تشهدُ العلاقاتُ الهنديةُ–الصينية في المرحلة الراهنة مؤشراتٍ متزايدةً على تقاربٍ نسبيٍ بعد سنواتٍ من التوتر الحاد، لا سيَّما على خلفية أزمة الحدود عام 2020. غير أن هذا التقارب لا يمكن النظر إليه بمعزلٍ عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع، حيث تحاول نيودلهي التعاطي مع النفوذ الصيني المتنامي إقليمياً ومواجهة الضغوط الأميركية في مجال التجارة. في هذا الإطار، يبدو أن التقارب الهندي مع بكين ليس خيارًا أحاديًّا، بل أحد المسارات التكتيكية التي تعتمدها الهند لإدارة التوازنات الكبرى وتوسيع مساحة حركتها.
ومن ثمَّ، فإن تحليلَ هذا التطور يقتضي وضعه ضمن شبكةٍ أوسع من اعتبارات الهند الاستراتيجية، التي تجمع بين الانفتاح الحذر على الصين، وتعزيز الروابط مع روسيا واليابان، والحفاظ على شراكاتها الغربية، بما يضمن لها تجنّبَ الارتهان لقوةٍ واحدةٍ والحفاظ على استقلالية قرارها الاستراتيجي.
زيارات متبادلة:
يزور وزير خارجية الصين “وانغ يي” نيودلهي في 18 أغسطس، في أول زيارة منذ أكثر من ثلاث سنوات، في إطار جهودٍ لتهدئة التوترات مع الهند بعد أزمة الحدود الدامية عام 2020. وللتباحث مع كبار المسؤولين الهنود حول سبل خفض القوات على الحدود، واستئناف التجارة والرحلات الجوية المباشرة، في خطوةٍ تعكسُ مسارًا تدريجيًا لإعادة بناء الثقة وإعادة فتح قنوات التواصل. كما سيُجري الطرفان محادثاتٍ لإحياء التجارة الحدودية التي توقفت منذ خمس سنواتٍ بسبب جائحة كورونا والاشتباكات العسكرية، وإن كانت محدودةَ القيمة لكن لها رمزية كبيرة. [1] وتتزامن هذه الخطوة مع تخفيف بكين بعض القيود على صادرات الأسمدة إلى الهند.[2]
كذلك، تُعد زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى الصين المقررة في 31 أغسطس، الزيارة الأولى منذ أكثر من سبع سنوات للمشاركة في قمةِ منظمةِ شنغهاي للتعاون، مؤشراً بالغ الدلالة على اتساع مساحات التفاهم بين بكين ونيودلهي. [3]
محطات التقارب الهندي–الصيني:
تأتي هذه الزيارات تتويجاً لمسارٍ من محاولات التقارب بعد مواجهةٍ حدوديةٍ دامية في عام 2020 أودت بحياة 20 جندياً هندياً، وأربعة جنود صينيين على الأقل، وأدّت إلى تدهورٍ حادٍ في العلاقات. حيث بدأت الهند والصين ترميم علاقاتهما أواخر العام الماضي[4]، وشهدت العلاقات بين الهند والصين مسارًا تدريجيًا نحو إعادة بناء الثقة، ويُمكن رصْدُ هذا التحول عبر مجموعةٍ من المحطات التي حملت في طياتها إشاراتٍ واضحةً إلى رغبة الجانبين في تجاوز مرحلة الصدام.
فعلى المستوى العسكري، شكّل اتفاق أكتوبر 2024 بشأن استعادة دوريات ما قبل عام 2020 على “خط السيطرة الفعلية” (LAC) في منطقتي ديبسانغ ودمشوك نقطةَ انطلاقٍ جديدة، إذ أتاح تقليص الاحتكاكات المباشرة بين القوات. وقد تترجم ذلك لاحقًا، في عام 2025، عبر تنفيذ جولاتٍ ميدانيةٍ مشتركةٍ وتنسيق مسار الدوريات، بما يعكسُ استعدادًا متبادلاً لتحويل خطوط التماس من مناطق توتر إلى ساحاتٍ لإدارة منضبطة للنزاع.[5]
أما على الصعيد الدبلوماسي والسياسي، فجاءت رسائلُ سياسيةٌ متكاملةٌ مع مبادراتٍ رمزيةٍ أخرى، مثل تبادل رسائل التهنئة بمناسبة الذكرى الـ75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية، والتي وصف خلالها الرئيس الصيني تفاعل العملاقين بأنه “رقصةُ التنين والفيل”، في إشارةٍ إلى التوازن الدقيق بين التنافس والتكامل.[6]
وفي خطوةٍ هامةٍ خلال زيارة سكرتير وزارة الخارجية فيكرام ميسري إلى الصين يناير 2025، استعرض العلاقات الثنائية مع نائب وزير الخارجية الصيني، واتفقا على إعادة بنائها، وأعلنا عن عقْدِ اجتماعٍ مبكرٍ لآلية الخبراء الهندية الصينية لمناقشة استئناف تبادل البيانات الهيدرولوجية وغيرها من مبادرات الأنهار العابرة للحدود.[7]
تدل هذه المحطات مجتمعةً على أن التقاربَ الراهنَ بين الهند والصين لا يقتصرُ على إدارةٍ مؤقتةٍ للتوترات الحدودية، بل يمثّل محاولةً أكثر شمولًا لإرساء قاعدةٍ مؤسسيةٍ للتعاون على المدى الطويل. وعلى هذا الأساس ستحاول الهند مناقشة قضايا أكثر حساسية كالمياه، التي تمثل بُعدًا مهمًا في معادلة الأمن القومي الهندي.
ملف المياه كدافع للتقارب “الهندي – الصيني”
يمثّل ملف المياه أحدَ المحاور الحساسة في العلاقات بين الصين والهند، فالصين تتحكم في منابعَ رئيسيةٍ لعددٍ من الأنهار العابرة للحدود. ومن ثمّ، فإن أي مشروعاتٍ صينيةٍ كبرى في مجال الطاقة الكهرومائية تُثير قلق نيودلهي من تقليص التدفقات المائية، ما يجعل المسألة جزءًا لا يتجزأ من معادلة الأمن القومي الهندي. وقد تزايدت هذه المخاوف مع إعلان الصين خططها لتدشين سدٍّ ضخمٍ على نهر يارلونغ تسانغبوتو في هضبة التبت، وهو ما تعتبره الهند تطورًا يؤثر على أمنها المائي.
على هذا الأساس، تسعى نيودلهي إلى إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع بكين، ليس فقط بشأن القضايا التجارية والحدودية، بل أيضًا في ما يتعلق بالموارد المائية لتفادي تحولها إلى ورقة ضغط مستقبلية.
وإذا كان ملفُ المياه يمثل بُعدًا خطيرًا في العلاقات الثنائية، فإن النفوذَ الصينيَ الإقليمي المتزايد يضيف بُعدًا آخر لا يقلُّ أهميةً في تشكيل الحسابات الهندية.
تصاعد النفوذ الصيني الإقليمي وحساسية الهند:
فمن ناحيةٍ أخرى، تشهدُ منطقة جنوب آسيا تحوّلاتٍ متسارعةً تزيد من نفوذ الصين إقليميا، بما يفرض على الهند تبنّي مقاربةً جديدةً للتعاطي مع هذا الواقع. فمؤخراً أخذت دول الجوار الصغرى – مثل بنغلاديش والمالديف ونيبال – في الانفتاح المتزايد على بكين، على نحوٍ يجعلُ العلاقاتِ مع الهند أولويةً متأخرةً بعد الصين.[8] كما تُعزّز الصين حضورها عبر الشراكة الاستراتيجية مع باكستان، والتي تعمّقت بإطلاق النسخة المحدثة من “الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني” وتوسيع التعاون العسكري، وصولاً إلى وساطة صينية بين باكستان وأفغانستان. [9]
هذا التموضعُ الصينيُ ترافق مع تشكيكٍ متصاعدٍ في فاعلية المنتديات الإقليمية التي تقودها الهند، مثل “رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي”، وتخلقُ هذه التطورات المتلاحقة تحولاتٍ إقليميةً تسمح للصين بالتنافس المباشر على قيادة منطقة جنوب آسيا مع الهند، وتخصمُ من نفوذ نيودلهي في الدول المحيطة بها، وهو ما يسمح للصين بإضافة تعقيداتٍ على نفوذ الهند والولايات المتحدة وحلفائهما في المحيط الهندي.[10]
أمام هذا المشهد، أخذت الهند تُظهر قدراً أكبر من المرونة في التعاطي مع بكين، بما يشملُ الانفتاحَ على قنوات الحوار والتعاون الاقتصادي، في ظلّ إدراكها لصعوبة كبْحِ النفوذ الصيني منفردةً أو الركون فقط إلى شراكاتها الغربية. وبذلك، يمكن القول إن الهند تتحسّسُ مخاطرَ الواقع الإقليمي الجديد، وتسعى إلى التكيف معه من خلال تقارب حذر مع الصين.[11]
هذا التوجّهُ يكتسبُ زخمًا إضافيًا في ظل التوتر المتصاعد مع واشنطن بشأن السياسات التجارية والطاقة، حيث تسعى الهند إلى موازنة الضغوط الأميركية عبر الانفتاح على بدائل متعددة.
الرسوم الجمركية الامريكية على الهند:
يتزامنُ التقاربُ الهندي الصيني مع واحدةٍ من أكثر المراحل حساسيةً في العلاقات الهندية–الأمريكية، التي فرضت رسوماً جمركيةً قاسيةً على الصادرات الهندية، بسبب مشترياتها من النفط الروسي بأسعارٍ مخفضةٍ، معتبرةً أنها تُسهمُ في تمويل حرب أوكرانيا، بينما تتمسك الهند بموقفها، مؤكدةً أن هذه الواردات ساعدت على استقرار أسواق الطاقة العالمية، وهو ما يضع الهند أمام مُعضلةٍ في إدارة علاقاتها مع شركائها الإستراتيجيين.[12]
في هذا الإطار، تبدو زيارة مودي للصين تعبيراً عن توجّهٍ هنديٍ للبحث عن مساحاتٍ جديدةٍ للتحرك خارج الضغوط الأمريكية.
إذ أدّت السياسات التجارية التي انتهجتها إدارة ترامب، بفرض رسومٍ جمركيةٍ مرتفعةٍ على الصادرات الهندية والتهديد بتوسيعها لتشملَ قطاعاتٍ حيويةً مثل الصناعات الدوائية، إلى إحداث ضغوط ملموسة على العلاقات الأمريكية–الهندية. [13]
وتُدرك الهند المخاطر الاقتصادية المترتبة على استمرار القيود الأمريكية على حجم التجارة الثنائية التي تتجاوز 190 مليار دولار سنويًا. إذ تشيرُ تقديراتٌ حكوميةٌ – نُقلت عبر مصادر متعددة – إلى أن الرسوم الأمريكية قد تُفقد الصادرات الهندية ميزةً تنافسيةً في سِلعٍ تُقدّر قيمتها بنحو 64 مليار دولار، أي ما يعادل 80% من مجمل صادراتها إلى السوق الأمريكية. ومع ذلك، فإن مثل هذه التحديات الاقتصادية تبدو ظرفيةً، مقابل الاتجاه طويل الأمد الذي يحكم العلاقات بين الجانبين.[14]
إذ إن واشنطن ما زالت ترى في الهند قوةً إقليميةً صاعدةً قادرةً على موازنة النفوذ الصيني في آسيا، فيما تدرك نيودلهي أن الولايات المتحدة تظل شريكًا لا غنى عنه في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة والدفاع.
هذه القيودُ التجاريةُ دفعت الهند إلى إعادة ترتيب أوراقها الدبلوماسية والاستراتيجية، كما يتضح في خياراتها الأخيرة مع الصين واليابان وروسيا.
خيارات الهند الاستراتيجية:
تجد نيودلهي نفسها اليوم أمام معادلةٍ جديدةٍ في إدارة خياراتها الاستراتيجية بين القوى الكبرى. فبعد أن توافق ترامب ومودي على رفع حجم التبادل التجاري بين الهند والولايات المتحدة إلى 500 مليار دولار بحلول 2030، سرعان ما اصطدمت نيودلهي برسومٍ جمركيةٍ أميركية مشددةٍ على معظم صادراتها. [15]
وفي هذا السياق، تمثّل زيارةُ مودي إلى طوكيو في 30 أغسطس قبل زيارته إلى بكين مؤشرًا على حرص نيودلهي على إظهار توازنٍ في توجهاتها الاستراتيجية، بحيث توازن بين الانفتاح على الصين من جهة، والاعتماد على شراكةٍ يابانيةٍ قويةٍ من جهةٍ أخرى وهي حليف غربي.
إن تعميقَ التعاون مع اليابان يمنح نيودلهي أدواتٍ عمليةً لتعزيز استقلاليتها في مواجهة كلٍ من واشنطن وبكين، سواء عبر نقل التكنولوجيا، أو تأمين سلاسل التوريد الحيوية مثل أشباه الموصلات والعناصر الأرضية النادرة، أو عبر دعم مبادرة “صنع في الهند”. [16]
وفي 8 أغسطس، وجّه رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي دعوةً إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزيارة بلاده، وقالت الحكومة الهندية إن الزعيمين استعرضا الاتفاقاتِ الثنائيةَ، وبحثا الصراع الدائر في أوكرانيا، وأن الرئيس الروسي تمت دعوته لحضور القمة السنوية الهندية – الروسية في وقت لاحق من هذا العام في الهند. [17]
كما وقّعت الهند اتفاقاتٍ مع روسيا لتعزيز التعاون في مجالات علوم وتكنولوجيا الفضاء، والمعادن النادرة، والألمنيوم، والأسمدة، والنقل بالسكك الحديدية، وغيرها من القطاعات. كما تحدّثَ مودي مع الرئيس البرازيلي لبحْث فرضِ الرسوم الجمركية الأحادية ضد بلديهما، وجدد خطط تعزيز العلاقات التجارية.[18]
وذلك في وقتٍ علقت فيه الهند خططاً لشراء أسلحةٍ وطائراتٍ أميركيةٍ جديدةٍ، في إشارةٍ على استياء الهند من سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية، بجانب إلغاء زيارة وزير الدفاع راجنات سينغ إلى واشنطن للاتفاق على عقود أسلحة. ومع ذلك، فإن المؤشرات الرسمية لا تعكسُ قرارًا نهائيًا بوقف التعاون الدفاعي، بل ميلاً إلى التريث لحين اتضاح مسار العلاقات الاقتصادية الثنائية.[19]
وبذلك، يمكن القول إن التقاربَ الراهنَ مع بكين لا يُفهم إلا في إطارٍ أوسع من البراغماتية الهندية متعددة المحاور، التي تستهدفُ إدارةَ الضغوط الأميركية دون الارتهان إلى طرف بعينه.
ختامًا:
يمكنُ قراءةُ التقارب الهندي–الصيني الراهن باعتباره خطوةً تكتيكيةً تهدف بالأساس إلى التفاعل مع النفوذ الصيني المتنامي إقليميا وفي ذات الوقت إدارة الضغوط الأمريكية، أكثر منه تحالفًا استراتيجيًا راسخًا. فالهند تدركُ أن الارتهانَ لبكين يهدد استقلاليتها الاستراتيجية، لذلك تتحركُ وفق مقاربةٍ براغماتيةٍ متعددة المحاور، تجمع بين الانفتاح على الصين لتخفيف حدة المواجهة، وتعزيز التعاون مع روسيا واليابان، إلى جانب توسيع الروابط مع البرازيل وأوروبا. هذه المقاربة، وإن بدتْ محفوفةً بالمخاطر، قد تتيح للهند موقعًا متميزًا كقوةٍ صاعدةٍ قادرةٍ على الاستفادة من التنافس الأميركي–الصيني لصالحها. أما إذا أخفقت في تحقيق التوازن المطلوب، فإنها قد تجدُ نفسها في مواجهة اضطراباتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ تحدّ من طموحاتها الإقليمية والدولية.
