المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > العلاقة “البرازيلية – الأمريكية”: أزمات جمركية بصبغة سياسية
العلاقة “البرازيلية – الأمريكية”: أزمات جمركية بصبغة سياسية
- أغسطس 17, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

إعداد: أكرم السيد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
اتسمت العلاقات بين البرازيل والولايات المتحدة بمزيجٍ من التعاون الاقتصادي والمنافسة السياسية؛ حيث لعبت التجارة الثنائية دورا محوريا في تعزيز الروابط بين اقتصاد البلدين. ومع ذلك، لم تكن هذه العلاقة خالية من التوترات؛ إذ برزت الخلافات بين الحين والآخر حول السياسات التجارية، وحماية الصناعات المحلية، والمواقف من القضايا الإقليمية والدولية.
في سياقٍ متصلٍ، شهدت هذه العلاقة – بداية من أبريل 2025- منعطفًا حادًّا بعد أن فرضت واشنطن رسومًا جمركيةً وإجراءات تجارية جديدة على منتجات برازيلية، في خطوةٍ فسَّرها كثيرون على أنها تتجاوز البعد الاقتصادي إلى اعتبارات سياسية تتعلق بمواقف الرئيس الحالي لولا دا سيلفا، وعلاقاته بتحالفات دولية، مثل “البريكس”، فضْلًا عن موقفه من الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، وهذه التطورات بدورها لم تمر دون رد من برازيليا، التي اتخذت هي الأخرى إجراءات مضادة، وسعت لحشد الدعم الدولي لموقفها.
وتأتي هذه الأزمة في سياق عالمي يشهد تزايد استخدام الأدوات الاقتصادية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وهو الأمر الذي يجعل من الخلاف الحالي أكثر من مجرد نزاع تجاري، وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين البلديْن، وتأثير ذلك على الخريطة الاقتصادية والسياسية للمنطقة بأكملها.
بداية الأزمة وتطوراتها
مرت الأزمة بين البرازيل والولايات المتحدة بعدد من التطورات التي أدَّت إلى تصاعد حِدَّة التوتر بين البلديْن على ما هي عليه الآن، ويمكن تناول ذلك في السياق الآتي:-
بذور الخلاف التجاري والسياسي
بدأت الأزمة بين البرازيل والولايات المتحدة في أوائل عام 2025 ، وتحديدًا عندما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فرْض رسوم جمركية بنسبة 10% على مجموعة من الصادرات البرازيلية، تشمل منتجات زراعية وصناعية، وهو ما ردت عليه البرازيل بالمِثْل[1]. ورغم أن العلاقات التجارية بين البلدين كانت تشهد نموًّا في السنوات السابقة، فإن هذا القرار جاء على خلفية توتر سياسي متصاعد، خاصَّةً مع الدعم العلني الذي أبدته واشنطن بقيادة ترامب للرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو في مواجهة محاكمته الجارية بتُهَمٍ تتعلق بمحاولة تقويض الديمقراطية.
الرسوم الجمركية من 10% إلى 50%
لم يقتصر الخلاف على الرسوم الأولية فحسب؛ حيث صعَّدَت الإدارة الأمريكية، في يوليو 2025، من لهجتها وإجراءاتها، عبْر إعلان زيادة الرسوم الجمركية إلى 50% على عددٍ أكبر من السلع البرازيلية، على أن يبدأ تنفيذها في الأول من أغسطس، وشملت القائمة الجديدة منتجات محورية، مثل “القهوة، اللحوم، المنسوجات”، إضافةً إلى صناعات أخرى تُمثِّلُ ركائز الاقتصاد البرازيلي، مع بعض الاستثناءات المحدودة، وهو ما اعتبرته برازيليا استهدافًا مباشرًا لمواردها التصديرية الأساسية[2].
العامل السياسي في التصعيد
لم يكن التصعيد الأمريكي مدفوعًا بعوامل اقتصادية فقط، بل ارتبط أيضًا بسياق سياسي داخلي في كلا البلديْن؛ حيث انتقد ترامب علنًا الإجراءات القضائية بحقِّ بولسونارو متهمًا حكومة لولا دا سيلفا بالسعي لإقصاء خصومها السياسيين.
في المقابل، رأت الحكومة البرازيلية، أن واشنطن تتدخل في شؤونها الداخلية، وأن الرسوم الجمركية ليست سوى أداة ضغط سياسي[3].
ردود الفعل البرازيلية الأولية
جاء ردُّ برازيليا الأولي – قبْل أن تتخذ برازيليا إجراءاتها الواسعة لاحقًا- ردًّا حادًّا على المستوى الدبلوماسي؛ حيث استدعت القائم بالأعمال الأمريكي للاحتجاج على ما وصفته بتصريحات مسيئة من السفارة الأمريكية ضد السلطة القضائية[4]، كما بدأ المسؤولون البرازيليون في دراسة بدائل تجارية وتحالفات دولية، يمكن أن تقلل من الاعتماد على السوق الأمريكية.
الردُّ البرازيلي على التصعيد الأمريكي
اتخذت الحكومة البرازيلية بقيادة الرئيس لولا دا سيلفا حِزْمَةً من الإجراءات الاستراتيجية التي هدفت إلى حماية الاقتصاد المحلي ودعم المتضررين، وإرسال رسالة سياسية قوية تؤكد تمسُّك البرازيل بسيادتها، تمثَّلَتْ هذه الإجراءات فيما يأتي: –
التحرُّك عبْر منظمة التجارة العالمية
ردَّت البرازيل على الإجراءات الجمركية الأمريكية باللجوء إلى المسار القانوني الدولي؛ حيث أعلنت وزارة الخارجية نيتها تقديم شكوى رسمية أمام منظمة التجارة العالمية. كما اعتبرت الحكومة البرازيلية، أن فرْض رسوم جمركية تصل إلى 50% على صادراتها يتعارض بشكلٍ مباشرٍ مع القواعد التجارية المتفق عليها دوليًّا، ويُشكِّلُ خرْقًا لمبدأ المعاملة بالمِثْل، وهذه الخطوة هدفت إلى فتْح مسار تفاوضي عبْر مؤسسات دولية محايدة؛ على أمل إلغاء الإجراءات، أو – على الأقلِّ – الحدُّ من آثارها الاقتصادية، لكنها تبدو خطوةً بعيدة المنال[5].
إطلاق حِزْمَة دعم اقتصادي واسعة
أطلقت الحكومة البرازيلية – بالتوازي مع المسار القانوني- حِزْمَة إغاثة عاجلة بقيمةٍ تقارب 30 مليار ريال برازيلي (ما يعادل 5.5 مليار دولار)، تستهدف دعْم الشركات والقطاعات الأكثر تضرُّرا من الرسوم الجديدة، وعلى رأسها “الزراعة والصناعات الغذائية والمنسوجات”، كما شملت الحِزْمَة تسهيلات ائتمانية واسعة، وتأجيل سداد الضرائب، وتوسيع برامج التأمين الزراعي والصناعي، إضافةً إلى تدخُّل الدولة كمشترٍ مباشرٍ للمنتجات المتضررة من فُقْدان السوق الأمريكية؛ بهدف خلْق طلبٍ محليٍّ بديلٍ[6].
تعزيز التعاون مع مجموعة البريكس
سعت البرازيل أيضًا إلى تسريع خطواتها نحو تنويع أسواقها، عبْر تعزيز التعاون مع دول البريكس، خاصَّةً الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا، كما تمحورت التحرُّكات حول فتْح قنوات تجارية جديدة، وتوسيع الاتفاقيات الثنائية داخل المجموعة، وبحْث إنشاء آليات تمويل وتبادل تجاري مستقلة عن الدولار الأمريكي؛ مما يُخفِّفُ من تأثير الضغوط الأمريكية، وهذه الخطوة لم تكن اقتصادية فحسب، بل حملت رسالةً سياسيةً، بأن البرازيل تمتلك بدائل استراتيجية في علاقاتها الخارجية[7].
تجميد الاجتماعات الثنائية الحساسة
في سياقٍ متصلٍ، قرَّرَتْ الحكومة البرازيلية إلغاء اجتماع كان مقرَّرًا بين وزير المالية ووزير الخزانة الأمريكي، وهو ما فُسِّرَ على أنه رسالة احتجاجية واضحة على إدارة واشنطن للأزمة، وهذا الإلغاء أوقف مؤقتًا أيَّ حوار اقتصادي رفيع المستوى، وأكَّد أن البرازيل لن تتفاوض تحت التهديد أو في ظلِّ إجراءات عقابية مفتوحة[8].
رسائل سياسية داخلية وخارجية
إلى جانب الإجراءات الاقتصادية والدبلوماسية، ركَّزَ الرئيس لولا دا سيلفا على خطاب سياسي يؤكد استقلالية القرار الوطني؛ حيث وجَّهَ رسائل واضحة إلى الداخل، بأن حكومته ستدافع عن سيادة مؤسسات الدولة، خاصَّةً في مواجهة الانتقادات الأمريكية لمحاكمة بولسونارو، ووجَّهَ أيضًا للخارج رسالة، بأن الأزمة الحالية ليست مجرد خلاف تجاري، بل اختبار لإرادة البرازيل في الحفاظ على استقلالها أمام ضغوط القوى الكبرى.
تشابُه المسار السياسي بين ترامب وبولسونارو
يمكن النظر إلى الدعم العلني الذي يُقدِّمُه ترامب لبولسونارو بأنه ليس مجرد موقفٍ دبلوماسيٍّ، بل يرتكز على خلفية مشتركة تجمع بين الشخصيتين؛ حيث إن كلاهما صعد إلى السلطة عبْر خطابٍ شعبويٍّ قويٍّ، وشنَّ هجومًا مستمرًّا على النُّخَب السياسية والإعلامية والمؤسسات القضائية، مع التشكيك في نزاهة الانتخابات التي خسرها، كما أن كليهما واجه اتهامات بمحاولة التأثير على العملية الديمقراطية في بلاده، وهو ما جعل ترامب يرى في بولسونارو “نسخة لاتينية” من تجربته السياسية، ويعتبر الدفاع عنه دفاعًا عن تياره السياسي العالمي.
وعليه؛ فقد انعكست هذه الروابط الشخصية والفكرية بشكلٍ مباشرٍ على السياسات الاقتصادية الأمريكية تِجَاه البرازيل؛ فمع تصاعُد الأزمة السياسية الداخلية في برازيليا، بدا أن إدارة ترامب مستعدةٌ لاستخدام الرسوم الجمركية كسلاحٍ لمعاقبة حكومة لولا، وإرسال رسالة ضمنية، مفادها؛ أن واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي إذا تمَّ إقصاء حلفائها السياسيين من المشهد، وهذا الموقف يمكن النظر إليه على أنه محاولة لتثبيت نفوذ الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، من خلال دعم شخصيات سياسية منسجمة مع الخطاب الأمريكي اليميني.
من هذا المنطلق، خرجت الأزمة من إطارها الاقتصادي إلى ساحة الصراع الأيديولوجي؛ حيث تحوَّلَتْ الجمارك إلى أداة سياسية، وأصبح الصراع يعكس مواجهة بين مشروعيْن سياسيين متناقضين، الأول: هو مشروع لولا الذي يميل إلى اليسار ويُعزِّزُ التعاون مع دول البريكس، والثاني: هو مشروع بولسونارو – بدعم من ترامب- الذي يتبنَّى اليمين الشعبوي ويتقارب مع المصالح الأمريكية التقليدية.
لذا، فإن هذا التداخُل بين العوامل الشخصية والأيدلوجية والاقتصادية جعل الأزمة أكثر تعقيدًا وأبعد عن الحلِّ السريع.
مستقبل الأزمة
مع استمرار التوتُّر التجاري والسياسي بين البرازيل والولايات المتحدة، يظلُّ مستقبل الأزمة مفتوحًا على عدة مسارات، كما أن طبيعة هذه المسارات ستتحدَّد بمدى استعداد الطرفين للفصْل بين الملفات الاقتصادية والخلافات السياسية، وبقدرة الوسطاء على تقريب وجهات النظر.
ويمكن تلخيص أبرز الاحتمالات في ثلاثة سيناريوهات رئيسية:-
السيناريو الأول – التهدئة عبر المفاوضات
يعتمد هذا السيناريو على نجاح الوسطاء الدوليين، مثل منظمة التجارة العالمية أو بعض دول مجموعة العشرين أو أيّ وسطاء آخرين في جمْع الطرفين على طاولة الحوار؛ حيث يتمُّ التوصُّل من خلال ذلك إلى اتفاق لتخفيض الرسوم الجمركية بشكلٍ تدريجيٍّ مقابل التزامات اقتصادية من جانب البرازيل، وربما تفاهمات سياسية غير معلنة، وهذا السيناريو يضمن الحفاظ على الحدِّ الأدنى من الشراكة الاقتصادية ويمنع انزلاق الأزمة إلى مواجهة طويلة الأمد، لكن حتى اللحظة لا توجد أيُّ مؤشرات تُعزِّزُ فُرَص نجاح هذا السيناريو.
السيناريو الثاني – التصعيد المستمر
يعني هذا باستمرار واشنطن في ربْط الملف الجمركي بموقفها من بولسونارو وتوجُّهات البرازيل داخل البريكس، بينما في المقابل تردُّ برازيليا بتوسيع شراكاتها التجارية مع الصين وروسيا والهند، ومن خلال هذا السيناريو، تتراجع التجارة الثنائية بشكلٍ حادٍّ، ويتحوَّلُ الخلاف إلى صراعٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ مفتوحٍ قد يمتد لسنوات، وهو ما قد يحمل معه انعكاسات سلبية على الشركات والمستهلكين في البلديْن.
السيناريو الثالث – التحالفات البديلة