تُمثِّلُ الأحزابُ الحريديةُ، وعلى رأسها “شاس” و”يهدوت هتوراه” و”نوعام”، أحد أكثر الكُتَل السياسية نفوذًا في إسرائيل رغم محدودية حجمها الديموغرافي، فثقلها البرلماني وقدرتها على ترجيح كفَّة أيِّ ائتلاف حكومي يجعلانها لاعبًا حاسمًا في رسْم السياسات الداخلية، لا سيما في القضايا الدينية والاجتماعية الحسَّاسة، مثل “الإعفاء من الخدمة العسكرية وتمويل المؤسسات الدينية”، كما شكَّلَتْ هذه الأحزاب تاريخيًّا ركيزةً للتحالفات اليمينية، خصوصًا مع صعود التيار الاستيطاني، وأصبح دعمها عنصرًا شِبْه إلزامي لأيِّ حكومة تسعى للاستمرار.
لكن هذا الثقل تحوَّل مؤخرًا إلى مصدر تهديد لاستقرار حكومة بنيامين نتنياهو؛ إذ شهد منتصف يوليو الماضي، أزمةً سياسيةً غير مسبوقة مع إعلان “يهدوت هتوراه” و”نوعام” الانسحاب الكامل من الحكومة، في حين غادر “شاس” الحكومة مع البقاء داخل الائتلاف؛ الأمر الذي أدَّى إلى تقليص الأغلبية البرلمانية من 68 إلى 60 مقعدًا؛ ما وضع الحكومة في حالة “جمود مأزوم” تفتقر فيها إلى القدرة على الحُكْم الفعَّال دون أن تسقط رسميًّا.
وجاء هذا الانسحاب على خلفية تصاعُد الخلاف حول قانون تجنيد طلاب المدارس الدينية، الذي فجَّرَ التوتُّر بين المؤسسة القضائية والتيارات الدينية الحريدية، وفتح الباب أمام تساؤلات أعمق عن مستقبل التفاهمات التاريخية بين الدولة وهذه الفئة، وعن قدرة نتنياهو على ترميم ائتلافه، في ظِلِّ ضغوط الحرب في غزة والمتغيرات الإقليمية المتسارعة.
جذور أزمة تجنيد الحريديم
لم تكن أزمة تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية في إسرائيل وليدة لحظة سياسية راهنة، بل تُمثِّلُ امتدادًا تاريخيًّا لصراع مركزي داخل الدولة بين رؤيتيْن متباعدتيْن: إحداهما تُصِرُّ على الطابع الديني للدولة، بوصفه امتدادًا للهوية اليهودية التقليدية، وأخرى تسعى لترسيخ طابع “مدني – علماني”؛ حيث يتم توزيع الأعباء بشكلٍ متساوٍ بين مختلف مُكوِّنَات المجتمع.
منذ تأسيس الدولة في عام 1948، نشأ نوْعٌ من التفاهم الضمني بين الدولة الناشئة والتيارات الدينية الأرثوذكسية؛ مما أتاح إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية.
في البداية، كان هذا الإعفاء محدودًا من حيث العدد والتأثير، واستخدم كوسيلة لتهدئة التوترات الداخلية ضمن تصوُّر أن الفئة المُعْفَاة ستبقى هامشية ولن تؤثر على البنية الأمنية أو السياسية للدولة.
لكن هذه الفرضية سقطت بمرور الوقت، مع تضاعف أعداد الحريديم وزيادة نفوذهم داخل المؤسسة السياسية، لا سيما بعد صعود التيار اليميني إلى الحُكْم في أواخر السبعينيات.[1]
ومع مرور الزمن، أصبح الإعفاء من الخدمة العسكرية يُنظر إليه على أنه امتياز غير مُبرَّر، يُخالف مبدأ المساواة ويزيد من الاحتقان بين الحريديم من جهة، والصهيونية العلمانية والدينية من جهة أخرى، الذين يتحمَّلُون العِبْء الأمني في الجيش دون مقابل من الفئة المُعْفَاة، فبدأت محاولات تنظيم هذا الواقع مطلع الألفية؛ حيث تمَّ إدخال “قانون طال” في عام 2002 الذي منح تأجيلًا مشروطًا للتجنيد، لكنه لم يصمد أمام الطعن القضائي ليتم إلغاؤه في 2012، ومنذ ذلك الحين، بقي ملف تجنيد الحريديم معلقًا بين حكومات مترددة وأحكام قضائية متشددة.[2]
ولجأت الحكومات المتعاقبة، خصوصًا بقيادة نتنياهو، إلى التحايل أو المماطلة للحفاظ على دعم الحريديم السياسي، فيما استمرت المحكمة العليا في تدخلاتها لفرض معايير المساواة القانونية، وقد أدَّى هذا التداخل بين السلطتين “التشريعية والقضائية” بأن تتجاوز الأزمة بُعْدَها القانوني لتتحول إلى نقطة احتكاك مُزْمِنة، تُؤجِّجُ التوترات بين الأيديولوجيات المختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي.
وفي 26 يونيو 2024، وصلت الأزمة إلى ذروتها حين قضت المحكمة العُلْيَا بعدم قانونية استمرار إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، ومنعت الحكومة من تمويل المدارس الدينية التي لا يُلزم طلابها بتأدية الخدمة العسكرية[3]، وقد مثَّلَ هذا القرار تحوُّلًا جوهريًّا في المعادلة التي كانت قائمة لعقود؛ حيث أصبح الجيش الإسرائيلي مُلْزِمًا بإصدار أوامر تجنيد لطلاب المدارس الدينية.
كانت هذه التطوُّرات الشرارة التي فجَّرَتْ الأزمة السياسية، في منتصف يوليو الماضي، حين انسحب حزبي “يهدوت هتوراه” (7 مقاعد في الكنيست) و”نوعام” (مقعد واحد) من الحكومة والائتلاف، في حين اختار حزب “شاس” (11 مقعدًا) الاكتفاء بالانسحاب من الحكومة مع الإبقاء على عضويته ضمن التكتل البرلماني الداعم لنتنياهو ، وقد أسفر ذلك إلى بقاء ائتلاف نتنياهو مع 60 مقعدًا في البرلمان المؤلف من 120 مقعدًا؛ الأمر الذي أفقده الغالبية البرلمانية وأضعف قدرته على تمرير القوانين.
وفي حال قرَّرَ حزب “شاس” الانسحاب من الائتلاف أيضًا، فلن يحظى نتنياهو سوى بدعم 49 نائبًا فقط داخل البرلمان.[4]
الوزن السياسي للأحزاب الحريدية وعلاقتها باليمين الإسرائيلي الاستيطاني
يُشكِّلُ ارتباط الأحزاب الحريدية باليمين الاستيطاني امتدادًا لمسار سياسي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين أدركت هذه الأحزاب أن التحالف مع معسكر اليمين يوفر لها غطاءً سياسيًّا ومؤسسيًّا لحماية مصالحها الدينية والاجتماعية؛ فمنذ دخول حزب شاس إلى الكنيست عام 1984، وظهور تحالف يهدوت هتوراه (أغودات يسرائيل ثم اندماجه مع ديغل هتوراه عام 1992)، أصبح الحريديم شريكًا شِبْه دائم في الائتلافات اليمينية، مع استثناءات محدودة.[5]
هذا النمط برز بوضوح في حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة؛ حيث شارك الحريديم في أولى حكوماته (1996–1999)، ثُمَّ عادوا كشركاء ثابتين في حكوماته الممتدة من 2009 حتى 2021، وأيضًا في حكومته الحالية التي تشكَّلَتْ أواخر 2022، وحتى في حكومات يمينية أخرى، مِثْل حكومة أريئيل شارون ( 2001- 2005)، كان الحريديم حاضرين أو داعمين بشكلٍ مباشرٍ، وجعلت هذه المشاركة المستمرة من حضورهم في الائتلافات اليمينية “قاعدة سياسية” لا يمكن تجاوزها لأيِّ حكومة تسعى للاستمرار.
ويقوم التحالف بين اليمين الاستيطاني والحريديم على تبادل المصالح؛ إذ يحصل الحريديم على حماية كاملة لامتيازاتهم، مِثْل الإعفاء شِبْه الكامل من الخدمة العسكرية وزيادة ميزانيات المعاهد الدينية، في مقابل دعمهم السياسي لسياسات الاستيطان.
وقد تعمَّقَ هذا الارتباط منذ أواخر التسعينيات بعد قبول الحريديم الاستيطان في تجمُّعات خاصَّة بهم داخل الضفة الغربية، حتى باتوا يُشكِّلُون أكثر من 40% من مجموع المستوطنين (باستثناء القدس).[6]
ورغم أن الأحزاب الحريدية — مِثْل شاس ويهدوت هتوراه وحزب نوعام — تُمثِّلُ مايقارب من 13% من المجتمع الإسرائيلي، فإن تأثيرها يتجاوز هذه النسبة؛ بفضل انضباطها التصويتي المرتفع وقدرتها على ترجيح كفَّة أيِّ ائتلاف، فهي تُمثِّلُ التيار الديني الأرثوذكسي المتشدد، الذي يرفض الطابع المدني والعَلماني للدولة ويُفضِّلُ العُزْلة الثقافية والدينية؛ ما يدفعها إلى فرْض شروطها على الحكومات مقابل دعمها، وضمان استمرار نفوذها السياسي.
غير أن هذه الشراكة المستقرة تاريخيًّا لم تمنع نُشُوء توترات حادَّة في السنوات الأخيرة، بلغت ذروتها مع أزمة قانون التجنيد، التي فجَّرت الخلاف بين الحريديم والحكومة، وأدَّت في النهاية إلى انسحاب بعض الأحزاب الحريدية من حكومة نتنياهو؛ لتفتح فصْلًا جديدًا في العلاقة بين الطرفيْن.
الرّهان على العطلة الصيفية والمسارات المحتملة أمام لنتنياهو
أدخل انسحاب حزبي يهدوت هتوراه وشاس من الحكومة – مع بقاء الأخير في الائتلاف – المشهد السياسي الإسرائيلي في مرحلة شديدة الهشاشة.
فمع تقلُّص الأغلبية البرلمانية الداعمة لنتنياهو من 68 إلى 60 مقعدًا، أصبح مضطرًا لإدارة توازنات دقيقة، خصوصًا أن الحريديم، رغم انسحابهم من الحكومة، لم يعلنوا نِيَّة إسقاطه؛، إدراكًا منهم أن أيَّ بديلٍ قد يفرز حكومة معارضة أقلّ تجاوبًا مع مطالبهم، خاصَّةً في ملف التجنيد وتمويل مؤسساتهم الدينية.
ورغم هذا، فإن التعطيل البرلماني بات أمرًا محتملًا؛ إذ يمكن للأحزاب الحريدية الامتناع عن دعْم التشريعات أو التصويت ضدها؛ مما يعرقل قدرة الحكومة على تمرير قوانين أساسية، وفي ظلِّ هذه المعادلة، تُمثِّلُ العُطْلة الصيفية للكنيست – الممتدة من أواخر يوليو حتى أكتوبر – مساحةً زمنيةً حَرِجَةً قد تُحدِّدُ مستقبل الحكومة.
ويمكن تلخيص المسارات المحتملة أمام نتنياهو كالآتي:
1- التوصُّل إلى تسوية مرحلية مع الحريديم:يعتمد هذا الخيار على تقديم تنازلات محسوبة لطمأنة الأحزاب الحريدية وضمان استمرار دعمها حتى نهاية الدورة الحالية، وفي هذا الإطار، لجأ نتنياهو إلى خطوة لافتة تمثَّلَتْ في إقالة يولي إدلشتاين من رئاسة لجنة الخارجية والأمن بالكنيست، وهو شخصية عُرِفَتْ بمواقفها المتشددة في ملف التجنيد، واستبداله ببوعز بيسموت،[7] الذي يُتوقع أن يكون أكثر مرونةً في التفاوض.
هذه الخطوة، التي مرَّتْ بأغلبية داخل لجنة الكنيست رغم اعتراض المعارضة، جاءت بعد أسابيع من محاولات فاشلة لإقناع إدلشتاين بالتراجع عن مقترحاته المناوئة لمطالب الحريديم، وتعكس رغبة نتنياهو في تهيئة بيئة برلمانية أكثر قابلية لتمرير صيغة قانون تخدم تفاهماته معهم، ولو بشكلٍ مؤقتٍ.
2- المراهنة على تفكُّك المعارضة وكسْب الوقت:في هذا المسار، قد يسعى نتنياهو إلى استغلال التباينات بين خصومه لتقليص الضغط السياسي الواقع عليه، عبْر فتح قنوات اتصال مع بعض الأحزاب اليمينية أو الوسطية خارج التشكيلة الحاكمة، وسيكون الهدف من ذلك هو تعويض الخسارة العددية في الكنيست وتحقيق أغلبية بديلة أو مرنة تسمح بتمرير القوانين الجوهرية، خاصة المتعلقة بملف الأمن والقضاء. ورغم أن هذه الإستراتيجية تحمل مخاطر فقدان ثقة الحريديم، فإنها تمنحه فرصةً لمناورة أوسع، خصوصًا إذا شعر بأن بقاء الأزمة دون حلٍّ قد يدفع الشارع الإسرائيلي إلى تحميله مسؤولية شلل الحكومة.
3- التوجُّه نحو انتخابات مبكرة وتحميل الآخرين مسؤولية الانهيار الحكومي: إذا فشلت مساعي التهدئة أو المناورة، قد يلجأ نتنياهو إلى خيار أكثر مجازفة، يتمثَّلُ في الدَّفْع نحو انتخابات مبكرة، مُسْتَغِلًّا العُطْلة الصيفية للتحضير لسردية تُحمِّل الأطراف الأخرى—سواء الحريديم أو المعارضة—مسؤولية انهيار الحكومة.
ورغم أن هذا الخيار ينطوي على مخاطر سياسية عالية في ظلِّ تراجع شعبيته، إلا أنه قد يراه أفضل من مواجهة تفكُّك تدريجي للائتلاف في توقيت لا يخدمه، غير أن هذا المسار مستبعدٌ؛ لأنه يحمل معه احتمالات فتْح المجال أمام صعود منافسين جُدُد أو إعادة تشكيل الخريطة السياسية بطريقة قد تُقصيه أو تُضعف نفوذه داخل معسكر اليمين.
في المحصلة؛ تُظهر الأزمة الراهنة، أن نتنياهو لا يستطيع التفريط في شراكته مع الأحزاب الحريدية، فهي الضامن الرئيسي لاستمرار ائتلافه، كما أن هذه الأحزاب تدرك أن بقاءها ضمن المعادلة الحكومية يحقق لها مكاسب سياسية ومؤسسية لا يمكن تعويضها خارجه.
وعليه؛ فإن ما يبدو من انسحابات أو امتناع عن التصويت يظلُّ أقرب إلى أدوات ضغط ومساومة منه إلى قطيعة نهائية.
وبناء على ذلك، يُرجَّح استمرار هذا التعايش الحَذِر حتى مطلع عام 2026 على الأقلّ، مع احتمال امتداده إلى موعد الانتخابات المقررة في نوفمبر من العام نفسه؛ ما لم تفرض تطورات الحرب في غزة أو اندلاع مواجهة مباشرة جديدة مع إيران معادلة مختلفة قد تُعزِّزُ تماسُك الائتلاف أو تُسرِّعُ نهايته.
المصادر:
[1] أنطوان شلحت، “أزمة تجنيد/ إعفاء الشبان اليهود الحريديم: هل تهدّد تماسُك ائتلاف حكومة نتنياهو السادسة؟”، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، سنة النشر 2024، انظر الرابط: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1655424
[4] حزب “شاس” يستقيل من حكومة نتنياهو دون الخروج من الائتلاف، العربية، 17 يوليو 2025، انظر الرابط: https://shorturl.at/JLT2y
[5] أحزاب اليهود الحريديم القوّة الأصلب سنداً لمعسكر الليكود واليمين الإسرائيلي الاستيطاني وكل مراهنة على انسلاخهم عنه ليست واقعية، مدار، 21 فبراير 2024، انظر الرابط: https://shorturl.at/wkRaj
