المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تقدير موقف > مُباحثاتُ نيوم بين مصر والسعودية: قراءة في رسائل التوقيت وأبعاد التنسيق
مُباحثاتُ نيوم بين مصر والسعودية: قراءة في رسائل التوقيت وأبعاد التنسيق
- أغسطس 22, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: دينا دومه
باحث مساعد في وحدة شؤون الشرق الأوسط
في ظلّ بيئةٍ إقليميةٍ مشحونةٍ بالتوترات والأزمات، جاءت مُباحثات نيوم بين الرئيس “عبد الفتاح السيسي” وولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، وذلك يوم الخميس الموافق ٢١ أغسطس 2025، تلبيةً لدعوة رسميةٍ من القيادة السعودية، لتكتسبَ أهميةً استثنائيةً بحكم توقيتها وظروف انعقادها، فهي تأتي في لحظةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ دقيقةٍ تتقاطعُ فيها التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، ما يجعلها بمثابة تنسيقٍ محوريٍ في مسار العلاقات المصرية–السعودية، التي طالما ارتكزت على دعائمَ راسخةٍ من الاحترام المتبادل والتضامن التاريخي، ولا تُجسّد القمة مُجرد لقاء ثنائي بروتوكولي، بل تُعبّر عن وحدة موقف ورؤية مُشتركة لمواجهة الأزمات المشتعلة في الإقليم، وعلى رأسها الحربُ الدائرةُ في غزة بما تحملهُ من تداعياتٍ إنسانيةٍ وسياسيةٍ عميقةٍ، فضلًا عن الملفات المُعقدة في لبنان وسوريا وليبيا واليمن والسودان، ومن ثمّ فإن انعقادها في هذا التوقيت يعكس إدراكًا مُتبادلاً بأهمية التنسيق الاستراتيجي بين القاهرة والرياض باعتبارهما الركيزتين الأساسيتين للأمن القومي العربي، والقوتين الأكثر تأثيرًا في مُعادلات البحر الأحمر والخليج العربي والشرق الأوسط على نحو عام.
كما تحملُ الزيارةُ في طياتها أبعادًا اقتصاديةً واستثماريةً واسعةً، إذ تفتح آفاقًا جديدة أمام تعزيز الشراكات التنموية والمشروعات المشتركة، بما يصبّ في دعم الاستقرار الداخلي للدولتين وتحصين البيئة الإقليمية من المخاطر المُتصاعدة. ولعل ما شهدته العلاقات الاقتصادية في السنوات الأخيرة من طفرة نوعية يرسّخ مكانة السعودية كشريكٍ تجاريٍ واستثماريٍ رئيسيٍ لمصر، ويؤكد أن تعميق هذا التعاون يمثل ضرورة استراتيجية لمواكبة التحديات العالمية وضمان استدامة النمو والتنمية.
أولًا: رسائلُ التوقيت
جاء لقاء نيوم بين مصر والسعودية ليعكسَ وعيًا استراتيجيًا بأهمية التوقيت، حيث تزامنت هذه الزيارة مع مرحلةٍ دقيقةٍ تتقاطع فيها أزمات غزة وملفات الإقليم المعقدة مع تحولاتٍ دوليةٍ متسارعةٍ، الأمرُ الذي يُضفي على انعقادها دلالات خاصة، وذلك على النحو الآتي:
1- محاولة التصدي للمُقاربة الإسرائيلية-الأمريكية الراهنة: جاءت مُباحثات نيوم بوصفها تحركًا استباقيًا يتجاوزُ حدود التنسيق الثنائي إلى محاولة مبكرة لخلْق مظلةٍ عربيةٍ مُضادة للمُقاربة الإسرائيلية-الأمريكية الجارية. فاختيارُ هذا التوقيت بالذات يُشير إلى إدراك القيادتين أن لحظةَ التحول الإقليمي لا تسمح بانتظار تبلْور مواقف الخارج، وأن المبادرةَ العربيةَ—إن أُطلقت مبكرًا—يمكن أن تُعيدَ توزيعَ أوراق القوة على طاولة التفاوض قبل أن تُحسمَ القراراتُ في واشنطن وتل أبيب. وتتضاعفُ دلالات هذا التوقيت مع مسار أمريكي يندفع نحو تثبيت واقع الاحتلال في الضفة الغربية وتهميش حلّ الدولتين، حيث جاء تصويت الكنيست الإسرائيلي مؤخرًا بالموافقة على خطواتٍ تشريعيةٍ تمهّد لضمّ أجزاء واسعة من الضفة، في إشارة واضحة إلى أن إسرائيل تسعى لترسيخ الأمر الواقع قانونيًا وسياسيًا، بما يتجاوز مجرد التوسع الاستيطاني إلى ضمٍّ فعْليٍ يقطع الطريق على أي تسويةٍ عادلةٍ. هذا المسار الإسرائيلي يحظى بغطاءٍ أمريكيٍ ضمنٍي، ويتكامل مع ضغوط على العواصم الأوروبية لفرملة اعترافاتٍ محتملة بالدولة الفلسطينية. في ضوء ذلك، يصبحُ الفراغ التفاوضي مهددًا بالاتساع إن لم يُملأ برؤيةٍ عربية مضادة، ويغدو أي تأخر في التحرك بمثابة خسارة تدريجية لأوراق القوة التفاوضية العربية.
2- الردّ السياسي على “رؤية إسرائيل الكبرى”: يُعتبر اللقاء بمثابة ردٍّ سياسيٍ على ما طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 13 أغسطس 2025 بشأن ما أسماه “رؤية إسرائيل الكبرى”[1]. فقد عبّرت كلٌ من القاهرة والرياض، عبر بياناتٍ رسميةٍ، عن رفضٍ قاطعٍ للأفكار التوسّعية الإسرائيلية لما تنطوي عليه من تهديد لسيادة دول المنطقة وتقويض لمسار السلام. إذ حذّرت مصر من خطورة هذه الطروحات على الاستقرار الإقليمي، مطالبةً بتوضيحاتٍ رسميةٍ حولها، فيما شددت السعودية على رفضها التام لأي مشاريع استيطانية أو توسّعية مؤكدةً على الحق التاريخي والقانوني للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.[2]
3- حراكٌ ثنائي بالتزامن مع خطة احتلال غزة: يُظهر التوقيت تقاطعًا لافتًا مع تسارع الخطط العسكرية الإسرائيلية الرامية إلى تشديد الحصار على مدينة غزة واحتلال أجزاءٍ منها، في سياقِ عمليةٍ واسعةٍ تشملُ استدعاء عشرات الآلاف من قوات الاحتياط وإعادة عزل المحافظات الشمالية عن باقي القطاع، فالتحركاتُ الإسرائيليةُ ـ المتمثّلةُ في حصار مناطق مكتظة بمئات الآلاف من النازحين، وتصعيد القصف الجوي والبري تهدف بالأساس إلى فرض أمر واقع، ومن ثمَّ، فإن توقيتَ الزيارة في هذا الظرف يعكس ما يمكن تسميته بـ “الإعاقة الدبلوماسية” لمحاولة إبطاء الاندفاعة الميدانية الإسرائيلية عبر خلْق مظلةٍ ثنائية مصرية-سعودية مضادة.
4- أولوية احتواء التصعيد الإقليمي: جاءت الزيارة لتمنحَ التوقيتَ بُعدًا أمنيًا بالغ الأهمية حيث إدراجُ البحر الأحمر في صلبِ المُباحثات من خلال التأكيد المُشترك على ضمان أمن وسلامة الملاحة وسلاسل الإمداد في هذا الممر الحيوي بوصفه ركيزةً للتجارة الدولية والاستقرار الإقليمي، على صعيدٍ متصلٍ، جاءت القمة بالتزامن مع تصاعد التهديدات العسكرية الإسرائيلية تجاه إيران، وتفعيل حالة الاستنفار في الجيش الإسرائيلي. وفي المقابل، سعت إيران إلى إعادة بناء دفاعاتها الجوية والصاروخية عبر الحصول على بطاريات صواريخ حديثة وطائراتٍ متعددة المهام من الصين[3]، ما يعكسُ سباقَ تسلحٍ إقليميٍ سريعٍ، والذي يُنذر باحتماليةِ عودة الصراع مرةً أخري بين إسرائيل وإيران ، هذه المُستجداتُ الأمنيةُ تكشف أن القمة لم تقتصرْ على تنسيقٍ سياسيٍ، بل كانت استجابةً لبيئةٍ إقليميةٍ متقلّبةٍ، حيث يسعى الجانبان إلى تأمين خطوط دفاعية واستباق أي تهديدات محتمَلة قد تؤثر على مصالح العرب الحيوية، لا سيما في البحر الأحمر والممرات التجارية الحيوية.
5- البناء على سلسلة الاعترافات الأوروبية: يكتسبُ التوقيتُ أهميةً خاصةً بالنظر إلى أنه جاء عقِبَ انعقادِ مؤتمرِ نيويورك لحل الدولتين برئاسة سعودية–فرنسيةٍ مشتركةٍ في نهاية يوليو الماضي، والذي شكّل منصة متعددة الأطراف تربط الجهد العربي مباشرة بالمجتمع الدولي، وتحويل سلسلة الاعترافات الأوروبية إلى قاعدةٍ لبناء تحركٍ سياسيٍ مستدامٍ تمهيدًا إلى مؤتمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المُقبل بالأمم المُتحدة، وبذلك، فإن الزيارة لم تقتصرْ على التنسيق حول الراهن، بل لتعكسَ إدراك القيادتين العربية أن هذه الاعترافات ليست نِتاجَ مبادرات أوروبية معزولة، بل ثمرة تنسيق سياسي عربي حثيث، ومن أجل استكمال المسار الدبلوماسي، وتثبيت موقع القاهرة والرياض بوصفهما القاطرة العربية التي تدفعُ الاعترافاتِ الأوروبية إلى التحول تدريجيًا إلى معادلةٍ سياسيةٍ قادرةٍ على مواجهة الضغوط الأمريكية–الإسرائيلية.
ثانيًا: الدلالة الاقتصادية لاختيار مدينة نيوم كمقر للمُباحثات المصرية–السعودية
جاء اختيار مدينة نيوم كمقرٍ لعقْد المُباحثات بين مصر والمملكة العربية السعودية ليحملَ دلالاتٍ اقتصاديةً استراتيجيةً تتجاوز كونها مُجردَ مُوقع جغرافيٍ مميز أو رمزٍ حضاريٍ، فالمدينة، مُصممةٌ لتكونَ نموذجًا اقتصاديًا مُستقبليًا مُتكاملًا، تُمثل محركًا استثماريًا متقدمًا قادرًا على تحويل منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي إلى مركز ديناميكي للابتكار والاستثمار متعدد القطاعات. إن التركيز على بيئة اقتصادية شاملة تدعم 14 قطاعًا استثماريًا رئيسيًا [4]، من التصنيع إلى التقنيات الحيوية والطاقة المتجددة، يتيح للقمة إطارًا عمليًا للتباحث حول سبل تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين القاهرة والرياض على أسسٍ طويلة الأمد، بما يعكسُ رؤيةً عربيةً مشتركةً لتنميةٍ مستدامةٍ ومتكاملة.
يكتسب اختيار نيوم بُعدًا إضافيًا بالنظر إلى البيانات الاقتصادية الفعلية للعلاقات المصرية–السعودية، والتي تعكس مستوىً عميقًا من الترابط التجاري والاستثماري بين البلدين، فقد بلغ حجم التبادل التجاري 5.9 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2025، مع فائضِ وارداتٍ مصريةٍ من السعودية قدره 4.4 مليار دولار مقابل صادرات مصرية بقيمة 1.5 مليار دولار[5]، في حين سجلت الاستثمارات السعودية في مصر 532 مليون دولار مقابل استثمارات مصرية في السعودية 116.2 مليون دولار، كما وصلت تحويلات المصريين في السعودية إلى 8 مليارات دولار، بينما بلغت تحويلات السعوديين في مصر نحو 11.6 مليون دولار خلال العام المالي 2023/2024 [6] ، هذه المؤشراتُ تؤكدُ ترابطًا اقتصاديًا عميقًا بين البلدين، وتؤكد أن اختيار نيوم ليس رمزيًا فحسب، بل يتيح استثمارًا مُباشرًا في شبكات التجارة والاستثمار القائمة، ويعزز الحوار حول تنمية المشروعات المشتركة والاستفادة من الفرص الاقتصادية المستقبلية.
على المستوى الهيكلي، توفرُ نيوم بيئةً اقتصاديةً متكاملةً تدعم الابتكار وريادة الأعمال، مع مشاريع رئيسية مثل ذا لاين التي تعتمد على تكنولوجيا المستقبل والطاقة المتجددة، وسندالة المخصصة للسياحة والترفيه، وأوكساچون كنموذج متعدد الاستخدامات يدمج بين السكن والعمل وفق منهجيات الثورة الصناعية الرابعة والاقتصاد الدائري. هذه البيئةُ لا تقتصرُ على خلْقِ أكثر من 100 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030، بل تعمل أيضًا على بناء شبكةٍ اقتصاديةٍ مؤسسية يمكن من خلالها تعزيز التكامل الصناعي والتجاري بين البلدين، وتطوير بنية تحتية استثمارية تدعم تدفقات رأس المال والتكنولوجيا والابتكار. وعليه، فإن عقْدَ المباحثات في نيوم يعكسُ رؤيةً استراتيجيةً تربط بين السياسة والاقتصاد، ويؤكد على أن التنسيقَ الثنائي المصري–السعودي لا يقتصر على المجال السياسي أو الأمني فحسب، بل يمتد ليشكًلَ حجر الزاوية في شراكةٍ اقتصاديةٍ مستقبليةٍ متينةٍ، تضع النمو المستدام والتطوير الاستثماري في قلب الأولويات العربية المشتركة.
ثالثًا: خارطة تفعيل مجلس التنسيق الأعلى المصري–السعودي
جاءت زيارة الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” إلى المملكة العربية السعودية لتعكسَ أولويةً مشتركةً لدى القاهرة والرياض في تسريع إجراءات تفعيل مجلس التنسيق الأعلى المصري–السعودي، الذي أقره القرار الرئاسي رقم 55 لسنة 2025. ويعدُّ المجلس بمثابة الإطار المؤسسي الأرفع لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين[7]، ويهدف إلى تعزيز التعاون في شتّى المجالات الحيوية، بما يشملُ السياسيةَ والأمنيةَ، والاقتصادية والتجارية والاستثمارية، إلى جانب التعليم والصحة والزراعة، مرورًا بالطاقة والاتصالات والتقنية، وصولًا إلى التعاون البيئي والثقافي والصناعي. وتأتي زيارة الرئيس السيسي في هذا السياق لضمان الانطلاق السريع والفاعل للمجلس، بما يُحولُ التوافقَ السياسيَ إلى برامج تنفيذية ملموسة تعكسُ جدّيةَ القاهرة والرياض في تعزيز التكامل الاستراتيجي.
يمتاز المجلس بهيكله القيادي المباشر، إذ يتولّى رئاستَه من الجانب المصري رئيس الجمهورية، ومن الجانب السعودي ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، مع مشاركة عددٍ من الوزراء والمسؤولين المتخصصين في القطاعات المختلفة ذات الصلة بالمهمات الموكلة إليه. ويُكلّف كلُ طرفٍ بتعيين أمين للمجلس يتولى التنسيق مع نظيره في الجانب الآخر، والإشراف على تنفيذ المهام والبرامج المقررة. ويمنح هذا الهيكل المجلس القدرة على معالجة الملفات الثنائية المعقّدة بصورةٍ متكاملةٍ، من خلال آلية اللجان التحضيرية التي يمكن أن تشكَّل لدراسة القضايا المتخصصة ووضْعِ خطط العمل والمقترحات التنفيذية، مما يضمن سرعة الاستجابة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية المنشودة.
تتنوع أهداف المجلس؛ حيث تدور حول تعزيز التعاون السياسي والأمني، وتنسيق السياسات الاقتصادية والاستثمارية، وتطوير البنية التحتية والتقنيات الرقمية، ودعم الاستثمارات المشتركة والمشاريع الاقتصادية الكبرى مثل نيوم، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في مجالات التعليم والصحة والبحث العلمي، بما يُسهمُ في تعزيز التنمية المستدامة والمصالح المشتركة للبلدين. كما يضطلع المجلس بوظيفة حوكمة واضحةٍ لأعماله ولجانه، من خلال محضرٍ مشتركٍ يُعتمدُ من رئيسي الجانبين، يحدد آليات التنسيق والمتابعة لضمان التزام الطرفين بتنفيذ الخطط والبرامج، ويُتيحُ انعقادَ اجتماعاتٍ دوريةٍ واستثنائيةٍ حسب الحاجة، وبالتالي، يُمثّل المجلس الأعلى المصري–السعودي منصة مؤسسية حيوية لترسيخ التنسيق الاستراتيجي بين القاهرة والرياض.