هذا الانفتاح المشروط لدعم رؤيتها في وحدة سوريا ومكافحة الإرهاب دون أن يشكّلَ ذلك تعارضاً مع مصالحها الاستراتيجية وعلاقاتها الأمنية القائمة مع واشنطن.
الأزمة اليمنية: اعتمدتْ إدارة ترامب سياسةً أكثر تصعيداً تجاه الملف اليمني، مركّزةً على البعد الأمني ومواجهة الحوثيين. ففي يناير 2025، أعادت واشنطن تصنيف جماعة الحوثيين كمنظمةٍ إرهابيةٍ أجنبيةٍ، مما مهّد لتوسيع العقوبات الاقتصادية والمالية ضدها. ومع تصاعد هجمات الحوثيين على السفن الأمريكية في البحر الأحمر، أطلقت الإدارة حملةً عسكريةً واسعةً في مارس 2025، استهدفت مئات المواقع العسكرية الحوثية في صنعاء وصعدة والحديدة. وعلى الرغم من هذا التصعيد، اتجهت الإدارة الأمريكية لاحقاً نحو احتواء الموقف، إذ أعلنت في مايو 2025 عن وقْفٍ مؤقتٍ للضربات الجوية عَقِبَ اتفاقٍ غير مباشرٍ بوساطة سلطنة عُمان، يقضي بوقف الهجمات الحوثية على المصالح الأمريكية مقابل وقف العمليات العسكرية الأمريكية.[7]
وقد أثرت سياسة ترامب التصعيدية في اليمن على أمن البحر الأحمر، وهو ما يهم مصر مباشرة نظراً لموقعها الاستراتيجي وسيطرتها على مضيق باب المندب عبر قناة السويس. فقد أدت الضربات الأمريكية إلى زيادة التوترات في الممرات البحرية، مما أثار المخاوف المصرية من تهديد حركة الملاحة والتجارة الدولية. كما أن تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية خلق حالة من الحرج الدبلوماسي لمصر التي تسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف اليمنية في إطار دعمها لحل سياسي شامل للأزمة.
الملف الإيراني: اتبعت إدارة ترامب نهجاً تصعيدياً تجاه طهران، استكمالاً لسياسة “الضغط الأقصى” التي تبناها منذ ولايته الأولى، وذلك في إطار مَساعٍٍ لخنْقِ الاقتصاد الإيراني وخفْضِ صادراته النفطية إلى الصفر، بهدف إجبار إيران على وقف برنامجها النووي وتقليص نفوذها الإقليمي. وجاء ذلك عبر توقيع مذكرةٍ رئاسيةٍ لتكثيف العقوبات، وتوجيه تحذيرات مباشرة لطهران جمعت بين الدعوة لمفاوضاتٍ جديدةٍ وتهديداتٍ ضمنيةٍ بإمكانية اللجوء للخيار العسكري. ورغم هذا التصعيد، حرصَ ترامب على تأكيد أن هدفه ليس الحرب، بل فرض شروطٍ تفاوضيةٍ أكثر صرامةً تجبر طهران على تقديم تنازلاتٍ جوهريةٍ في الملف النووي والتدخلات الإقليمية.
وأدّت السياسات الأمريكية إلى زيادة حالة التوتر في الخليج، مما يهدد استقرار المنطقة الاقتصادية والأمنية التي تعتمد عليها مصر في علاقاتها الاقتصادية والطاقة وتحويلات العاملين بالخارج. ومع ذلك حرصت مصر دائماً على تجنّب الانخراط في أي محورٍ صداميٍ مباشرٍ، متمسكةً بموقفٍ متوازنٍ يضمن عدم تهديد استقرارها أو مصالحها الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
– ملف السد الإثيوبي: تبنّت الإدارةُ الأمريكية موقفاً متوازناً تجاه أزمة السد الإثيوبي، فقد أكد الرئيس ترامب في عدة تصريحاتٍ علنيةٍ عن دعمه لمصر وسعيه للتوصل إلى حلٍ سريعٍ لهذه المسألة، مشدداً أن حياةَ المصريين تعتمد على مياه نهر النيل، كما وجّه انتقاداتٍ علنيةً لسياساتٍ أمريكيةٍ سابقةٍ تتعلق بتمويل الولايات المتحدة للسد الإثيوبي، في رسالة تضمنّت حمايةً رمزيةً لمصالح مصر المائية. وفي المقابل رحّبت مصر بهذه التصريحات، ووصف الرئيس عبد الفتاح السيسي هذه المواقف بأنها تعكس “جدية واشنطن في بذل الجهود لتسوية النزاعات ووقف الحروب”، مُعتبراً أنها تمثّلُ دعماً دبلوماسياً لحماية الأمن المائي المصري، ومُقدراً حرص الرئيس ترامب على التوصل إلى اتفاقٍ عادلٍ يحفظُ مصالح الجميع حول السد الإثيوبي.[8]
وقد انعكست سياسات ترامب تجاه ملف السد الإثيوبي، إيجابياً على مصر، حيث سعت القاهرة إلى استثمار هذه التصريحات لتحسين موقعها التفاوضي، دون أن تشكّلَ تحولاً ملموساً على الأرض. كما دفعت هذه المعطيات القاهرة إلى التركيز على ملف الوساطة الدولية والبحث عن مصادر دعم إضافية لتدعيم موقفها. ولكن رغم ذلك تظلُ فاعليةُ هذا الدعم رهناً بترجمته إلى خطواتٍ عمليةٍ من خلال الضغط على أديس أبابا أو تقييد الدعم الدولي الموجه للسد.
ثالثاً: آفاق المشهد القادم للعلاقات الأمريكية – المصرية
رغم ما قد يشوبُ العلاقاتٌ بين القاهرة وواشنطن من تبايناتٍ في بعض الملفات، وعلى رأسها الدعمُ الأمريكيُ المستمرُ لإسرائيل، فإن العلاقات بين البلدين تظلُ محكومةً بقدرٍ كبيرٍ من البراغماتية والتشابك الاستراتيجي، مما يجعل من سيناريو القطيعة بين الطرفين خياراً غير واقعيٍ. فقد أثبتت مصر عبر العقود الماضية قدرتها على الحفاظ على علاقاتها المتوازنة مع مختلف القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، دون التفريط في استقلالية قرارها السياسي. كما تدركُ واشنطن من جانبها أهميةَ الدور المصري المحوري في ضمان استقرار الشرق الأوسط، ومكافحة الإرهاب، وتأمين الممرات المائية الحيوية. وعليه، تبدو العلاقة بين الجانبين مرشحةً للاستمرار حتى وإن اتسمت أحياناً بالتوتر، في ظل التوازن الدقيق بين المصالح المشتركة والاختلافات المرحلية.
وفي ضوء المعطيات الراهنة، يُرجّح أن يستمرَ مسار العلاقات الأمريكية – المصريةُ في إطارٍ من الشراكة الحذرة، بحيث تواصلُ القاهرة وواشنطن التنسيق في ملفاتٍ أمنيةٍ واستراتيجيةٍ كملف مكافحةِ الإرهاب وأمن البحر الأحمر وقضايا الطاقة، مع بقاء بعض نقاط الخلاف قائمة مثل الموقف المصري من الحرب الاسرائيلية على غزة.
وبناءً عليه، فإن السيناريو الأقرب للتحقق يتمثل في الاستمرار في إدارة الخلافات ضمن إطار المصالح المتبادلة، دون أن تصلَ إلى مستوى القطيعة أو التحالف المطلق. فكلا الجانبين يدرك أن خسارةَ العلاقة ستُحدث فراغاً يصعبُ ملؤه في معادلات الإقليم. وبالتالي ستظل العلاقات بين الطرفين محكومةً بمنطق الارتباط الواقعي، لا التحالف المطلق ولا القطيعة الكاملة، وهو ما يضمن قدراً من الاستمرارية رغم اختلاف الحسابات أحياناً.
ختاماً يمكن القول، إنه في ضوءِ التحولات الجارية في السياسة الخارجية الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية، وتفاعلاتها مع ملفاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ حساسةٍ، يتضح أن العلاقاتِ المصرية – الأمريكية تمر بمرحلة من الاختبار البراغماتي. ورغم التباينات الظاهرة، تؤكد قراءة المشهد أن كلاً من القاهرة وواشنطن لا تملكُ خيار التخلّي عن الأخرى، بفعل تشابك المصالح وتقاطعات الأمن الإقليمي.
وعليه، يُرجح أن تبقى العلاقة بين الطرفين محكومةً بمعادلةٍ دقيقةٍ تقومُ على موازنة المصالح الاستراتيجية مع إدارة نقاط الخلاف، في إطار من التنسيق الحذر والتعاون الانتقائي. وهو ما يجعلُ مستقبلَ العلاقاتِ مرهوناً بقدرة الجانبين على استيعاب التحولات وتوظيفها دون المساس بجوهر الشراكة.
المصادر:
[1] CITADEL،عقود من التعاون العسكري بين مصر والولايات المتحدة تشكل إطارا أمنيا دائما، 6 ديسمبر 2023، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/TpGtN
[2] إيلاف، هل تبتعد القاهرة عن واشنطن؟.. التعاون العسكري بين مصر وروسيا والصين يغيّر قواعد اللعبة، 17 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/DOpgV
[3] باسم لطفي، العلاقات المصرية بين الصين وأمريكا.. ضرورة استراتيجية في عالم متعدد الأقطاب، البورصة، 7 مايو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/NIVU
[4] رضوى الشريف، الأزمة الليبية في عهد ترامب: بين حسابات النفوذ الدولي والمصالح الإستراتيجية، مركز شاف لتحليل الازمات والدراسات المستقبلية، 4 ديسمبر 2024، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/xkQIW
[5] إدريس أحميد، التحرك الأمريكي في ليبيا: مصالح متجددة في ظل إدارة ترامب الثانية، نيوز رووم، 28 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/mdrmj
[6] وائل علوان، لماذا رفع ترامب العقوبات عن سوريا الآن؟، الجزيرة، 2 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/TtMZb
[7] Steve Holland, Jarrett Renshaw, Jaidaa Taha and Menna Alaaeldin, Trump announces deal to stop bombing Houthis, end shipping attacks, Reuters, May 7, 2025, Available at: https://linksshortcut.com/KsTCY
[8] سكاي نيوز عربية، السيسي يرد على تصريحات ترامب بشأن “سد النهضة”، 15 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/rGSyc